مِن "سُمع" و"شوهِد" دخان آتٍ من الداخل السوري؛ إلى "سمعتُ" وشاهدت" قذائف تتساقط فوق رؤوسنا.. مِن "أقف على الحدود السورية وأرى دخانًا من الجهة الأخرى"، إلى "أقف بين جثامين هؤلاء الأطفال وأراهم موتى كأنهم نيام". من مراسل تلقّى خبرات كافية وامتلك بطاقة صحفيّة مكنته من التصوير في الأماكن العامة؛ بمعدات متطورة تُجمَع بها المعلومات من أجل تقرير خطّط له مسبقًا ضمن قالب تحريري تمليه المحطة على صحفييها، إلى مواطن عادي شهد حدثًا هامًا وتطوع باستعمال هاتفه الذكي أو كاميرته الصغيرة كي يخبر أشخاصا آخرين عن الأحداث التي تحدث قربه.
استغلّ هؤلاء الشبان نموّ وسائل التكنولوجيا الجديدة التي سمحت لأي مواطن بالكتابة والتصوير وتوزيع المحتوى عبر وسائل التواصل، وكسروا القاعدة العامة التي ارتكزت عليها معظم التغطيات الصحفية التقليدية بعد اختفاء الصحفيين. وظن الصحفيون أنفسهم أن ظاهرة الصحفي المواطن ما هي إلا أيام معدودات يتصدر فيها هواةٌ المشهد ثم سرعان ما تندثر بعد عودة الأمور إلى طبيعتها، ويعود معها الصحفيون إلى دائرة الضوء مع انتهاء موجة الاحتجاجات.. لكن زمن الحرب هنا طال في سوريا، وتوسعت قدرات المواطن الصحفي ليكون موظفا رسميا ونجما معروفا في محطات تلفزيونية عديدة.
ياسر كان واحدا من المواطنين الذين شنوا انقلابا على الصحافة التقليدية، إذ اشتهر بحضوره على شاشات المحطات العربية والمحلية وهو ينقل الحدث لحظة وقوعه.. شهد ياسر مجزرة السلاح الكيميائي الأخيرة في دوما بريف دمشق، وظهر على الشاشة وحده، يصور بيد ويشعل الإنارة بيد أخرى، ليرصد أعداد جثث الأطفال المقتولين بالغاز السام الذي أطلِق على مدينته.
عقود بلا ضمانات
بدأ ياسر كناشط يصور بثا مباشرا للمظاهرات، ثم تلقّى عروضا من قنوات عديدة ليكون مراسلا متعاونا ويتقاضى أجرا ماليا على التغطية.. قُصفَ مقره أكثر من مرة واضطر مرات عدة إلى تجهيز مقر جديد من راتبه الشهري دون أي ضمانات من المحطات التي يعمل فيها.. تملكته مخاوف من إصابة وشيكة الوقوع تمنعه من العمل في ظروف الحصار التي أحوج ما يكون فيها المدني إلى العمل وتوفير الحماية له عبر اسم المحطة ليكمل مهمته.
في مشهد آخر يحضر "ه.م" الذي كان من أوائل الذين التحقوا كمراسلين بقناة محلية، صوّر فيها مئات التقارير الصحفية قرب دمشق، وكان يعمل بمثابة مساعد محلي ومصور لأي فريق صحفي يدخل إلى منطقته قبل الحصار، ويوفر لهم العديد من الموضوعات ليعملوا عليها.
اختفى "ه.م" في ظروف غامضة تناقلت خلالها مواقع التواصل الاجتماعي أخبارا عن إجرائه تسوية مع النظام السوري، إلا أن المحطة التي يعمل فيها تصرفت مع هذا الخبر كما تصرف آلاف المواطنين السوريين، إذ تجنبت التعامل مع كل ما يتصل بهذا الشأن، ولم تسعَ إلى معرفة الظروف التي اختفى فيها صوت "ه.م" مع صدور تلك الأخبار والشائعات، ودون أن تتقصّى أو تذيع خبرا واحدًا من شأنه أن يوضّح الأمر الملتبس على الجمهور، بينما ما لم تسعَ أي منظمة أو نقابة للبحث عن مصيره وعن مصدر الأخبار التي تم تناقلها عنه. أما عقد الاتفاق الذي وقعه الشاب مع القناة فهو منذ البداية لا يلزم المؤسسة بأي مسؤولية مستقبلية لكون المراسل مجرد متعاون معها.
شبان كثيرون دفعهم شغفهم وحسهم الصحفي لنقل الأحداث الميدانية من داخل مدنهم المحاصرة.. لجأت إليهم محطات كبرى ليكونوا فيها منبرا إخباريا. يقول أحد الصحفيين السوريين إن موقف الصحفي نفسه يختلف حين يتحدث إلى القناة عبر منصات التواصل الاجتماعي من منطقة محاصرة، وحين يذهب إلى مقر القناة أو مكاتبها في الدول المستقرة ليمضي هناك عقدا واضح المعالم يتضمن ضمانات على حياته إذا ما همّ بالتغطية في مناطق الحروب، كما يتقاضى أضعاف ما يتقاضاه المواطن الصحفي الذي يبقى مع القناة مجرد متعاون لا تلتزم إزاءه بأي مسؤولية.
غافلون عن حقوقهم
يشير الصحفي السوري "ك.ن" إلى أن انخفاض الأجر الذي يعمل به المواطن الصحفي دفع عشرات المحطات للاستفادة من رسالته وحاجته، لافتا إلى غياب المنظمات الصحفية التي تعترف به كصحفي وتطالب به إن تعرضت حياته للخطر، فيبقى كسائر المواطنين والمدنيين العاديين يموتون مجرد أرقام، وهذا ما شاهدناه على مرور سنوات في سوريا.
المؤسسة نفسها أصبحت تعتبر المواطن الصحفي مجرد آلة تزخر بالصور والأخبار، وتنتقده في الوقت عينه فهي تعتبره غير مؤهل مهنيًا للتحليل والبحث العميق في العديد من القضايا المرصودة، بدل أن تقدم له خبرة تنقله من هاوٍ إلى محترف، فقد ترك عشرات الصحفيين المواطنين نقل الأحداث ومجال الصحافة بعد تهجيرهم من بلداتهم وقصدهم البحار بحثًا عن حياة كريمة قد تتاح لهم؛ بعد تخلي مؤسساتهم عنهم عند انتهاء دورهم الصحفي في مدنهم.
في حادثة أخرى يسترشد بها "م.ح" عن قناة محلية في تركيا، كان يشغل بها نحو ثلاثين صحفيًا سوريًا دون عقود رسمية لأسباب عديدة، ليس أولها عدم الوعي لدى أغلب الذين امتهنوا الصحافة في الحرب غافلين عن حقوقهم، وليس آخرها الحاجة التي دفعت أولئك الشبان إلى الالتحاق بالقناة المعنية التي سرعان ما استغنت عنهم دون أن تمنحهم مستحقاتهم المالية عن ستة شهور سابقة. "م.ح" يضيف أن هؤلاء الشبان يتمنون لو تنبس منظمة واحدة بقضيتهم لتفتَح مجددًا على أمل نيل مستحقاتهم بعد مضي هذا الوقت.
في سوريا كما في غيرها من الدول العربية التي شهدت موجة شرارة الربيع العربي، تلك التي غيرت وجوه مئات الصحفيين المعهودين بعدما أصبحت معظم المناطق خارجة عن سيطرة الأنظمة الحاكمة وصحفييها الموالين في الغالب للسلطة.. في كل هذه الدول تغطيات وصور لا حصر لها قادها شبان سُمعت أصواتهم خلف الكاميرا، ثم ما لبثت أن عرفتها الشاشات العربية أثناء مداخلاتهم عبر هاتف ثريا فضائي أو برامج البث المباشر في ظروف بالغة الخطورة، ليكونوا حاضرين في المشهد الصحفي وجهًا لوجه مع جمهور الشاشة لمشاركة يومهم الدامي.