انتهاكٌ لخصوصيّة الضحايا وذويهم، معلومات ناقصةٌ، أخبار وصور مُضلِّلةٌ فتحت الباب أمام انتشار الشائعات، كان هذا هو الطابع العام في تغطية الإعلام الأردني لغرق أردنيين- أغلبهم أطفال- في وادٍ قريب من البحر الميّت بعدما دهمتهم السيول. بالمقابل، حاولت الحكومة حجب المعلومات عن الصحافة، وقدّمت رواية لم تتح "إعادة صياغة رواية جديدة محبوكة ومتينة". أدَّى ذلك إلى ارتفاع وتيرة الشائعات بين المواطنين من جهة، والاستعانة بالتخمين، لا التقصّي والتحليل لتفسير الحادثة لدى الصحفيين من جهة أخرى.
سؤال "أين" يُغيّرُ مجرى القصة
بدأت المعلومات الأوليّة ترد غُرف الأخبار في وسائل الإعلام الأردنية مساء الخميس 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، أي بعد ساعاتٍ من وقوع الحادثة. تفاصيل المعلومات في الأخبار لم تكن واضحة للمُتابع؛ إذ لم تُشر أغلب التغطيات إلى المكان الذي وقعت فيه الحادثة، واستبدلت المكان بوصف عام وهو «في منطقة البحر الميّت».
أخذت وسائل إعلامٍ عربيّةٍ وأجنبيّةٍ بالتخمين والتخييل عن مكان وقوع الحادثة، أكَّد أحد هذه التغطيات أن "السيول جرفت بقسوة حافلة طلاب مدرسيّة لتلاميذ في المرحلة الابتدائيّة"، وأوردت تغطيةٌ أخرى لموقعٍ محليّ «انهيار عبَّارة ودَهْم المياه لطلاب مدرسة» أو انهيار جسرٍ قرب البحر الميّت تنزّه عليه الطلاب وانجرافهم، أو جسرٌ سبّب الكارثة، أو جرف سيول -ضربت المنطقة - حافلة مدرسية.
أدّى عدم ذكر مكان الحادث بدقة في وسائل الإعلام، إلى انتشار الشائعات والاتهامات لبعض المؤسسات الحكوميّة بالتقصير، اتُّهمت وزارة الأشغال العامّة بعدم صيانة الجسر، أو عدم تشييد الجسر بالشكل المطلوب، ما سبَّب انهياره وانجراف الطلّاب في السيل. وتبعا لذلك، انشغلت الحكومة بنفي المسؤوليّة عن مؤسساتها، بدلا من توفير المعلومات للصحافة حول مكان الحادث.
شاهدٌ يُغيّر القصة
مع مرور الساعات نحو اليوم الثاني (الجمعة 26 أكتوبر/ تشرين الأول) بدأت الأخبار شيئًا فشيئًا تضع مكان الحادثة في سياقه، بالاعتماد على روايةمعلمةٍ ناجية من الحادثة كانت تُرافق طلّاب الرحلة المدرسية.
اكتشفت وسائل الإعلام أنَّ السيل لم يجرف الحافلة، ولم يسقط الأطفال من فوق الجسر ويخطفهم السيل، إنما كانوا في سيرٍ عكس تيار مائي داخل أحد الأودية لمسافة تبعد من 2-3 ساعاتٍ مشيًا على الأقدام حين فاجأهم السيل وخطف أغلبهم، وفقا لرواية المُعلمة.
بعد اكتشاف خطأ التخمين الأوّل، ظهر التخمين الثاني: وجود تفريغ لأحد السدود غير مُعلن عنه سبَّب تدفق المياه في وادٍ وجرف الطلّاب الذين كانوا يسيرون عكس التيار.
عاودت الحكومة الأردنيّة نفي سبب الحادثة؛ وأكَّدت أنَّ "سد زرقاء ماعين يخزن مياه لأول مرة بعد إنشائه، ولا يوجد له أي بوابات" ليجري تفريغة.
مرّ اليوم الثالث (السبت 27 أكتوبر/ تشرين الأوّل) ولم تتوافر بعدُ، قصّة متكاملة عن مكان تواجد الأطفال الطلبة، هل كانوا كلهم من المدرسة؟ هل كانوا كلهم في مسير داخل الوادي؟ أم أنَّ جزءًا منهم كان في الوادي وآخر كان على الجسر؟ ثم هل كان الضحايا من الأطفال وحدهم؟ بسبب ذلك كلّه، كانت الإشاعات أو الأخطاء في التغطية تُعاود الظهور.
خرجت تغطيّة لفضائيّة أردنيّة (الثلاثاء30 أكتوبر/ تشرين الأوّل) وسردت القصّة وقدمت المكان بشكل واضحٍ ودقيقٍ بالاعتماد على تحركات الدفاع المدنيّ لـ"ستون ساعة حرجة"، لكن ركّزت التغطية على الحادثة وعلى تحرّك فرق الدفاع المدني تجاه الناجين من طلّاب المدرسة وكيف جرى إنقاذهم، دون أن يحظى المُتابع بخلفيات ما جرى وتفاصيل أخرى عن وجود ضحايا آخرين.
القصّة في التفاصيل
تركت أغلب وسائل الإعلام المحليّة التي انشغلت بالأخبار العاجلة، والسباق على النشر، الحادثة قبل مضيّ أسبوع على حدوثها، في حين ظهرت تقارير قليلة، لكن مشغولة بتأنٍ عن خلفيات الحادثة، ومكانها، والمسبب لها، وصوّب تقريرٌ واحدٌ على الأقل ما تجاهلته مئات الأخبار العاجلة التي نشرت.
شملت تغطية التقرير التركيز ليس على الضحايا من أطفال المدرسة وحسب، كما فعلت أغلب وسائل الإعلام، إنما تناول الضحايا الذين قضوا في الحادثة من متنزهين آخرين ومنقذين. كما وقدّم التقرير سيرةً لأهم الحوادث التي وقعت في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وبحث بشكلٍ جديّ عن مسؤولية الحادث، وحاول الإجابة على سؤال تحت من تقع سلطة المنطقة.
إلى الأمام، لا تراجع عن الأخطاء
وبالتدريج، وضّحت وسائل الإعلام المحليّة التفاصيل، وتداركت بعض المواقع نقص المعلومات في تغطياتها فأدرجت التعديلات، لكن أغلب التغطيات لم تعمد لوضع التعديلات بعد ظهور تفاصيل جديدة في الحادثة، وبقيت صور أطفالٍ يعيشون في الولايات المتحدة وفلسطين موجودةً على الأخبار كغرقى في الحادثة مثل صور الفنان الطفل زين أبو دقّة.
ومثل صور الأطفال، ما زالت الأخبار والتغطيات الأولى كما هي دون تعديل، رغم ظهور حقائق جديدة ومختلفة عمّا جرى تداوله في البداية. ليس في الإعلام المحليّ وحسب، إنما ظلّت هذه الأخبار غير الدقيقة، والإشاعات، دون تصويبات على وسائل إعلام عربيّة لحقت الإعلام المحليّ في أخطاء التغطية، أعادت بعض المؤسسات الإعلامية العربية قصة انجراف حافلة طلاب المدرسة!
الملك والحكومة قبل الضحايا
انشغلت وسائل الإعلام الرسميّة بمتابعة رد الفعل على الحادثة لا فعل الحادثة نفسه، وظهر ذلك جليًّا في نشرة منتصف ليلة الحادثة على التلفزيون الرسمي الأردني؛ حيث ركّزت النشرة على إلغاء الملك لزيارته المقرّرة للبحرين لمتابعة الحادثة، وتلقي الملك اتصال تعزية من ملك السعوديّة والرئيس المصري، ومُتابعة الأمير علي بن الحسين عمليات الإخلاء، ومُتابعة رئيس الوزراء جهود إنقاذ الطلبة، ومن ثم خبر تفقّد رئيس الوزراء لمصابي الحادث، وتقديمه العزاء لذوي الضحايا، وتصريح الناطق باسم الحكومة أنَّ رئيس الوزراء وجّه للتحقيق في الحادثة، وبعد ذلك كلّه جاء خبر الحادثة في النشرة: تمكّن الدفاع المدني من انتشال 18 وفاة و34 إصابة (هذه الإحصائيّة أوليّة، أُعلنت منتصف ليل الحادثة).
مشاعر ذوي الضحايا من أجل الانتشار
مضت أغلب وسائل الإعلام الخاصّة، قُدما بالتغطية، دون مُراعاة شعور ذوي الضحايا، وانتهكت أغلب وسائل الإعلام الأردنيّة في تغطيتها لـ"فاجعة البحر الميّت" خصوصيّة الضحايا وذويهم من خلال نشر صورٍ لهم وهم تحت الصدمة، كما وضعت بعضها عناوين غير أخلاقيّة لبعض التغطيات، بالإضافة إلى نشرها معلومات مضلّلة.
يقول محمد شمة، منسق منظمة صحفيون من أجل حقوق الإنسان في الأردن، إن "أغلب وسائل الإعلام، باستثناء القلّة، لم تلتزم بخصوصيّة ضحايا حادثة البحر الميت وعائلاتهم، لأجل الوصول إلى سبق صحفي، نشرت صور الضحايا، بالإضافة إلى إجرائها مقابلات مع ذوي الضحايا وهم تحت الصدمة".
بالمقابل، يؤكّد شمّة أنَّ الحكومة أيضا في هذه الحادثة انتهكت حق الحصول على المعلومات، وحجبت المعلومات.. يشرح شمّة: "لا يكون انتهاك حق الوصول للمعلومة أحيانا بحجبها بشكل مباشر، إنَّ عدم توفير الحكومة للمعلومات هو حجب بشكل أو بآخر، ويجعل الإعلام عرضة للاجتهاد والوقوع في الخطأ". ويضيف شمّة "إنّ غياب تغطيات استباقيّة لما حدث جعل هذه التغطيات يتيمةً وكأنَّها بلا آباء، ليس لدى الإعلاميين وحسب، إنما لدى المسؤولين في الدولة الذين بدت عليهم علامات الاندهاش مما جرى».
يقترح شمّة: «لو كان هناك تغطيات للمنطقة وما تعانيه البِنى التحتيّة فيها، أو تضمين لحركة السيول الموسميّة فيها، وما تسبّبه من الانهيارات لتوفرت خلفيات للتغطيات، ووفرّت للمتابعين معلومات أفضل ليعرفوا ما الذي جرى. لكن، لا يجري بالعادة، تناول هذه المناطق وما يجري فيها إلا إذا حدثت الفاجعة أو وقع فيها حدث ما».
دائرة ليس لها بداية ونهاية
التغطيات، التي لم توضح، بسبب نقص المعلومات، مكان الحادثة، ومسبّبها، وتفاصيلها، إضافةً إلى عدم وجود رواية رسميّة أوليّة عن تفاصيل الحادثة، سمحت لموجات إشاعات بالظهور على المواقع الإخباريّة ومنها إلى وسائل التواصل الاجتماعيّ. وبالعكس، اعتمدت الكثير من التغطيات على الإشاعات التي يجري تداولها في مواقع التواصل الاجتماعيّ.
بدت الكثير من الأخبار كأنها ضمن دائرة؛ تستقي المعلومات من مواقع التواصل الاجتماعيّ، وتذهب لغرف الأخبار، ليجري نشرها دون تحققٍ وتمحيص، ومن ثم يجري تداولها على مواقع التواصل الاجتماعيّ مرّةً أخرى.
أدركت الحكومة هذه الدوامة، فأصدرت قرارا يمنع النشر بالحادثة، الأمر الذي أثار استهجان صحفيين وحقوقين، فأعادت الحكومة توضيح قرار المنع وأنَّه يتعلّق بنشر "ما يثير النعرات ومنع نشر ما يسيء للمتوفين والمصابين وذويهم".
أبدت نقابة الصحفيين تحفظها على القرار، خوفًا من "تقييد كشف الخلل وعدم القدرة على تسليط الضوء عليه وخاصة على الصحفيين الذين من واجبهم أن يوضحوا الأمور ويكشفوا الخلل".
دفعت هذه الحالة أعلى رأس في هرم الدولة، الملك الأردني: أن يُوجه أمله لـ"منابر الإعلام كأحد روافع نظم تدفق المعلومات". في حين أنَّ الحكومة، المسؤولة عن تدفق المعلومات للصحفيين، لم تقدّم شيئًا ليجري نظمه، فاضطر أغلب الصحفيين لاعتماد نبع تدفقٍ آخر للمعلومات، وهو مواقع التواصل الاجتماعي.