قد يضطر الصحفي في أحيان عديدة إلى تجهيل مصادره، فإظهار معلومة مهمة للجمهور قد يلزم الصحفي بإخفاء مصدرها في حالات عديدة منها أن يتسبَّب الإفصاح عن هذه المعلومة في إيذاء المصدر، أو عندما يطلب المصدر عدم الإفصاح عن هويته خشية الوقوع تحت طائلة القانون، وأحيانا يعقد المصدر اتفاقا مع الصحفي بأن يمرر له معلومات عالية الدقة والأهمية شريطة ألا يرتبط اسمه أو وظيفته بهذه المعلومة.. وفي كل الأحوال لا يكون أمام الصحفي في هذه الحالة إلا أن يُجهِّل مصدر المعلومة وذلك لتحقيق عدة فوائد منها:
1. ألا يفقد ثقة المصدر، وبالتالي لا يفصح له عن أية معلومات أخرى أو أي مصدر غيره، مما يفقده سر نجاحه في العمل الصحفي. وهناك قاعدة في الصحافة أسستها الصحافة الأميركية تقول: "إن خنت مصدرك فلن يتحدث إليك أحد مرة أخرى بكلام ليس للنشر". ولهذا نجد الصحفيين في معظم الأحيان يحافظون على عهودهم مع مصادرهم بعدم التصريح بأسمائهم إذا طلبوا منهم ذلك، حتى وإن ترتب على ذلك إيذاء الصحفي نفسه بالسجن أو الاعتقال أو الفصل أو التقديم للمحاكمة.. إلخ، فحتى وقت قريب كان "بوب وودوارد" يرفض الكشف عن هوية مصدره، حتى لزميله وشريكه "كارل برنشتاين" في التحقيق الاستقصائي حول أحد أشهر وقائع الفساد السياسي في العالم وهي حادثة "ووترغيت"، وكان يكتفي بتسمية مصدره "الحلق العميق".. وهو يقول عن المصادر الصحفية "أي مخبر كان لديه في يوم من الأيام مصدر جيد، يعرف جيداً مدى أهمية المصادر وحيويتها بالنسبة لمهنة الأخبار، ومشاعري نحوهم تكاد تكون مقدسة (1)".
2. ألا يضر المصدر معنويا أو ماديا، ففي حالات كثيرة يؤدي الإفصاح عن مصدر المعلومة إلى فقدان هذا المصدر لوظيفته أو حياته أو يعرضه للسجن مثلاً، وبهذا الشكل يفقد الصحفي مصدره ولا يحصل على ثقة أي مصدر آخر، هذا بخلاف الضرر الذي يلحق بالمصدر نفسه، ففي ذات الواقعة الصحفية التي ذكرت أعلاه "ووتر غيت"، لم يتم الكشف عن هوية المصدر الصحفي إلا بعد سنوات طويلة، بعدما أصبح خارج دائرة الخطر، حيث تبين أنه نائب مدير في مكتب التحقيقات الفدرالي (أف.بي.آي).
3. الإفلات من مسؤولية المعلومة غير الدقيقة، فأحياناً يسرب المصدر معلومة حساسة للصحفي ويخبره بأنها غير مؤكدة ويطلب منه عدم الإفصاح عن هويته حتى لا يتعرض للمساءلة القانونية إذا ثبت عدم صحتها، وبسبب ضغط عامل الوقت يقرر الصحفي تحمل المسؤولية كاملة ونشر المعلومة مجهّلة المصدر تحقيقاً للسبق، لأنه إذا ثبتت صحة المعلومة دون أن يكون قد نشرها، فسيفقد فرصة نجاح كبيرة بالنسبة له.. وهو الفخ الحقيقي الذي يقع فيه الصحفي.
وفي كل الأحوال تكون العلاقة بين الصحفي ومصدره علاقة شديدة الخصوصية، "حيث يعتبرها البعض صفقة سرية بين الطرفين يمرر الصحفيون فيها بعض المعلومات الثمينة إلى الجمهور، مقابل إخفاء معلومات أخرى وإخفاء المصدر" (2). وقد كفلت القوانين حماية الصحفي في ذلك، فمثلا: في مصر كفل القانون رقم 148 لسنة 1980 الحق للصحفي في الحفاظ على سرية المصدر في مادته الخامسة التى جاء نصها "للصحفي الحق في الحصول على المعلومات والأنباء والإحصائيات من مصادرها، وله الحق في نشرها، ولا يجوز إجباره على إفشاء مصادر معلوماته، وذلك كله في حدود القانون" (3).
ورغم السند القانوني لاستخدام هذا النوع من المصادر فإنها تحمل فرصة كبيرة للتلاعب والتضليل الإعلامي، فقد وجد أن بعض الصحفيين يفبرك الاقتباسات وينسبها إلى مصادر مجهولة تجنباً لمشقة البحث عن الأخبار والجري وراء المصادر لنقلها.
وقد كان لصحيفة "ذي غارديان" البريطانية في الأيام الأخيرة حادثة معبرة عن تلك الخروقات الصحفية، حيث اضطرت الصحيفة للاعتذار لقرائها عما نشرته، اعتمادا على تقارير مراسل صحفي خرق ثقتها كما ذكرت في إعلانها الذي جاء تحت عنوان "ملاحظة لقرائنا عن صحفي خرق ثقتنا"، حيث كانت الصحيفة قد اكتشفت عدم دقة بعض التقارير الصحفية التي أرسلها لها الصحفي عام 2009 وتزييف البعض الآخر. وقد اختتمت الصحيفة بيانها بوضع آليتين لمنع تكرار تلك الحادثة مرة أخرى، كانت أولهما التحقق من شخصية الصحفيين المتعاملين معها بالقطعة والتعرف عليهم بشكل يؤكد إمكانية الثقة بهم ومستوى صدقهم فيما ينقلون، بينما كان ثاني تلك الآليات "النظرة الفاحصة المتأنية للحالات التي لا يتم فيها تسمية المصدر دون سبب قوي لذلك، بأن تشك (الصحيفة) في استخدام المصادر المجهلة في أي قصة صحفية، وتلك سياسة متبعة ولكن ليست بالحسم الكافي. نعم يكون من الضروري استخدام هذه المصادر في بعض الأحيان، مثل التقارير الحساسة المتعلقة بالأمن القومي، ولكن هذه النوعية من القصص الصحفية لم تكن من بين ما نشره الصحفي"(4).
ورغم أن الاعتذار يأتي في إطار المسؤولية الاجتماعية التي تشعر بها الصحيفة أمام قرائها، فإن المصادر المجهلة كانت أحد مسببات المشكلة التي اعتذرت عنها -حسب ما ورد في البيان- لذا كان التحقق منها وتضييق إطار استخدامها إحدى آليات علاج المشكلة وتجنب تكرارها.
ولعل هذا ما جعل قطاعا كبيرا من الجمهور يرفض تصديق الأخبار المجهولة المصدر، ويعتبرها "خبرا لقيطا مجهول النسب". وهناك الكثير من المؤسسات الصحفية على مستوى العالم تضع الكثير من المحاذير في نشر الأخبار المجهولة المصدر أو ما تسمى أخبار الخلفية (Background news)، منها "أسوشيتد برس" التي كانت لا تجهِّل مصادرها إلا إذا استحال الحصول على المعلومة من مصدر آخر، كما لا تسمح باستخدام التعبير عن الرأي من مصدر مجهول. وفي نفس الإطار منع رئيس تحرير "سنسيناتي إنكويرر" نشر أي خبر مجهول المصدر على الصفحة الأولى، واعتبر رئيس تحرير "واشنطن بوست" بن برادلي تجهيل المصادر أدوات يمكن للحكومة استغلالها في تقديم صورتها الخاصة من الأخبار بعيداً عن الحقائق، وطالب محرريه ببذل كل جهد لنسبة المعلومات إلى مصادرها (5).
أساليب كتابة المصادر المجهلة
وإضافة إلى ما سبق من الإجراءات التي اتخذتها بعض الصحف لتقنين استخدام المصادر المجهلة وتأثيرها على مصداقية الصحفي والصحيفة، يأتي أسلوب كتابة أو تسمية المصدر المجهل كإحدى القواعد المهمة التي يمكن انتهاجها لتقنين تأثيرها على المصداقية وتقنين استخدامها، فطريقة النسبة إلى المصدر المجهول تلعب دورا كبيرا في الحكم على نزاهة وموضوعية كاتب الموضوع، ومن ثم تصديق المعلومات التي أوردها عن مصدره المجهول.
ويمكن تقسيم أساليب كتابة المصادر المجهلة كما يلي:
أ. التجهيل التام، وذلك باستخدام صيغ تخفي كلياً ما يتصل بشخصية المصدر كاسمه وصفته وعلاقته بالحدث مثل صيغ "مصدر مخوّل أو مصدر مطلع أو شاهد عيان أو مصدر مسؤول...إلخ، ثم يذكر الاقتباس بعدها مباشرة، وهي صيغ ذائعة الاستخدام في الصحافة المصرية والعربية بصفة عامة، وأحيانا تكون هناك ضرورة حتمية لاستخدامها، مثل خطورة المعلومات المسربة أو حساسية موقع المصدر الذي يدلي بالمعلومة، والخوف من تعرضه للأذى إذا ذكر أي شيء يسهل الوصول إلى شخصيته، أو الحذر الزائد من المصدر الذي يطلب من الصحفي مباشرة ألا يذكر أي شيء عنه، أو الخوف من أن يسيء الخبر إلى سمعة المصدر. ولكن مع اتساع فرصة فبركة وتزييف المعلومات باستخدام صيغ التجهيل التام، لجأ الصحفيون إلى استبدال صيغ التجهيل التام للمصادر بصيغ أقل إبهاما عند اضطرارهم لتجهيل المصادر وهو الأسلوب الثاني لتجهيل المصادر.
ب. التجهيل البسيط أو الجزئي، بالاكتفاء بتجهيل اسم المصدر أو جزء من اسمه، والإبقاء على صفته ومكان عمله لإعلام القارئ بأن هناك مصدرا حقيقيا مسؤولا عن هذه المعلومة، ولكن هناك ما يمنع التصريح باسمه، وذلك باستخدام صيغ مثل "مصدر مسؤول بوزارة.." أو "أحد المصادر المطلعة بهيئة.."، أو "مسؤول رفيع المستوى بشركة.."، أو بصيغ أكثر تفسيرا بكتابة أول حرف من اسم المصدر ومكان عمله أو الجماعة التى ينتمى إليها أو علاقته بالحدث، لتأكيد وجود مصدر للمعلومات الواردة، وأنها ليست من نسج خيال الصحفي، مثل "صرح ف.أ بوزارة.." أو "قال ع. ف بجمعية.." أو "قال م. ص شاهد عيان.. إلخ". ويقلّل هذا الأسلوب من الشك الذي قد يصيب القارئ تجاه مصداقية المعلومة المجهولة المصدر، كما أنه يقطع فرصة التلاعب من بعض الصحفيين الذين غابت ضمائرهم.
ج. الجمع بين الأسلوبين، ويكون في الموضوعات الشائكة كبيرة الحجم قوية الصدى التي تتعدد فيها مصادر المعلومات ويكون فيها أكثر من مصدر مجهل، فيفضل أن يلجأ الصحفي إلى الجمع بين الطريقتين، حتى لا يثير شك القارئ في معلوماته إن كانت جميع مصادره مبهمة.
وبصفة عامة يفضل عدم تكرار تجهيل المصادر في الموضوع الواحد، لأن على الصحفي ألا يلجأ إلى تجهيل مصدره إلا للضرورة القصوى، مما يعني أن تجهيل المصدر ليس بالحالة العامة في الصحافة.
الهوامش
(1) جون ماكسويل هاملتون، وجورج أ.كريمستي (2002)، صناعة الخبر في كواليس الصحافة الأمريكية، ترجمة: أحمد محمود، دار الشروق للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية.
(2) نفس المرجع السابق.
(3) حسن عماد مكاوي (2006)، أخلاقيات العمل الإعلامي، دراسة مقارنة، الدار المصرية اللبنانية، ط4.
(4)Http://www.theguardian.com/commentisfree/2016/may/26/open-door-column-note-to-…
(5) جون ماكسويل هاملتون، وجورج أ. كريمستي، مرجع سابق.