في بلد طافح بالفساد، قد يخسر فيه الصحفي حياته لمجرد محاولة كسر الصمت.. لم يكن سهلا عليّ التفكير في خوض غمار الاستقصاء وتضمين كلماتي صرخات تشير بوضوح نحو الفاسدين وتدينهم، وتشخص بعض مظاهر الخراب والفساد. لكن المحاولة بحد ذاتها تمثل تحديا لا يقبل القسمة على التقاعس والصمت من أجل قضاء مشوار العمل الصحفي تبعا لروتين الصحافة المتحزبة اليومية.
في مشواري الصحفي كنت كثيرا ما أتطلع إلى حكايات الصحفي الاستقصائي يسري فوده، التي عشت لحظاتها كثيرا حتى قبل كل التحولات التي مرت وعصفت بأوضاع بلادي.. وبعد كل حلقة من حلقات "سري للغاية" كان الطموح والشغف يعتريان أحلامي لما كنت أرى من جرأة في الطرح وابتعاد عن الخوف.
منذ العام 2004 خطّت أولى كلماتي الصحفية مشوارها مع إحدى الإذاعات المحلية في العراق، ومضت تتدرج يوما تلو الآخر في محطة بعد محطة، أتنقل فيها بين قنوات محلية أغلبها حمل سمة الحزبية وتجنب الحديث عن أي مفردة استقصائية.
أولى المحاولات الفعلية التي سُجلت لي كانت تقريرا عن المتسولين في العراق وعصابات الاستغلال التي تقف وراءهم عام 2012.
من هناك وجدت أن المشوار لا بد أن يمضي قدما بين طيات صحافة أحقق معها حلمي الأول بين سطور صحافة اللاخوف وكشف المستور في وطني العربي الذي لا يكشف فيه شيء إلا بشق الأنفس.
بعدها اتجهت إلى التقصي عن واقع انتخابات لنقابة الفنانين جرت في بغداد وامتلأت بالمخالفات والغموض. وما إن أشرت إلى المتسبب بها، حتى أصبحت ملاحقا بالاتهامات والتهديدات.
قررت لاحقا البحث في عالم تجارة الأعضاء البشرية، وكان أول خطوط البحث التي قادتني إلى الفكرة هو ما تداول في محل الحلاقة بين الشباب عن فتاة باعت كليتها لدفع قسط جامعتها.. استفزني الأمر وسوء الحال الذي وصلت به البلاد إلى هذا المستوى وغياب الرادعين الأخلاقي والقانوني، حينها اكتشفت أن الاستقصاء لا يتوقف على مصدر بحد عينه؛ فكل كلمة أو أي تجمع قد يكون مصدرا بعد التدقيق لأساس فكرة استقصائية. رفضت الوسيلة التي أعمل معها أي حديث في الموضوع أو القبول بإجراء تحقيق في هذا الشأن، لا سيما أن البحث احتوى أسماء شخصيات طبية معروفة.
لم أستسلم حتى وجدت في أحد الأيام إعلانا للتقدُّم لورشة استقصائية تعلِّم أساسيات الاستقصاء، وتمول إنتاج التحقيق بعدها، كما تتكفل بنشره. تقدّمت للمشاركة بما لدي من فكرة وبحث على أمل أن يرى تحقيقي الاستقصائي النور.
اُختِرتُ مع 12 صحفيا من بين مئات المتقدمين، استنادا إلى الفكرة التي طرحتُها وطريقة البحث. وهكذا، التحقت بالورشة ووجدت فيها كل الأدوات التي تؤهل ما لديّ من طاقة استقصائية ناقمة على واقع بلدي الذي نخره الفساد من كل جانب. عدتُ من الورشة محملا بكل ما حصلت عليه، وانطلقت رحلتي مع مشوار الاستقصاء في حينها عام 2015.
المشروع رقم واحد
كان بحثي الدائم عن كل الملفات المتعلقة بالفساد والخراب يقودني من فكرة إلى أخرى، حتى استوقفني في أحد الأيام تقرير أجريته عن واقع التعليم في العراق، وزرت خلاله بعض المدارس. ما صدمني هو وجود المدارس الطينية قائمة حتى هذا العام، رغم كل مليارات الموازنات الحكومية، وذهلت من رؤية البؤس البادي على وجوه الأطفال وهم يفترشون الأرض ببردها القارس وحرِّها اللاذع.
واقع مأساوي أن تجد أطفال بلدك دون حق التعليم الصحيح والمعاناة التي حرمتهم من حقوقهم. اطلعت على الإحصائيات المتوفرة في وزارة التخطيط والتربية لأجد أن هناك ما بين 1000 إلى 2000 مدرسة طينية في البلاد، وأن العراق بحاجة لأكثر من 20 ألف بناية مدرسية، وأن أكثر من مليون طفل متسرب من المدارس ولا يلتحق بالتعليم لأسباب عدة أبرزها عدم وجود مدرسة قريبة على محل سكناه. كما أن العراق الذي كان في سبعينيات القرن الماضي البلد العربي الوحيد الخالي من الأمية، أصبحت فيه نسبة الأمية اليوم تتجاوز 20%. كل تلك الإحصائيات كانت مهمة لبداية البحث والتحقيق.
من هنا انطلقت للبحث أكثر وطرحت الفكرة على شبكة أريج والصحفي يسري فوده الذي أعلن عن ورشة بإشرافه في "أريج".. كانت الفكرة مميزة، فهي تعالج واقع التعليم وتظهر أساس تخلفه وما نخره من فساد.
أوصلني البحث إلى الكثير من الخيوط والمصادر الممكنة وغير الممكنة، والأهم أني عمدتُ إلى عملية توثيق تمكنني من حبك خيوط التحقيق، وإدانة من ثبت بالبحث تورُّطه في سرقة حق أطفال العراق في الحصول على تعليم جيد.
كان لا بد أن أوثق كل مرحلة وكل خطوة مر بها البحث، على الأقل بمستند أو وثيقة تثبت صحة ما ذهبتُ إليه.
زعمتُ في التحقيق أن هناك مشروعا أطلقته الدولة عام 2011 لبناء أكثر من 1700 مدرسة في عموم العراق، وخصصت له ملايين الدولارات، وبعد خمس سنوات اختفت الأموال، والأسوأ من ذلك أن المشروع عمد إلى تهديم مئات المدارس بحجة إعادة بنائها، لكنها تحولت إلى أرض جرداء يتحسر عليها طلابها حتى اليوم.
أبرز المقاولات في هذا المشروع كانت لرجل متنفذ على صلة وثيقة بالكثير من الأحزاب. أودِعَ أكثر من 200 مليون دولار كدفعة 60% لهذا المقاول، شرط عدم سحبها من المصرف الذي أودعت فيه إلا بحضور الطرف الحكومي والمقاول. وثقتُ كل ذلك بالمستندات والعقود التي أثبتّ من خلالها توقيع وزير التربية وممثل الشركتين التي يملكهما المقاول، ثم وثقت عملية اختفاء الأموال ورفع الكتب الرسمية إلى الحكومة من قبل بعض المفتشين تؤكد اختفاء الأموال.
أثبتّ أولا عدم صلاحية إعطاء الدفعة الأولى بنسبة تبلغ 60% إلا عن طريق إدخال شريك حكومي، وهو ما قام به المقاول للحصول على هذا الحجم من الأموال. وهنا تبادر إلى ذهني إثبات كيفية إمكان اختفاء الأموال رغم شرط حضور الجانب الحكومي، وبعد البحث لأشهر وصلنا إلى وثيقة حكومية تثبت أن صاحب المصرف هو نفسه والد المقاول.
الخطوة الثانية كانت التأكيد.. وهنا بحثتُ أكثر عن مصادر سرية توفر لي ما أبحث عنه، وبعد البحث وصلت إلى وثائق سرية صادرة من البنك المركزي وهيئة النزاهة التي رفضت مطلقا التصريح لي أو مساعدتي، لكنني حصلت على وثائق رسمية منها تؤكد أن ذلك المقاول هو من سرق الأموال. ثم وصلت إلى وثائق رسمية أخرى تؤكد أن نسب الإنجاز في المشروع لم تتجاوز 15% من المشروع بأكمله.
حاولت البحث عن المقاول لمنحه حق الرد، ومن أجل أن يكون التحقيق مهنيا ومتكاملا، وهنا تمكنت من الحصول حتى على مستمسكاته الشخصية وعقود شركاته، لكن الرجل كان أشبه بالشبح.. لا صورة ولا عنوان؛ فكل عنوان أذهب إليه أجده قد تركه، حتى انتقلت إلى الأردن للبحث عنه هناك، حيث توصلت إلى عنوانه عبر الإنترنت، لكن لم يكن له أثر. وبعد محاولات التقيت بممثله القانوني وكان يسكن عمّان، وتم الاتفاق على تسجيل مكالمة له بعد تعذر حضوره. وخلال الحوار وثقت اعترافه بأنهم أخذوا الأموال، لاقيا باللوم على جهات أخرى، وطالبا سؤال المصرف الذي أودعت فيه الأموال عن كيفية سحبها دون وجود الطرف الحكومي.
لم أترك جهة إلا ذهبت إليها واستمعت لشهادات الجميع في وزارة التخطيط ووزارة التربية ووزارة الإعمار ووزارة الصناعة، والحالات من أطفال المدارس الذين تضرروا بسبب ذلك المشروع، وتنقلت بين أكثر من محافظة لأظهر واقع أطلال المدارس التي شيدت لتبقى على شكل هياكل تذكّر بحجم الهدر والفساد.
بعد شهر من عرض التحقيق على قناة "دويتشه فيله" (DW) في برنامج "السلطة الخامسة" مع يسري فوده، تحرك ملف التحقيق في المشروع، وأخيرا أصدر القضاء حكما بالسجن سبع سنوات على المقاول ومصادرة أمواله المنقولة وغير المنقولة. كان ذلك الحكم في معاقبة الجناة أهم الجوائز التي حصدتها في مشوار حياتي، لأن إرجاع الحق وكشف المتورطين هما أساس صحافة الاستقصاء التي أحلم بها وأساس الصحافة التي أحلم بها، صحافة التغيير، وخاصة في بلداننا العربية التي تعاني مشكلة أزلية تتمثل في الفساد الذي نشأ من مخلفته "الإرهاب" نتيجة الظلم والفقر والجوع والاضطهاد.
لابد من التأكيد أن الخوض في غمار الاستقصاء جاذب للمخاطر، لهذا عليك كصحفي أن تؤمن بفكرتك أولا لتتمكن بشجاعة من إنجازها.
تعرضتُ لمحاولة اغتيال بإطلاق النار على مركبتي وكدت أفقد حياتي، ناهيك عن كمّ التهديدات التي تعرضت لها والتي أصبحت روتينا من بيروقراطية الحياة اليومية مع الصحافة، لكن وكما قلتها سابقا وأجيب عنها في كل مرة: هذا عملي وعليّ أن أكون أهلا له.
وكنتيجة أخرى للتحقيق، اعتُقل المقاول في العاصمة الأردنية من قبل الإنتربول بعد الحكم الصادر من القضاء العراقي، بحسب ما علمته خلال كتابتي هذا التقرير في ديسمبر/كانون الأول 2017.
أعيد جزء من الأموال المسروقة إلى الحكومة وأُعفي سبعة مدراء عامِّين وحقق التحقيق معظم أهدافه، لكن أطفال العراق ما زالوا يعانون الكثير من واقعهم المأساوي في مدارس طينية وحديدية، عدا عن أطفال المخيمات من النازحين، وهو ما يدفعني إلى البقاء في كلمة الاستقصاء والمضي بمشروعها الساعي إلى خلق صحافة رادعة ورقابية حقيقية تساهم في خلاص المجتمع العربي من كل آفاته الأزلية، وأولها وأهمها الفساد.
حصل التحقيق على جائزة "سمير قصير 2017" في لبنان عن فئة المرئي، وترشح ضمن قائمة الأفلام الثلاثة النهائية لجائزة "ديغ" (DIG) الإيطالي العالمية في العام نفسه وحصل على جائزة لجنة التحكيم. كما نال جائزة "الضوء الساطع" في جوهانسبرغ التي تنظمها الشبكة الدولية للصحافة الاستقصائية كل عامين، ولأول مرة يحصل عربي على هذه الجائزة العالمية منذ تأسيسها.