إذا كنت صحفيا تغطي احتجاجات "السترات الصفراء" في شارع الشانزليزيه في باريس، فستواجه سؤالا متكررا من قبل عدد من المحتجين: لصالح أية وسيلة إعلامية تعمل؟ عليك ألا تتسرع في الإجابة، فجوابك سيكون محددا لسلوك المحتجين فيما بعد بين الترحيب أو العداء. وأسوأ جواب يمكن أن تقدمه هو أنك تعمل لصالح قناة "بي إف إم" BFM الإخبارية الفرنسية، فبمجرد ذكر اسمها ستواجه على الأرجح سيلا من الاتهامات وربما الشتائم، وقد يصل الأمر حد الاعتداء الجسدي. وهذا الأمر ليس من باب الافتراضات بل حدث بالفعل مرات كثيرة.
لا يتعلق الأمر بحالات معزولة، بل بوضع عام دفع بعض المؤسسات الإعلامية إلى الاستعانة في تغطية الأحداث بطاقم حراسة مكتمل لحماية صحفييها من الاعتداءات التي قد تطالهم، فالمحتجون غاضبون جدا من الأداء الإعلامي الفرنسي خاصة منه التلفزيوني تجاه حراكهم، وهو غضب يتردد صداه بكل قوة في صفحات التواصل الاجتماعي القريبة من الحراك حيث تُنعت وسائل الإعلام بكل النعوت القدحية، فهي "كاذبة ومضللة وخاضعة للسلطة ولأصحاب النفوذ، ومرتبطة عضويا ب "الطبقة المهيمنة" سياسيا واقتصاديا، وتنزع الشرعية عن مطالب المحتجين، وتصورهم بطريقة كاريكاتورية، أما الصحفيون، فهم مجرد "كلاب حراسة" لمن يدفع أكثر، وولاؤهم لمشغليهم أكثر من ولائهم للحقيقة، والمهمة التي أوكلت إليهم هي تشويه هذا الحراك والنيل من مناضليه".
إن هذه الصورة المرسومة للصحفيين في أوساط داعمي الحراك، ليست مجرد موقف عابر، بل تمثل جزءا من "العقيدة الاحتجاجية" لهذا الحراك القائم على خطاب المظلومية والإقصاء، رغم الخلافات الفكرية التي تعتمل داخله، وهي صورة تحظى برعاية وتأييد زعامات سياسية داعمة للحراك، كما هو الحال بالنسبة لجان لوك ميلونشون، زعيم حزب "فرنسا غير الخاضعة" من أقصى اليسار الذي صرح بأن "العدو الأول لحرية التعبير هي الصحافة". وهو رأي يجد سنده في موقف شعبي عام لا يثق بوسائل الإعلام وفقا لاستطلاعات الرأي المتنوعة، (آخرها أعلن أن نصف الفرنسيين فقط يمنحون ثقتهم للإعلام).
وإذا كانت هذه المواقف من الصحافة ليست طارئة، بدليل الموقف الجماعي من الصحفي الذي يتسم بغياب الثقة، فإن لحظات التوتر والغضب الاجتماعي التي تستعيد فيها الحشود " La foule" الكلمة، تمثل أيضا لحظة لـ"تحرير الكلام" واحتلال الفضاء العام بمفهوم هابرماس، سواء منه المادي المتمثل في الشارع، أو الافتراضي المتمثل بوسائل التواصل الاجتماعي. وفي هذه اللحظات لا تكتفي "الجماهير" أو "الحشود" بترديد هذه الأحكام في الفضاء الخاص، أو جزئيا في الفضاء العام، بل تسعى إلى تحويلها إلى حكم جماعي ملزم يتم يُنفَّذُ في الشارع (منع الصحفيين من التصوير أو الاعتداء عليهم) والترويج له بشكل مكثف عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي تمثل بديلا افتراضيا للفضاء العام المادي.
لكن ما الذي حدث حتى ساءت العلاقة إلى هذا الحد بين المحتجين ووسائل الإعلام؟
تجدر الإشارة بدءا إلى حدثين اثنين كثيرا ما يُستشهدُ بهما في أوساط المحتجين، للتدليل على عدم صدقية وسائل الإعلام في التعامل مع حراكهم: أصدرتمنظمة العفو الدولية يوم 14 ديسمبر/كانون الأول 2018 بيانا تدعو فيه إلى "وضع حد للاستعمال المفرط للقوة ضد التلاميذ والمحتجين" على خلفية تظاهرات السترات الصفراء. لكن هذا البيان لم يجد صدى كبيرا في قاعات التحرير، إذ لم يُنشر في وسائل الإعلام على نطاق واسع، أو على الأقل هذا ما اقتنع به محتجو السترات الصفراء، وعبروا عنه في صفحاتهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ورأوا فيه دليلا على وقوف وسائل الإعلام وخاصة منها التلفزيونية مع الأطروحة الحكومية.
الحدث الثاني كان فاضحا لا يحتمل أي تأويل: وكالة الأنباء الفرنسية التقطت صورة لمتظاهر يحمل لافتة كتب عليها: "ماكرون ارحل"، اللافتة ستظهر على نشرة قناة فرنسا 3 وقد كتب عليها " ماكرون" فقط. أما كلمة "ارحل" فقد تكفلت بها "مقص الرقيب". وهذا الحادث تحول في فرنسا إلى فضيحة استدعت تدخل مجلس الأعلى للسمعي البصري، فاعتذرت القناة وعزت ما حدث إلى "خطأ بشري" دون تفاصيل إضافية.
هذان الحدثان ربما يمثلان الجزء الظاهر من جبل الجليد في التوتر الذي يسم العلاقة بين المحتجين والإعلام. لكن لتحليل أدق وجبت العودة إلى بداية هذا الحراك والمواكبة الإعلامية التي رافقته. وهنا سيكون بإمكاننا التمييز بين ثلاث مراحل ميزت الخطاب الإعلامي الفرنسي في تعامله مع الاحتجاجات: مرحلة "التعالي"، ثم "التخويف" ثم مرحلة الاعتراف والبحث عن حل.
خطاب إعلامي "متعال".. سوء تقدير قوة الحراك
وُلدت الحركة على صفحات الفيسبوك في الأسبوع الأول من نوفمبر/تشرين الثاني مع دعوات مطالبة بالخروج إلى الشارع للتظاهر احتجاجا على الضريبة التي تعتزم الحكومة فرضها على المحروقات، بما سيؤدي بشكل تلقائي الى رفع أسعارها. واختيار السترات الصفراء شعارا للاحتجاج جاء إشارة إلى السترة التي يجب على السائق أن يلبسها في حال وقوع عطب في سيارته في الطريق.
لم تأخذ السلطة هذه الدعوات على محمل الجد، ولم يولها الإعلام أي اهتمام. فكل التوقعات كانت تشير إلى أنها دعوة محكوم عليها بالفشل مادام الأمر يتعلق بأشخاص مجهولين لا انتماء سياسي معروف لهم ولا سندا شعبي ولا مالي يقف وراءهم. لكن المفاجأة كانت في السابع عشر من نوفمبر/تشرين الأول، مع تنفيذ الحركة لأولى التحركات الميدانية: لقد تبين أن الأمر جد لا هزل. يومها نزل المحتجون في مدن فرنسية كثيرة، وأغلقوا عددا من الطرق، وأوقفوا حركة السير في كثير من المدارات، وبدا أن الحركة التي ولدت على صفحات التواصل الاجتماعي تتجه لتأخذ زخما أكبر خاصة مع استطلاعات الرأي التي صدرت مؤكدة أن أكثر من ثلاثة أرباع الفرنسيين يؤيدون مطالب هذه الحركة.
وسائل الإعلام الفرنسية وخاصة منها التلفزية، وفي مقدمتها القناة الأشهرBFM ، لم يكن حالها أفضل من السياسيين، إذ تعاملت طيلة الأسبوع الأول مع هذا الحراك دونما اهتمام كبير، بل إن الوجوه المعروفة في هذا الحراك طالما اتهمت وسائل الإعلام باعتماد معالجة إعلامية "متعالية" يتم فيها الحديث عن الحراك في هذه المرحلة باعتباره مجهول الهوية، ضعيف الأثر ومحدود المدى في الزمان والمكان، بالإضافة إلى التصوير الكاريكاتوري للحراك، فـ "وجوهه غير معروفة ومطالبه خيالية غير قابلة للتحقيق ووسائل احتجاجه غير قانونية".
خطاب التخويف
لكن جاء الرابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني. وكانت الدعوة للنزول إلى باريس، وتحديدا إلى قصر الإليزيه لإجبار الرئيس الذي لم يكن قد تحدث بعد على إعلان موقفه. وشهدت باريس أعمال عنف غير مسبوقة، وتحول شارع الشانزليزيه إلى ساحة كر وفر بين المحتجين وعناصر الشرطة، وبدا أن الجميع أساء تقدير قوة الحراك وتجذر مطالبه في الشارع وقدرته على فرض إيقاعه. وهنا وقع التحول، سياسيا وإعلاميا. سياسيا، تم الاعتراف بأن أزمة خانقة تعصف بالبلد. وإعلاميا، تغير الخطاب إلى وصف الحراك باعتباره حراكا "فوضويا، لا تأطير سياسي له"، إلى الحديث عن مخاوف من خروج الوضع عن السيطرة. أي حدث التحول من خطاب "التعالي" إلى خطاب التخويف. لقد تأكد بأن الحراك ليس مجرد غضب عابر، ولكنه تعبير عن غضب يعتمل لدى الفرنسيين منذ عقود، كما اعترف بذلك الرئيس الفرنسي نفسه في الخطاب الذي سيلقيه بعد ذلك.
خطاب التخويف اعتمد أمنيا على مشاهد المواجهات غير المسبوقة في الشوارع والسيارات المحترقة والمتاجر المنهوبة، واقتصاديا على مشاهد أبواب المحلات المغلقة وشكاوى التجار في وقت يشهد ذروة التسوق في فرنسا، وسياسيا على التحذير من ركوب أقصى اليمين وأقصى اليسار على هذه الأحداث بغية تغيير شكل الدولة.
لكن خطاب التخويف رافقه هذه المرة استماع لآراء أصحاب السترات الصفراء، الذين غدوا حاضرين في كل الاستوديوهات، وأصبحت تصريحاتهم يستشهد بها وتؤخذ على محمل الجد: لقد تمكنوا من انتزاع مكانهم في الفضاء العام، في الميدان وعلى الشاشات. خطاب التخويف هذا الذي استمر لأسبوع كامل ما بين الأول من ديسمبر/كانون الأول إلى السابع منه، سيصل ذروته ليلة السبت الثامن من ديسمبر/كانون الأول؛ فقد حذر الإليزيه من عنف شديد يحيق بالبلد، ونشرت وزارة الداخلية نحو تسعين ألفا من عناصر الأمن في كل أنحاء فرنسا، 8000 منهم في باريس، وأعلن عن نزول المدرعات لأول مرة إلى الشوارع منذ أحداث الضواحي عام 2005. والتغطية الإعلامية كانت مفتوحة على مدار الساعة بموضوع واحد: كيف ستقضي فرنسا عامة وباريس خاصة سبتها ذاك؟ العناوين سواء في الصحافة المكتوبة أو التلفزيونية أو الإذاعية كانت تدور حول فكرة واحدة وإن بصيغ مختلفة: سبت مفتوح على كل المخاطر.
دور "مستشار الأمير" أو "صحافة الحلول"
مر السبت، وكان عنيفا لكن بدرجة أقل مما توقع الجميع. وتبين أن التخويف الإعلامي كان مبالغا فيه، لينتقل الخطاب الإعلامي الفرنسي إلى مرحلة جديدة يمكن وصفها بدور " مستشار الأمير" أو "تقديم الحلول". في كل البرامج والتحليلات، كان السؤال الذي يتردد في كل وسائل الإعلام كيف السبيل إلى الخروج من هذه الأزمة؟ واستدعي "الخبراء" و"المحللون" لتقديم مواقفهم، وجلهم كانوا يقدمون وصفات لحل الأزمة، كل حسب منطلقاته الفكرية والسياسية والإيديولوجية. لكن ما ميز هذه المرحلة هو اعتراف إعلامي وسياسي لا مواربة فيه بأن البلد يعيش أزمة سياسية كبيرة، وأن هذه الأزمة تحتاج إلى حل جذري، وأن الخطوة الأولى تتمثل في الحوار. هذه المرحلة التي يمكن وصفها بـ"صحافة الحلول" أصبحت وسائل الإعلام تقوم بما يمكن وصفه بدور "منظم الحوار الاجتماعي" من خلال البرامج الحوارية التي تجمع ممثلي السترات الصفراء وممثلي الحكومة، وهي على هذا المستوى بدأت تعوض غياب الأحزاب السياسية والنقابات التي بدت عاجزة عن القيام بأي دور في المرحلة الراهنة بسبب تراجع منسوب الثقة فيها.
وهنا بدأنا نلاحظ على مستوى الشكل وجوها لم تكن تؤثث الفضاء الإعلامي، ولا تظهر عادة في البلاتوهات: وجوه من هامش المجتمع الفرنسي، ممن لم يكن يؤبه لهم في وسائل الإعلام ولا يستدعون للتعليق على الأحداث الكبرى، ما جعل الكاتب الفرنسي إدوارد لوي يقول إن "الذين يسبون هذه الحركة إنما يسبون أبي". معترفا بنشأته في وسط اجتماعي شبيه بالذي تمثله حركة السترات الصفراء.
ارتفاع في نسب المشاهدة وانخفاض في منسوب الثقة
الآن وقد فرضت حركة السترات الصفراء نفسها في المشهد الإعلامي، فهذا لا يعني أن الثقة قد عادت، بل إن "الطلاق" الذي حدث بين الفريقين يتعمق أكثر فأكثر، وهو أمر لا يبدو نشازا في تاريخ الحركات الاحتجاجية الفرنسية، بل تكررت في مختلف الأزمات السياسية التي عاشتها فرنسا في تاريخها الحديث. نتذكر هنا الأزمة السياسية التي وسمت عام 1995 خلال الإصلاحات التي قام بها رئيس الوزراء آنذاك آلان جوبي، إذ في الوقت الذي استقبلت فيه الافتتاحيات هذه الإصلاحات بارتياح كان الشارع يغلي، وحدث قبل ذلك في أحداث الضواحي 2005 حيث كان المحتجون القادمون من مدن الهامش في فرنسا يتعاملون مع الصحفيين على أنهم يمثلون "البرانية الاجتماعية" أي أنهم ينتمون إلى أوساط اجتماعية مختلفة قريبة من الأوساط المحظوظة والمتواطئة مع السلطة.
الواضح أن التوتر وسوء الفهم هذا ليس جديدا ـإذ أن العلاقة بين الفرنسيين ووسائل إعلامهم تشبه إلى حد كبير علاقتهم بسياسييهم: لا يستغنون عنهم ولا يثقون بهم. ولعل هذا الأمر تشير إليه استطلاعات الرأي التي تؤكد أن القنوات الإخبارية الفرنسية وخاصة منها BFM حققت خلال حراك السترات الصفراء ارتفاعا كبيرا في نسب المشاهدة، إذ أنها لأول مرة ستنافس قناة فرنسا 3، وهي قناة منوعة لكن ارتفاع نسب المشاهدة رافقه انخفاض في منسوب الثقة.
الفيسبوك وبقية وسائل التواصل الاجتماعي: البديل الإعلامي
من المعلوم أن هذه الحركة، مثلها مثل بقية الحركات الاحتجاجية التي عرفها العالم خلال العقد الأخير ولدت على صفحات الفيسبوك، بل إن استمرارها وتطورها لم يتم خارج الشبكة الإلكترونية، فقد تم إحصاء أكثر من 1500 صفحة تابعة للحراك دون الحديث عن الحسابات التي يديرها الأفراد الذين يشاركون في الاحتجاجات. ولعل هذا الأمر مكن أنصار الحركة من تجاوز نموذج الإعلام التقليدي "العمودي" وإرساء نموذجهم الإعلامي الخاص بهم القائم على التفاعل والتقاسم "الأفقي"، وهذا الأمر جعل من وسائل التواصل الاجتماعي تتحول إلى حاضنة "للسلطة الشعبية" التي يدافع عنها الحراك، حيث الجميع سواسية أمام تلقي المعلومة ونشرها في مقابل "السلطة التمثيلية" التي يمثلها الإعلام التقليدي الذي يملك فيه الصحفيون الحق في انتقاء المعلومات التي يمكن نشرها. وهذا الأمر كان من نتائجه صناعة ما يمكن وصفها بـ" الحقائق البديلة" خارج النسق الإعلامي التقليدي، وهي قائمة على التعبئة والدعوة إلى الاحتجاج وتغيير سقف المطالب من "تخفيض الضرائب" إلى "تعديل الدستور وإقرار ديمقراطية شعبية عوضا عن الديمقراطية التمثيلية".
لكن في طيات هذا "الحراك الافتراضي" الذي يوازي ويدفع بالحراك الميداني على الأرض، طرحت أسئلة كثيرة حول سيرورة التفاعلات وما إذا كانت بالفعل تتم بشكل عفوي تلقائي أم أن ثمة جهات تحركها، وهنا كانت أصابع الاتهام، من قبل السلطة والمحللين، توجه إلى طرفين: أقصى اليمين في الداخل وروسيا من الخارج. وإذا كان من غير الممكن وفق المعطيات الحالية الجزم بتدخل إعلامي خارجي، فإن وسائل الإعلام الفرنسية عجت بالإحصاءات التي تتحدث عن حوالي 600 حساب على تويتر يروج لإشاعات وأخبار مختلقة مصدره روسيا وجمهورياتها. وهو اتهام ليس جديدا بل طالما وُجِّه لروسيا في كل الاستحقاقات السياسية التي شهدتها أوروبا والولايات المتحدة خلال الأعوام الأخيرة.
لكن بعض النظر عن حدود هذا التدخل وأثره، فالمؤكد أن الحراك الذي أوجد جذورَه إحساس عميق بالتهميش والفوارق الاجتماعية، وجد في وسائل التواصل الاجتماعي أداته لإعلاء صوته وفرض إيقاعه في الإعلام وفي الميدان.