شكّل فوز رجب طيب أردوغان بولاية ثانية على رأس الدولة التركية حدثاً عالمياً اهتمت به الكثير من وسائل الإعلام الدولية، خاصة وأن الأمر يتعلّق بأردوغان، الشخصية السياسية المثيرة للجدل وذات الشعبية الواسعة في العالمين العربي والإسلامي، ولأنه (أردوغان) أضحى في هذه الولاية الجديدة، يملك صلاحيات واسعة نقلت النظام السياسي للبلاد من البرلماني إلى الرئاسي، بعد الاستفتاء الدستوري الذي أجراه الأتراك عام 2016.
لكن الاهتمام الإعلامي في أوروبا بالرئيس التركي، ليس وليد الانتخابات الأخيرة، بل يعود لسنوات خلت، ووصلت التغطيات الأوروبية للشأن التركي حدّ التوتر الديبلوماسي بين أنقرة وبعض العواصم، ممّا يطرح الأسئلة حول أسباب هذا الاهتمام الإعلامي بالرئيس التركي، وهل يتعلّق الأمر بمجرد رجع لصدى شعبية السلطان العثماني الجديد، أم أن هناك عوامل أخرى؟
يبقى التأكيد بأن الدور الإقليمي لتركيا ونفوذها السياسي والاقتصادي يجعل الإعلام في أكثر من منطقة مهتما بها، ومن ذلك الإعلام الأوروبي، غير أن هذا الأخير يركز كثيراً على انتقاد أردوغان، ولو أن الطريقة تختلف عن طريقة الهجوم عليه من طرف إعلام بعض البلدان العربية التي دخلت في خصام في تركيا كالإمارات ومصر.
الإعلام الألماني وأردوغان.. الحرب متواصلة!
يهتم الإعلام الألماني كثيراً برجب طيب أردوغان لأسباب متعددة، منها: أن الجالية التركية هي الأكبر في ألمانيا، وأن ألمانيا تستضيف قيادات تركية معارضة كثيرة، خاصة الكردية، فضلاً عن التجاذب الواقع بين الدولتين حول رغبة أنقرة بالدخول إلى الاتحاد الأوروبي الذي تعدّ برلين أهم عواصمه. ويسود اتجاه واضح في الإعلام الألماني، يرّكز بشكل كبير على انتقاد أردوغان وتبيان مساوئه، خاصة ما يتعلّق بسجن الصحفيين وانتهاك حرية الرأي والتعبير.
أدت هذه الانتقادات الإعلامية الألمانية إلى حوادث سياسية أكثر من مرة، فقد سبق للسفارة الألمانية في أنقرة أن أغلقت أبوابها ليومين عام 2016 تخوّفاً من تعرّضها لهجمات، بعد نشر مجلة "دير شبيغل" لغلاف وضعت فيه صورة أردوغان، مرافقة لصورة مسجد تركي، تحوّلت صوامعه الصغيرة إلى ما يشبه صواريخ أُطلقت من مكانها، تحتها مباشرة عبارة "بلد يفقد حريته"، وقد احتجت تركيا رسمياً على هذا الغلاف.
لم تبق هذه الانتقادات حبيسة الإعلام المكتوب؛ فالإعلام الألماني المرئي بدوره هاجم أردوغان، ومن ذلك ما خلقته قصيدة الإعلامي الألماني، بان بومرمان، عندما ألقى عام 2016 قصيدة تسخر من أردوغان في قناة "ZDF" بشكل اعتبره مُراقبون" مُسيئا ومُهينا، وهو ما دفع الرئيس التركي إلى رفع دعوى ضد الإعلامي، وانتهت القضية بحكم قضائي يحظر بث جزءٍ من القصيدة، رغم أن محامي أردوغان حاول الدفع نحو قرار يحظر بث القصيدة بالكامل.
ووصل الغضب التركي حدّ إعلان أردوغان اعتزامه مقاضاة المجموعة الألمانية "أكس سبرينغر" بعد نشر مقالٍ في جريدة "دي فيلت"، يدعم صاحب القصيدة الساخرة. وتوترت نظرة أردوغان أكثر بهذه المؤسسة الإعلامية إثر نشرها عام 2017 مقالاً يُشبِّه داعمي أردوغان في ألمانيا بداعمي هتلر خلال الثلاثينيات.
أما القصة الثانية، فتخصّ أغنية بعنوان "أردوي أردوو أردوغان" بثها تلفزيون "NDR" في برنامج "أكسترا 3" خلال عام 2016، وهي أغنية تسخر من أردوغان وسياساته. ورغم أن السلطات التركية احتجت رسمياً لدى نظيرتها الألمانية، إلّا أن الحكومة الألمانية ردت بالقول إن حرية الصحافة غير مطروحة للنقاش في البلد. كما قرّر تلفزيون "NDR" إعادة بث الأغنية بالترجمة التركية لمزيد من استفزاز أردوغان، فيما باءت جميع محاولات تركيا بحذف الأغنية من موقع "يوتيوب" بالفشل.
أمثلة أخرى من فرنسا وبريطانيا
لا يختلف الحال كثيراً في فرنسا عن ألمانيا، وإن كانت اللهجة أقل حدة، بما أن الاهتمام الفرنسي بتركيا ليس كمثيله في ألمانيا. أكبر مثال فرنسي ظهر في مجلة "لوبوان" الذي وصفت أردوغان بالديكتاتور في أحد أعدادها، ما أدى إلى سخط بين عدد من المتعاطفين مع الرئيس التركي داخل فرنسا، وصل حدّ قيام مجموعة منهم بالضغط على صاحب محل لبيع الجرائد بحذف ملصق العدد المثير للجدل، الأمر الذي انتقدته السلطات الفرنسية على أعلى مستوى.
كما خصصت مجلة "ليكسبريس" أكثر من عدد لانتقاد أردوغان، كعددها الذي حمل ملفاً بعنوان: "أردوغان يهدّد أوروبا"، جاء فيه أن "أردوغان يحكم كل شيء في تركيا، لدرجة أنه يتدخل في حياة النساء بالشكل الذي يتدخل فيه في السياسة المالية للبنك المركزي"، كما نشرت مجلة "فالور أكتييل" غلافا بعنوان "أردوغان.. الرجل الذي يريد أسلمة أوروبا".
وفي بريطانيا، توجِّه العديد من اليوميات والمجلات الأسبوعية مدافع انتقاداتها لأردوغان، وقد أوردت جريدة الغارديان في افتتاحية لها، مباشرة بعد فوز الرئيس التركي بولاية ثانية، أن هذا الأخير، وبعدما "صار هو حزب العدالة والتنمية، يحاول حالياً أن يكون هو الدولة ككل، ممّا يعدّ تطورا مثيراً للقلق". أما روبرت فيسك، الكاتب المعروف في الإندبندنت، فقد كتب ذات مرة أن الانقلاب في تركيا سينجح يوماً ما بسبب سياسات أردوغان الداخلية والخارجية.
لماذا كلّ هذا الهجوم على أردوغان؟
ينظر جزء واسع من الإعلام الأوروبي إلى أردوغان كمعادٍ لحرية الصحافة، خاصة مع الاعتقالات الواسعة التي يعرفها هذا القطاع داخل البلد منذ محاولة الانقلاب الفاشل، إذ تصف منظمة مراسلون بلا حدود تركيا بأكبر سجن للصحفيين عبر العالم، ما جعل هذه الأخيرة تتبوأ مركزاَ جد متدنٍ في الترتيب العالمي (157)، بينما تضع منظمة فريدوم هاوس تركيا في قائمة البلدان "غير الحرة على الإطلاق". والملاحظ أن الإعلام الأوروبي ينظر إلى تركيا كبلد أوروبي لا يُعقل أن يشهد مثل هذه الظواهر التي تضرب حرية الصحافة، بينما يجد الإعلام ذاته مبرّرات لرفض دخول أنقرة إلى الاتحاد القاري، ويدافع ويل جور، من يومية الإندبندنت، عن انتقاد الإعلام الغربي لأردوغان، إذ يكتب في مقال له؛ إن تحكم أردوغان في تركيا جعل من الصعب على الصحافة التركية أن تنتقده، في ظل ضعف المعارضة المحلية وغياب أيّ ضغط من البلدان الغربية التي ترى في أنقرة حليفاً لها. لذلك، وحسب ويل جور، فدور الإعلام الغربي مهم هنا. ويتحدث الصحفي عن أن انتقاد أردوغان لا يعني شجباً للإسلام، ولا يعني وجود مؤامرة ضد حكومة منتخبة ديمقراطياً، بل هو "انتصار لحرية التعبير غير المسموح بها في تركيا، وهو نقل للحقائق بدل الدعاية، وتسمية الأشياء بمسمياتها، ومن ذلك أن أردوغان يريد أن يكون ملكاً".
كما تسود نظرة داخل الإعلام الأوروبي مفادها أن أردوغان يحاول إخراج تركيا من ردائها العلماني وإدخالها في جلباب إسلامي، وهو ما سيكون له أثر سيء على الحريات الفردية، حسب رأي الإعلام الأوروبي. ويعدّ هذا السبب من الجوانب الخفية التي تحول دون دخول تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، فهناك حرص من بعض الدول الأوروبية على الحفاظ على مسيحية الاتحاد باعتبارها عامل تجانس، رغم أن القادة الأوروبيين يبتعدون تماماً، في التصريحات العلنية، عن استحضار العامل الديني، ويركزون على العوامل السياسية والاقتصادية في الحديث عن قوة اتحادهم.
ويستحضر الإعلام الأوروبي أسباباً سياسية أخرى داخلية في انتقاداته لأردوغان، منها مزاعم تدخله في المؤسستين القضائية والتشريعية، وإطلاقه حملة تطهير واسعة ضد كل من يشتبه في تعاطفه أو انتمائه لجماعة فتح الله غولن، إذ سُرِّح الآلاف من وظائفهم وسُجِن الآلاف. كما يسود انتقاد كبير للتدخل العسكري التركي في سوريا والعراق، ومن ذلك الحملة العسكرية ضد المسلّحين الأكراد في شمال سوريا.
هل يظلم الإعلام الأوروبي أردوغان؟
يتغافل الإعلام الأوروبي عن أمر مهم داخل تركيا، وهو أن أردوغان يملك حقاً شعبية واسعة بين المواطنين، وما يعكس ذلك هو فوزه في جميع الانتخابات التي شارك فيها منذ عام 2002 بغض النظر عن الملاحظات التي مسّت العملية الانتخابية، إذ لم تصل انتقادات المراقبين الدوليين لآخر انتخابات رئاسية حدّ الطعن في نتيجتها النهائية. كما أن ما يعكس شعبية أردوغان الطريقة التي خرج بها جزء كبير من المواطنين الأتراك لأجل رفض محاولة الانقلاب، رغم أن ذلك كلف العشرات منهم القتل برصاص الانقلابيين.
وكما أوردت ذلك سمية الغنوشي، الخبيرة في قضايا الشرق الأوسط في مقال لها، فانتقاد محاولة الانقلاب الفاشلة التي كانت ستمهد لحكم عسكري لتركيا، كان بارداً في أكثر من مؤسسة إعلامية غربية، بل هناك مقالات التمست الأعذار لمنفذي محاولة الانقلاب، رغم أن المفروض في هذه الحالة، الثبات على مبدأ راسخ هو رفض الأنظمة العسكرية. ويعترف ويل جور في مقاله المذكور آنفاً أنه توصل غداة محاولة الانقلاب ببريد إلكتروني يوضح كيف فشل الصحفيون البريطانيون في إعلان تنديد واضح بما وقع، لأنهم اختلفوا كثيراً حول طريقة إدارة أردوغان لتركيا.
كما أن البحث عن مواضيع تخصّ تركيا في مواقع جلّ وسائل الإعلام الأوروبية المعروفة يُظهر تركيزا على السلبيات، ومن ذلك تغطية كلّ ما يتعلق بانهيار الليرة التركية والصعوبات التي عاناها الاقتصاد التركي هذا العام، وقليلاً جداً ما يتم استحضار الإنجازات الاقتصادية الكبيرة التي حققتها الدولة التركية في عهد أردوغان، ومن ذلك ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي أكثر من ثلاث مرات، وتطوّر بنيات الاستقبال في تركيا التي غدت إحدى أفضل بلدان العالم جذباً للسياح.
وتقول الغنوشي:" المفارقة أنه لم يُشيطن أيّ زعيم في الشرق الأوسط من قبل الإعلام الغربي كما يحدث مع أردوغان، بينما هذا الأخير هو واحد من رؤساء الدول القليلين الذين انتُخبوا بشكل ديمقراطي في هذا الجزء من العالم". وتربط الغنوشي بين التغطيات الإعلامية الغربية وبين سياسات هذه الدول حتى تخلص إلى أن الغرب لا يهتم للديمقراطية ولا لحقوق الإنسان، ويعتبر مثل هذه المواضيع غير ذات صلة عندما يتعلّق الأمر بأصدقائه وحلفائه، بينما تُستدعى عندما يخصّ الأمر خصوم الغرب، متحدثة أن الهجوم على أردوغان يعود لرفض هذا الأخير الانحناء لتعليمات الغرب.
بعيداً عن "تقديس" أردوغان
في الجانب الآخر، سيكون من الإجحاف الحديث عن أن أردوغان هو الزعيم الإسلامي الوحيد الذي يتعرّض لنيران الإعلام الأوروبي، فمقالات "دير شبيغل" و"لوموند" و"الغارديان" انتقدت كثيراً ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وركزت كثيراً على السعودية بالنظر إلى مشاريع بن سلمان التي تبتغي تغييرا اقتصاديا واجتماعيا بالبلاد، والأمر ذاته يصدق على جلّ الدول العربية والإسلامية المؤثرة إقليميا، ويصدق كذلك على الأنظمة السياسية الغربية، فأنجيلا ميركل تتعرّض بشكل شبه يومي لقصف إعلامي داخل بلدها، بينما وصل انتقاد دونالد ترامب حدّ كتابة نيويورك تايمز أنه مسح بسمعة أميركا الأرض.
ختاما، يبقى صحيحاً أن انتقاد أردوغان داخل الإعلام الغربي يحظى بحصة الأسد لعوامل كثيرة سبق ذكرها، لكن في الآن ذاته، هناك تضخيم في المواقع الاجتماعية حول وجود مؤامرة إعلامية غربية ضد أردوغان، خاصة مع بحث مستخدمي الإإنترنت في المنطقة الإسلامية عن زعيم قوي مثل أردوغان في ظل حالة التشظي التي تشهده المنطقة، لذلك يُبالغ أحيانا في تعديد مناقب أردوغان والتعامل مع كلّ رأي ينتقده بمنطق المؤامرة، بل وهناك من لا يجد غضاضة في التماس الأعذار لاعتقال الصحفيين في تركيا، بينما يعتبر وقوع ذلك في بلاده مؤشراً خطيراً على تراجع الحريات.