بعد مرور بضعة أيام على تسجيلي في مصالح السكن بمدينة بون الألمانية، وهو إجراء ضروري عموماً لكل من تتجاوز مدة بقائه في ألمانيا ثلاثة أشهر، وصلتني رسالة بالبريد المنزلي، تخبرني أن القانون يحتّم علي دفع مبلغ 17,50 يورو شهريا كرسوم لمشاهدة التلفزيون والاستماع إلى الراديو. أوّل سؤالين خطرا ببالي: كيف أدفع هذه الرسوم الشهرية وأنا الذي لم أقم يوماً بتشغيل جهاز التلفزيون الذي يضعه مالك الإيجار في غرفتي؟ وإذا ردَدْتُ على أصحاب الرسالة بأنني لا أشاهد القنوات التلفزيونية ولا أستمع كذلك للراديو، هل سيعفوني مثلا؟
لا حلّ غير الدفع
الجواب بالتأكيد على السؤال الأخير هو النفي، فالدفع إجباري بالنسبة لكل من يعيش في ألمانيا لمدة أطول من مجرد زيارة عابرة، ويتوفر على عنوان بريدي خاص. بمعنى أنه بمجرد استئجارك سكنا خاصا في ألمانيا، حتى لو كان مجرد غرفة، ستكون ملزماً بالدفع، فالقانون يحدد أن كل سكن في ألمانيا، مهما كان حجمه، يجب على من أجره أو امتلكه أن يدفع. أما الإعفاءات الممكنة فهي تخصّ فقط المستفيدين من الإعانات الاجتماعية كالمسجلين في قوائم العطالة أو المكفوفين أو الصم أو من يعانون مشاكل صحية تمنعهم من مشاهدة التلفاز والاستماع إلى الراديو.
تموّل هذه التكاليف شبكة من القنوات التلفزيونية والإذاعية المحسوبة على القطاع العام، ويتعلّق الأمر تحديداً بقنوات شبكة ARD التي تضم القناة الألمانية الأولى وتسع قنوات جهوية، ثم قناة ZDF (القناة الثانية الألمانية)، وقنوات قارية كقناة ARTE، فضلاً عن راديو ألمانيا ومحطات إذاعية أخرى. كان الدفع في السابق إلزامياً على كل من يتوفر على سكن ويملك جهاز تلفاز، لكن بدءاً من عام 2013، حُذِف شرط امتلاك التلفاز، بسبب الصعوبات التي وجدتها السلطات في التأكد من ادعاء الكثير من الأسر عدم امتلاكها للتلفاز.
تقوم مؤسسة تحمل اسم Beitragsservice (خدمة المساهمة) بالتوصل بهذه الرسوم وتتيح عدة طرق للدفع أهمها الاقتطاع البنكي. تملك هذه المؤسسة الحق في الولوج إلى سجلات سكن المواطنين والمقيمين في البلد، ممّا يجعل رسائلها تلاحق كل من يملك أو يؤجر مسكنا. وإذا ما تجاهلت هذه الرسائل؟ تلاحقك Beitragsservice برسائل أخرى، حتى تصل إلى مرحلة يمكن أن تتدخل فيها مصالح الضرائب الألمانية المعروفة بصرامتها.
تدافع سلطات البلاد عن هذه الرسوم بمبرّرين: الأول أن الأمر لا يتعلق بضريبة، بل برسوم تعطى مباشرة للقنوات العمومية حتى تحافظ على استقلاليتها عن الدولة، بمعنى تفادي أن تكون قنوات رسمية تعبر عن وجهة نظر الدولة أو تدافع عن مصالحها. والثاني أنه إذا كان مالك أو مؤجر سكن قادر نظرياً على استقبال خدمة التلفزيون والراديو عبر عدة أجهزة، فهو قادر نظرياً على استهلاك هذه الخدمات. وقد اعتبرت المحكمة العليا في ألمانيا أن هذه الرسوم دستورية.
وعلى المنتديات الالكترونية توجد الكثير من الشكاوى بخصوص هذه الرسوم، فهناك شركاء في السكن الجماعي يقولون إن بعضهم توصل بإشعار الدفع، ممّا يحتّم عليهم التواصل مع مؤسسة Beitragsservice حتى ترفع أسماءهم مؤقتا من الملزمين بالدفع. كما أن هناك قصصا عن أجانب سكنوا ألمانيا لمدة من الزمن، كانوا خلالها يدفعون هذه الرسوم، ثم رحلوا عن البلاد لعدة سنوات، ولما عادوا في زيارة عابرة، وجدوا أنفسهم ملاحقين بأداء رسوم تعود لفترة غيابهم عن ألمانيا، رغم تقديمهم ما يؤكد أنهم غادروا البلد منذ مدة.
تمويل التلفزيون العمومي في أوروبا
بالبحث في نماذج تمويل التلفزيون العمومي عبر العالم، نجد أن هناك عدة دول تربط بشكل مباشر بين جيوب المواطنين وميزانية هذه القنوات، والهدف هو تأكيد استقلالية التلفزيون العمومي، حتى لا يعبّر عن تصوّرات الدولة أو أن يمارس الدعاية لها. ومن المفارقة أن بعض الدول العربية تعتمد في تمويل القنوات التي تسميها عمومية على جيوب المواطنين بشكل مباشر، خاصة عن طريق تضمين مساهمة المواطنين في فواتير الكهرباء والماء، رغم أن هذه القنوات رسمية. وقد كان المغرب بين هذه البلدان قبل أن يعمد قبل مدة إلى إلغاء هذه المساهمة.
ويكمن الفرق في تمويل القنوات العمومية الألمانية عن نظيرتها في بقية دول أوروبا، أن ألمانيا هي الوحيدة التي تلزم أيّ منزل بالدفع المباشر سواء امتلك تلفازاً أم لم يمتلك، بينما تطبق غالبية الدول الأوروبية إلزامية الرسوم على من يمتلكون أجهزة التلفاز أو ما يتيح استقبال البث التلفزي. كما توجد دولة أوروبية وحيدة تُلزم جميع المنازل المرتبطة بالكهرباء، بالمساهمة في التمويل عبر تضمين مبلغ سنوي محدد في 100 يورو، مقسمٍ على فواتير الكهرباء طوال العام، ويتعلّق الأمر بإيطاليا التي طبقت مؤخرا هذا القانون.
كما توجد دولة أوروبية أخرى هي الوحيدة التي تلزم كل المواطنين وليس المنازل بدفع مساهمة التلفزيون، عبر ضريبة سنوية. إذ تعدّ فنلندا من الدول القليلة التي تعتبر هذه المساهمة ضريبة وليست رسماً. ترتبط هذه الضريبة في فنلندا بالدخل السنوي للمواطن، فكلما ارتفع هذا الدخل ارتفعت ضريبة التلفزيون، لكن حدها الأقصى هو 140 يورو، وتحدد نسبتها بـ0,68 من الدخل السنوي، علماً أن أصحاب الدخول المنخفضة لا يؤدون شيئا.
في بريطانيا، تصل نسبة الرسوم التي تدفعها المنازل للتلفزيون العمومي إلى 147 جنيه استرليني (164 يورو). وهناك فرق أساسي بين بريطانيا وألمانيا: هو أن قنوات BBC، أشهر القنوات العمومية، لا تبث وصلات إعلانية، أي أن تمويلها يأتي فقط من الرسوم المحلّية، بينما تستفيد قنوات ألمانيا من الإعلانات.
وتصل الرسوم في فرنسا إلى 139 يورو سنوياً، و100 يورو في بلجيكا، و160 يورو في إيرلندا، و234 يورو في السويد. ويلاحظ أن هناك دولا تفرّق بين رسوم التلفاز ورسوم الراديو كما في النمسا. وتعد الرسوم في هذا البلد من الأغلى في أوروبا، فهي تتجاوز في معظم المدن 300 يورو. ومن الرسوم الأغلى كذلك في أوروبا، تلك الموجودة في النرويج بـ317 يورو، أما الأغلى دون منازع فهي الموجودة في سويسرا بحيث تتجاوز 388 يورو سنويا!وكل هذه الدول تربط الرسوم بامتلاك أجهزة استقبال البث في المنازل، كما أنها تعفي بعض الفئات الاجتماعية من الدفع.
في هذه الدول.. لا ندفع للتلفزيون!
من المفارقة أن دولة جارةَ لألمانيا، لا تطلب من المواطنين دفع أيّ شيء للتلفزيون العمومي. ويتعلّق الأمر بهولندا التي تموّل قنواتها بمنحة من الحكومة زيادة على الإعلانات التجارية، وإن كان هناك نقاش في هولندا أن الضريبة على الدخل يمشي جزء منها إلى تمويل التلفاز العمومي. وهناك تأثر كبير في هولندا بالتجربة الأميركية الليبرالية، فرغم أن الدولتين لا تفرضان رسوماً على المواطنين لمشاهدة التلفاز العمومي، إلّا أن جلّ المنازل فيهما ترتبط –اختياريا- بالكابل لمشاهدة قنوات أخرى.
هناك كذلك إسبانيا التي تخصص الحكومة منحة سنوية لتمويل القنوات العمومية، وتعدّ واحدة من أقدم دول العالم التي لجأت إلى هذا الخيار (بدأته هولندا فقط في عام 2000)، وقد تأثرت بها جارتها البرتغال التي لا تطبق أيّ رسوم على المواطنين، كما تخلّفت عن هذه الرسوم دول كآيسلندا التي كانت تفرض رسوماً هي الأغلى في العالم. ويمكن القول إجمالا إن أوروبا هي أكثر المناطق في العالم التي تطبق رسوم التلفزيون العمومي، بما أن هذه الممارسة ليست شائعة كثيراً في مناطق أخرى خاصة دول أميركا الشمالية وأفريقيا وآسيا.
معارضو التمويل الإلزامي
يحتج الكثير من الألمان ضد إلزامية هذه الرسوم التي تجعل قنواتهم العمومية الأغنى ميزانية في أوروبا. ومن ذلك وجود حركة معارضة لهذه الرسوم اسمها GEZ-Boykott تقوم بحملات في الإنترنت وعلى أرض الواقع لأجل دفع سلطات البلد إلى إلغاء هذه التكاليف، وقد تجاوزت بقليل 112 ألف توقيع حتى الآن.
تقول هذه الحركة التي تضم الآلاف من سكان ألمانيا إنه من الواجب على الدولة توفير شبكة من البرامج التلفزيونية والإذاعية بشكل مجاني للسكان بما أنهم يدفعون الضرائب، كما تتحدث عن أن أيّ تمويلٍ بشبكات تلفزيونية عمومية أخرى يجب أن يتم إما عبر التشفير أو الإعلانات أو الاثنين معاً. وتعطي هذه الحركة في موقعها أمثلة لمواطنين ألمان رفضوا دفع هذه الرسوم ووصلوا في معاركهم حدّ الإجراءات القضائية، كما تتحدث عن وجود أربع ملايين قاطن في ألمانيا يقاومون هذه الرسوم.
وليست ألمانيا وحدها التي تعرف وجود حركة معارضة قوية لرسوم التلفزيون الإلزامية، فالأمر يتكرر في سويسرا، وهناك مشروع قانون معروض حالياً أمام البرلمان للبت فيه انطلق من حركة تحمل اسم No Billag تطلب حذف هذه الرسوم. تعطي الحملة عدة مبررات منها أن الرسوم جد عالية، وأنه من شأن تحرير ما يقارب 1,1 مليار يورو (القيمة السنوية الإجمالية للمساهمات) تطوير القدرة الشرائية للمواطنين، فضلاً عن تأثير الرسوم على حرية الإعلام. وتطالب المبادرة أن تعمل مؤسسة التلفزيون والراديو العمومية على البحث عن مواردها بشكل مستقل، كالإعلانات واللجوء إلى الاشتراكات.
غير أن هناك حركة أخرى في سويسرا ترفض إلغاء الرسوم الإلزامية، وتدافع عن استمرارية تمويل القنوات العمومية، خاصة لتعدد هذه الأخيرة ولطبيعة برامجها التي تلاقي استحسانا كبيرا، فضلاً عن التخوّف من أن اللجوء إلى الإعلانات والاشتراكات قد يجعل هذه القنوات تبحث عن "ما يطلبه المشاهدون" بدل بث برامج تطبّق أدوار الإعلام العمومي. ومن المنتظر أن تحسم سويسرا قريباً في هذا الجدل.
مراجع:
تقارير لـBBC حول التمويل العمومي للتلفزيون
http://www.bbc.com/news/entertainment-arts-26546570
موقع حركة no billag في سويسرا
صفحة ويكيبيديا لرسوم التلفزيون (تحمل مراجع قوية)
https://en.wikipedia.org/wiki/Television_licence
معلومات عن rundfunkbeitrag في ألمانيا:
https://liveworkgermany.com/2017/07/what-is-the-rundfunkbeitrag-and-why-do-i-have-to-pay-it
موقع GEZ-Boykott
إيطاليا تضمن رسوم التلفاز في الفواتير