قيل "من بين روائيي القرن العشرين، إما أن تُكتب الرواية مثل أغوتا كريستوف، أو لا تكتب"، لكن ماذا عن الصحافة؟
أغوتا كريستوف ليست صحفية، لكنها أفضل صحفية في العالم كله، هذا انطباعي الشخصي بعد قراءة ثلاثيتها: الدفتر الكبير، والبرهان، والكذبة الثالثة.
كتبت الكاتبة الهنغارية رواياتها بلغة بسيطة جدا، وجُملٍ قصيرة ومباشرة، وكلمات لا تحتمل التأويل، وقدمت نصوصها للقراء من دون زوائد في السرد، ومن دون وصف ما لا يوصف؛ لم تصف المشاعر بل وصفت الأشياء.
قلت لنفسي مستحيل أن لا تكون كريستوف صحفية بارعة. عندما وصلت إلى الصفحة 35 في روايتها الأولى "الدفتر الكبير" والتي سأنقل منها نصا حرفيا كيف يتعلم الطفلان -بطلا الرواية- على كتابة يومياتهما في الحرب:
"ولكي نحكم على الموضوع بأنه جيد أو ليس جيدا، هناك قاعدة بسيطة: على التأليف أن يكون حقيقيا، أي أن يطابق الواقع.
ينبغي أن نصف ما هو كائنٌ فعليا، أن نصف ما نراه، وما نسمعه، وما نفعله.
مثلُ ذلك، ممنوع أن نكتب: "الجدة تشبه مشعوذة"؛ بيد أنه من المسموح كتابة "الناس ينعتون الجدة بالمشعوذة". ممنوع كتابة: "المدينة الصغيرة جميلة"، لأن المدينة الجميلة قد تكون جميلة في أعيننا، قبيحة في أعين غيرنا.
قِس عليه أن نكتب "الجندي الوصيف لطيفٌ"، هذا الكلام ليس حقيقيا، لأن من الوارد أن يكون الجندي الوصيف قادرا على ارتكاب الشرور التي لا قبل لنا بها. سنكتب إذن ببساطة: "أعطانا الجندي الوصيف أغطية".
سنكتب: "نأكل الكثير من البندق"، وليس "نحب البندق"، لأن الفعل "أحبًّ"، فعل غير مضبوط، فعل تعوزه الدقة والموضوعية. "أن نحب البندق"، و"أن نحب أمنا"، صيغتان لا تنطويان على المعنى نفسه. فالصيغة الأولى تقصد مذاقا رائعا في الفم، بينما تشير الثانية إلى إحساس.
الكلمات التي تصف الأحاسيس تظل مبهمة؛ الأحرى إذن الإعراض عنها، والانصراف إلى وصف الأشياء، ووصف الآدميين ووصف أنفسنا، لنقل الانصراف إلى وصف الوقائع وصفا أمينا".
إن لم تكن هذه هي لغة الصحافة فكيف يمكن أن تكون؟ بحثت في ماضي كريستوف ووجدت أنها لم تكن صحفية، بل كانت عاملة في مصنع ساعات في سويسرا بعدما هربت من بلدها هنغاريا إثر الحرب العالمية الثانية.
بالنسبة لها، كما قالت في حوار صحفي قبل وفاتها "مهما كانت الكتابة قاسية فإنها أقل من قسوة الحياة"، ربما لهذا السبب كتبت ثلاثيتها عن ظروف الناس في الحرب بلغة بسيطة وحقيقية. الواقع الذي كتبت عنه مؤلم ولا يحتاج لغة بكائية لشرح قسوته، لا يحتاج إلا لوصف أمين.
مَنْ مِنَ الصحفيين اليوم يصف الواقع وصفا أمينا؟ من يصف الأشياء لا الأحاسيس؟ ولماذا يكتب الأدباء رواياتهم بلغة من المفترض أنها لغة صحافة وينجحون في فنهم، في حين يكتب الصحفيون موادهم بلغة من المفترض أنها لغة أدب ويفشلون في مهنتهم؟ ما هذا الإنقلاب؟
ولأنني واحد من الذين انقلبوا على لغة الصحافة وغرقوا غالبا في وصف المشاعر لا الأشياء، بدأت بنفسي وفتحت أرشيف تقاريري وقصصي التلفزيونية التي أنجزتها على مدار 8 سنوات مضت، للوقوف على أخطائي الكارثية في الوصف.
بعد فحص عينة عشوائية من التقارير وخاصة تلك التي اشتغلتها في السنوات الخمس الأولى من العمل في الصحافة، خجلت من نفسي. كنت أقتبس أبياتا لمحمود درويش (مع أنني والله العظيم لا أحب شعره) وأحشوها في تقارير لا علاقة لكلامه بها، لكي أظهر بأنني شاطر ومثقف. كنت أصف أضرار مكب نفايات على الناس بالقول "لو استطاعت هذه الوردة أن تتكلم لقالت لَكُم كم هي تعاني".
ورغم أنني في مرحلة علاج نصوصي من مرض "اللغة العاطفية" الذي اعترى بعضها، إلا أنه ما زال ظاهرا حتى الآن فيما أكتب.. ففي آخر القصص التي أنجزتها عن احتلال المستوطنين لمدينة أثرية فلسطينية، قلت واصفا جلوسهم في أحد مقاهيها لشرب فنجان قهوة "فنجان القهوة الذي تركوه يبدو أثرا تافها في تاريخ سبسطية". أسأل نفسي الآن (كنت سأكتب: أجلد نفسي بسؤال ثم حذفت هذه الصيغة لأن السؤال ليس سوطا للجلد) كيف حكمت بأنه أثر تافه؟ هم الذين يقتلون ويحتلون ويأخذون أي مكان يريدونه ويشربون القهوة فوق طاولة وُضعت لنا، ثم آتي أنا وأقول عن نتيجة ذلك كله: "أثر تافه"، يا للهول!
عدت إلى حوارات كريستوف مع الصحفيين قبل وفاتها، تقول "كنت أكتب وأحذف ما أكتبه في نفس الوقت، وقد حذفت الكثير وخصوصا الصفات والأشياء غير المحسوسة التي تقبع في المشاعر. على سبيل المثال، أذكر بأني كتبت هذه العبارة: "عيناها اللامعتان"، ومن ثم فكرت: هل تلمع العينان حقًا؟ ونتيجة لذلك قمت بحذف هذه الصفة".
وفيما كنت مذهولا أمام دقة الدقة في لغة كريستوف، دخلت إحدى زميلاتي في وكالة "وفا" إلى مكتبي وناولتني تقريرا لها كي ألقي عليه نظرة.
قرأت تقرير الزميلة، وعندما وصلت إلى فقرة بدايتها: "التمعت في عيني صاحب المنزل الذي استولى عليه المستوطنون نظرة قهر"، سألتها: "وهل تلمع العينان حقاً؟ وكيف عرفت بأنها نظرة قهر؟ بماذا تختلف نظرته عن غيرها من النظرات؟ إحذفي هذه الجملة كلها، أنت تتحدثين عن شخص فقد منزله، وعند باب مقهاه الذي كان يعتاش منه تقف اليوم دبابة إسرائيلية بشكل دائم لحماية المستوطنين الذين احتلوا منزله، هل هناك أقسى من وصف هذه الأشياء كما هي؟.
قبل أن تعود الزميلة إلى مكتبها مقتنعة بكلام الروائية كريستوف الذي قدمته وكأنه كلامي، قلت لها: "هذا كلام أغوتا كريستوف، أنصحك بقراءة مؤلفاتها، لغتها مهمة جدا للصحفيين قبل غيرهم، مؤكد أنك لا تعرفينها، أنا أيضا لم أكن أعرفها".
من سوء حظي كصحفي أنني لم أقرأ لكريستوف مبكرا ولم أسمع بها إلا مؤخرا عندما قرأت منشورا في صفحة الكاتب محمد هديب على فيسبوك يقول فيه: "أول درس ينبغي تعلمه حين تقرأ رواياتها أن تخرس لمدة أسبوع وترى كمية الشحوم في منشوراتك، فما بالك بالرواية التي تنوي تقديمها لجائزة. ستفوز روايتك التي تزن رطلين لأن القائمين على الجوائز يؤمنون بأن الكرش وجاهة".
قصة هراء منشوراتنا على فيسبوك أمر مفروغ منه، لكن ماذا عن الصحافة؟ وماذا عن القائمين على الإعلام؟ هل يؤمنون هم أيضا بأن وجاهة النص الصحفي تكون في كرش اللغة المنفوخ ومصارينها المتفرعة وتعقيداتها التي يخطأ في فكها حتى المتخصصون في البطن؟
نعم معظم القائمين على الإعلام يؤمنون بذلك، وتستهويهم اللغة المعقدة والخيال، لذلك صارت معظم الصحافة العربية هراء. معظم الجمهور العربي أيضا يطرب على اللغة التي لا تطابق الواقع في الوصف، لذلك يصعد صحفيون يخلطون بين لغة الأدب من استعارة وكنايات وتشبيهات ومجاز ووصف ما لا يوصف صعود الصاروخ، في حين يظل على الأرض معظم المتمكنون من لغتهم الدقيقة في وصف ما يشاهدون ويسمعون ويفعلون على أرض الواقع.
أعتقد أن الصحفيين يلجؤون للغة مخاتلة تأويلية أكثر كلما كانت معلوماتهم عن الموضوع الذي يحكون فيه أقل، شاهدت تقريرا يقول معدِّه: "يعاني الأسرى الفلسطينيون ويتألمون كثيرا في موجات الحر"دون أن يحدد كيف ولماذا يتألمون؟ أعتقد أنه لا يعرف شيئا عن ظروف اعتقالهم لذلك اختصر وصف حياتهم الصعبة بوصف مشاعرهم "يتألمون ويعانون".
هناك أمر آخر ربما يدفع الصحفيين اليوم للاستعانة بلغة أدبية في سرد مجريات الأمور، إذ كلما فقد الصحفي إحساسه في قسوة ما يجري في الواقع كالقتل مثلا، يعوض عدم تأثره بوصف ما جرى بلغة أدبية. مثلا في فلسطين عندما يَقتل جنود الاحتلال شابا أعزل، يكتب معظم الصحفيين نصوصهم بطريقة: "وانطلقت رصاصة غادرة، من فوهة بندقية حاقدة، يحملها جندي خائف، قبل أن تخترق صدره العاري وينول شرف الشهادة في الميدان".
هل تغدر الرصاصة؟ وهل تحقد البندقية؟ وكيف عرفنا بأن الجندي خائف ومن ماذا؟ ألم يكن الشهيد يلبس قمصا يغطي صدره؟ ثم كيف قررنا بأنه كان خاسرا قبل أن يفوز بالاستشهاد؟ ولماذا لا نضع احتمال أنه نزل يلقي الحجارة ليوقف زحف الدبابات الإسرائيلية على قريته دفاعا عن حياته ولكي يفوز بعيش كريم في وطنه؟ هل خسر كل الذين يراوغون الجنود المحتلين ويعودون إلى بيوتهم سالمين بعد جولات المواجهات؟
صرت أطرح أسئلة كثيرة بعدما فرغت من قراءة روايات أغوتا كريستوف، سؤال واحد حيرني: لماذا انقلب الصحفيون على لغتهم البسيطة التي كانت وربما ما زالت رأس مال نجاح الكثير من الأدباء؟