تُثبت التجارب السابقة أن حالة الإنتاج الإعلامي بمختلف أنواعه وأشكاله ترتبط بطريقةٍ أو بأخرى بالحالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية السائدة في بلدٍ ما أو في المنطقة العربية بشكلٍّ عام، وهذا ما لحظناه في السنوات القليلة الماضية.
بعد الأحداث التي جرت في العالم العربي منذ عام 2011، نشط الإنتاج الوثائقي بصورةٍ ملحوظة، وظهر على السطح القالب الوثائقي الحديث الذي يُنتَجُ من ألفهِ إلى يائه عن طريق أجهزة الهاتف المحمول، ومبرر ذلك أن الأحداث كانت متسارعة لدرجة يصعب معالجة ما حصل في فيلمٍ روائيٍّ يحتاج إلى الكثير من الإمكانيات البحثية والبشرية والفنية والتكنولوجية.
لكن بعض المختصين يقولون إن النشاط الذي شهدته الأفلام الوثائقية في السنوات الماضية لم يطور من مكانته التاريخية، فهو دائماً كان خلف الفيلم السينمائي، وظلّت تلك النظرة الدونية للوثائقيات حتى جرت العادة في أوساط النقاد القول إن هذا الفيلم يصلح للتلفزيون وليس للسينما، في حال كان ليس بالمستوى المأمول.
ومن الأسباب التي طُرحت على الطاولة، أن المنتجين لم يخاطروا بإنتاج أفلامٍ وثائقية ضخمة وهم يعلمون أن عملية وصولها إلى شباك التذاكر عملية صعبة للغاية، بالإضافة إلى ضعف إقبال المحطات التلفزيونية على شرائها، وهنا نستثني القنوات الوثائقية العالمية والمتخصصة، وعلى رأسها قناة الجزيرة الوثائقية.
هناك من تعمق في الأسباب التي أدت إلى تراجع الاهتمام في الأفلام الوثائقية داخل الأوساط الشعبية، بالمقارنة مع الأفلام السينمائية، التي تحظى بالكثير من الاهتمام والمتابعة.
فالفيلم الوثائقي يحظى بالكثير من الخصوصية، سواء من ناحية الصورة البصرية، أو (VOICE OVER) الذي يكون عادةً مكملاً لما يعرض على الشاشة، علماً أن كلّ كلمة تُقال في الفيلم الوثائقي مدروسة ولها مغزى معين، وقد يستغرق التأكد من الكلمة التي قيلت الرجوع إلى العديد من الكتب والبحوث والدراسات.
تؤكد الكثير من الدراسات أن متابعي الأفلام الوثائقية هم الأكثر ثقافةً واطلاعاً من متابعي الأفلام الروائية، لأنهم يهتمون بالبحث والتمحيص في دقائق الأمور والقضايا والأحداث، ولا يكتفون بما يتدفق من قبل وسائل الإعلام الأخرى، عكس جمهور الأفلام الروائية الذين يجرون وراء الإثارة والشهرة والجنس والتسلية... إلخ. وما يؤكد ذلك الطرح أن نسبة القراءة والاطلاع في الوطن العربي هي الأقل في العالم، فبعض الدراسات تقول إن الفرد العربي يقرأ إحدى عشرة صفحة في العام، في حين يقرأ الفرد الأوروبي أحدَ عشرَ كتاباً.
وهذا ما يبرر قرار ابتعاد الكثير من المنتجين عن إنتاج الأفلام الوثائقية لأنها لا تحقق الربح المطلوب، الذي يعتمد بالدرجة الأساس على إقبال الجمهور عليه.
رداءة الإنتاج التجاري
وقد تعرض الإنتاج التلفزيوني والسينمائي العربي على السواء في الآونة الأخيرة إلى الكثير من الانتقادات اللاذعة بسبب الرداءة التي باتت تكتنفه من كلِّ جانبٍ، وقد أصبح يميل أكثر إلى الإنتاج التجاري الذي لا يراعي تقديم محتوى هادف يسعى إلى تنمية ذائقة الجمهور، بل ينصب تركيزه على الهامش الربحي أكثر من المعايير المهنية المتعارف عليها.
وليس الإنتاج السينمائي بعيداً عن هذه الدائرة السوداء، فالشركات الرأسمالية توّغلت في أسواق الإنتاج العربي، وفرضت وجودها على بعض الشركات الملتزمة التي تهاوت أمام المغريات المعروضة من نظائرها، الأمر الذي أحط من قيمة الأعمال المقدمة على شاشات التلفاز وقاعات السينما.
السمة الأبرز لغالبية الأعمال سواء أكانت تلفزيونيةً أو سينمائية، هي تطرقها للثالوث المحرم في المجتمعات العربية (الدين والجنس والصراع الطبقي)، في قالبٍ أكثر ما يقال عنه إنه يُثير المشاعر السلبية الكامنة في نفوس الناس، بالإضافة إلى الصورة النمطية التي تعرض بها المرأة.
بعض النقاد يقولون إن المشكلة تراكمت بسبب غياب البديل في سوق الإنتاج الذي تحتكره شركات بعينها، حيث تضع الشروط التي تُريدها، وبطبيعة الحال تلك الشروط لا تهتم في جودة المحتوى بالقدر الذي تهتم في مسألة تحقيق الأرباح، وكلّ ذلك على حساب مصلحة الجمهور.
ولكن هناك بعض المحاولات من المنتجين الكلاسيكيين الذين يحاولون استعادة ألق الإنتاج العربي كما كان في سنواتٍ سابقة، إلا أنهم يواجهون عقبات عدة، لعل أبرزها الافتقاد إلى الممولين الذين لا يضعون شروطاً تعجيزية تخضع لمعيار "الجمهور عايز كدا"، بالتالي الانجرار إلى رغبات وشهوات الجمهور، الأمر الذي يُغيب المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام.
بعض المنتجين اتجهوا إلى التمويل الأجنبي، فهناك مؤسساتٌ ومنظماتٌ دولية تقوم بتقديم الدعم الكامل و"المغري" للمنتجين الشباب، ولكن بعض المختصين حذروا من اللجوء إلى هذا الطريق لأن العديد منها يقفُ وراءها رجال أعمال تابعين لدولة الاحتلال الصهيوني، الأمر الذي دفع البعض بترك المجال عازين ذلك لغياب المؤسسات الوطنية التي تدعم المنتجين الشباب دون شروطٍ يصفها بعض ذوي الاختصاص بأنها تعجيزيةٌ.
التاريخ يؤكد أن هذه المشكلة العويصة ليست جديدة، ففي العقد الثالث من القرن الماضي دارَ نقاشٌ بين علماء الاتصال من أمثال الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو (1903 – 1969)، وبول لازرسفيلد (1901 – 1976) المولود في فيينا – النمسا، حول وظيفة بحوث الاتصال، فنشب خلافٌ بينهما وأدى إلى إنفصالهما، وذلك بسبب أن أدورنو لم يرضَ بتدخل (الزبون) في مضمون البحوث التي كان المركز يُصدرها، وأعتقد أنهم لا يُريدون التطرق إلى أسئلةٍ من قبيل "مَنْ ؟ وكيف ؟ ولماذا ؟" الأمر الذي يُفقد مصداقية البحوث، ولكن لازرسفيلد كان أكثر براغماتيةً (نفعية)، كما هو حاصل لشركات الإنتاج التي تجري وراء إرضاء حاجات "السوق".
المعادلة الأكثر تعقيداً في هذه القضية هي: كيف يوائم المنتج بين نظرته البنّاءة ومعاييره المهنية، وبين شروط الممول وجشع السوق؟
تقول الباحثة والكاتبة اللبنانية الدكتورة حياة حويك لـ "لمجلة الصحافة": "هناك مشكلة كبيرة في عملية المواءمة، لأن المنتج يخضع لشروط الممول (قد يكون التمويل حكوميا أو مختلطا أو خاصا أو مؤسسات ومنظمات دولية)، بالإضافة إلى شروط المعلن، ولشروط الجهة السياسية التي تقفُ وراء الجهة الممولة للعمل، فنحن في النهاية مكبلين بمجموعة من الشروط".
وتضيف حويك: "لو أخذنا القنوات التلفزيونية كمثال، فكلّها مقيدة بتوجهاتٍ سياسية، وهذا يشملُ القنوات المنوعة أيضاً، إلى جانب شروط المعلن الذي يعتبر مصدر الدخل الأول بالنسبة للقنوات التلفزيونية، بالإضافة إلى طاقات الممول نفسه، الذي دائماً يريد إنفاق أقل ثمن ممكن، وفي نفس الوقت يطالبك بعملٍ جيد، ولكن الواقع يقول إن العمل الجيد مكلف.. في مسيرتي أشرفت على العديد من الأعمال، وأعرف الميزانيات التي كانت تعطى لنا، رغم أننا كنّا نشرف على أعمالٍ كبيرة، وبالمقارنة مع الميزانيات التي تمنحها "البي بي سي" تعتبر قليلة، وهذا يؤثر على الكوادر التي ستعمل ضمن فريق الإنتاج، وسيتحكم بتطورهم المهني، لأنه عندما يكون دخل المخرج أو المصور أو المونتير جيداً، فهم بإمكانهم أن يطوروا مهاراتهم، بينما الحاصل أن هناك استنزافاً للطاقات، فنحن نفتقد إلى مراكز التدريب التي من شأنها تُنمي كل الكوادر التي تساهم في النهاية بأيِّ عملٍ فني يتم تقديمه إلى الجمهور".
وترد حويك على سؤالٍ طرحته "مجلة الصحافة" عليها: "بعد كلّ هذه الإشكاليات تسألني كيف يمكننا أن نوائم.. في رأيي أن هناك حلولاً تقلص من الإشكالية الموجودة، وهي الحلول الوسط، وتتطلب أن يتخلى المنتجون الشباب أو أيّ فردٍ يساهم بالعملية الإنتاجية عن فكرة النجاح السريع، وهي الفكرة التي ساهمت بترويجها وسائل الإعلام رغم خطورتها لأنها تساهم في بعض الأحيان في الترويج للفساد والتتفيه، من أجلِّ أن يصلَ الشباب إلى ما يحلمون به، ولكن على الشباب أن يتأكدوا أن الفرد إذا كان جيداً في مختلف المجالات في النهاية سيصل، ولكن هذا يتطلب بعض الوقت حتى يثبت الفرد كفاءته على أرض الواقع".
وفيما يخص الحلول المطروحة تقول حويك: "أعتقد أن إنشاء مؤسسات حكومية ووطنية تدعم الشباب الطموحين وتنقذهم من شروط الممولين وجشع السوق، ستساهم في تقليص هذه المشكلة، بالإضافة إلى عمل دورات مجانية، كما هو حاصل في غالبية دول العالم، إلا أنني لابدَّ أن أشير إلى نقطةٍ مهمة في هذا الصدد، فحتى لو تم تأسيس منظمات حكومية ووطنية، فستنشأ عدة مشاكل من أهمها، أنه حتى الحكومات لها شروط يجب أن تتوافق وتوجهاتها السياسية، بالإضافة إلى غياب الحرية، وكذلك ستقع تحت هيمنة الشركات والمؤسسات والمنظمات المهيمنة على السوق".
وحذرت حويك الشباب من التمويل الأجنبي: "هم يعتقدون أن التمويل الأجنبي يموّل المشاريع الإنتاجية بدون مقابل، وهذا خطأُ لابدّ أن يتنبه إليه الشباب، فهو عادة ما يأتي مع قائمة من الشروط، وحتى ولو لم يبيّن شروطه في البداية، فأثناء التنفيذ سيفرض شروطه شئنا أم أبينا".
وتطرقت حويك أثناء حديثها حول المعاناة التي يواجهها العاملون في هذا المجال: "إن هذا الواقع المأساوي يدفع الكثير إلى ترك المهنة، فأنا توجهت إلى العمل البحثي والأكاديمي بعد أن رأيت الإشكاليات التي تطرقنا لها، ورغم أن نظريات السوق تقول إن العملة الجيدة تطرد العملة الرديئة، ولكن الحاصل هو العكس، فهناك سياسة عالمية تسعى إلى تتفيه المنطقة، ولكن في النهاية لا أعتقد أن هذا الواقع سيستمر، فلابدَّ من صحوةٍ فكريةٍ نحو الأفضل، ولا يوجد هناك شعوبٌ تموت وتنقرض، ولكنها تمرُّ بفترةِ انحطاطٍ ومن ثم تصحو مجدداً".
ويقول الناقد السينمائي الدكتور تيسير مشارقة لـ "مجلة الصحافة": "لنكن واقعيين، إن الجمهور بحاجة إلى محتوى يدغدغ عواطفه، وهو دائماً يضع المنتج تحت ضغط تلبية ما يطلبه، ولكن في نفس الوقت يفرض على مختلف وسائل الإعلام وبما في ذلك الإنتاج السينمائي، أن يمتلكوا سلطة توجيه الجمهور، وهذا يتم عبر الارتقاء بالأدوات والأرتقاء بذائقة الجمهور الفنية.. ولن يتحقق هذا المطلب إلا بإنشاء مؤسسات وطنية تدعم المنتجين الشباب".
"الحاصل أن هناك بعض المنتجين يُنتجون أفلاماً قصيرة ذات محتوى وجودة عالية، ولكن في نفس الوقت، يُنتجون عشرين فيلماً سينمائياً بمضمونٍ رديء، ومبرر ذلك أن كلفة إنتاج فيلم جيد عالية نسبياً، وهم يلجؤون إلى هذه الطريقة لخلق موازنة في عملية الإنفاق، وخضوعاً لقوانين السوق".
ويُشير مشارقة إلى أن المجتمع يتحمل جزءا من المسؤولية أيضاً: "على المجتمع أن يطالبَ بإنتاجٍ أرقى مما هو موجود في الساحة الفنية، فيجب أن يكون شباك التذاكر هو الحكم، لأنه عندما نرى الإقبال الكبيرعلى الإنتاج الرديء فالمسؤولية ستصبح ملقاة على عاتق الجمهور لا المنتج".
ويضيف مشارقة لـ "مجلة الصحافة": "ثمة مسؤولية تقع على عاتق النقاد العرب أيضاً، وهنا أقصد النقاد المحترفين، وليسوا أولئك التابعين إلى الشركات المسيطرة على سوق الإنتاج، بل أصحاب التخصص والمنهجية الواضحة، فيجب عليهم أن يقوموا "بغربلة" كلّ ما يُنتج سواء كان تلفزيونياً أو سينمائياً، ولكن ما أشاهده أن النقاد مكبلون لا يستطيعون أن يصرحوا برأيهم، ولا يملكون الحرية اللازمة التي تمكنهم من تحديد مظاهر الخلل".