عندما سقطت الكاميرا بيد بينوشيه

كان الفيلم التسجيلي التشيلي "اللقطة الأخيرة" الذي فاز بالجائزة الذهبية لمهرجان الجزيرة السادس 2010، بابا للدخول إلى عالم الصحافة التشيلية التي عاشت -كباقي مؤسسات المجتمع- تحت رقابة العسكر.

يروي "اللقطة الأخيرة" تفاصيل مقتل المصور الأرجنتيني ليوناردو هنريكسن، حينما صوب إليه أحد الجنود بندقيته وهو يصور أحداث "انقلاب الدبابات" ضد الرئيس التشيلي سلفادور الليندي (1908-1973).

وكان الصحفي إرنستو كارمونا -أحد أصدقاء المصور هنريكسن في تشيلي- من أعاد فتح ملف القضية التي بقيت مغلقة طوال ثلاثين عاما، مستندا إلى آخر صورة التقطها المصور القتيل بكاميرته، والتي أظهرت بوضوح وجه الجندي القاتل، مستدلا بواسطتها على اسمه ومكان سكنه لاحقا، ليقوم بتنظيم مظاهرات أمام بيته مطالبا بمحاكمته.

مقتل هنريكسن واحدة من ثلاثين حالة مختلفة قتل فيها صحفيون في الفترة التي امتدت بين عامي 1973 و1989 في تشيلي.

كانت الحكومة الدكتاتورية برئاسة أوغستو بينوشيه (1915-2006) على وعي بخطورة دور الصحافة في كشف انتهاكاتها لحقوق الإنسان، لذا حرصت منذ وصلت سدة الحكم على فرض سيطرتها على الإعلام بالقوة لتثبيت دعائم حكمها. وبينما كانت طائرات سلاح الجو تقصف مقر الرئيس الليندي "قصر لامونيذا"، تعرّض راديو "ماجايانيس" لإطلاق النار من أجل وقف بث خطاب الليندي الأخير.

بعد أيام قليلة من الانقلاب عام 1973، صدر أمر عسكري بإغلاق البث الإذاعي في وسائل الإعلام، ثم أعيد تشغيله، ولكن تحت رقابة الحكومة العسكرية.

ورغم تلك القبضة التي أحكمت حول وسائل الإعلام، فقد رفض بعضها التخلي عن مبادئ مهنة الصحافة التي تقتضي إظهار الحقائق كاملة. وكانت السرية طريقَها لإيصال صوتها الذي اعتقدت أنه يصدح بالحقيقة، والذي كان يكشف ما تمارسه الدولة من انتهاكات لحقوق الإنسان، من قتل وتعذيب واختطاف لمعارضيها، بل وحتى لمن تشك في معارضته لها، بينما كان التلفزيون التشيلي الرسمي -وإلى جانبه كثير من وسائل الإعلام- يتكلمون بلسان الدولة، مظهرين صورة مثالية ومخالفة لما كان يجري فعليا في الشارع، كما أكدت تقارير حقوقية دولية رصدت تلك الانتهاكات.

من بين أبرز المجلات التي ظهرت في تلك الفترة، "أناليسيس" و"آبسي" و"كاوسي" و"فورتين مابوتشو"، سعى العاملون فيها إلى إظهار الحقائق، وتأدية عملهم بمهنية، كما صرحت خوانيتا روخاس إحدى صحفيات مجلة "أناليسيس" لصحيفة "أو" التشيلية. أما باتريسيا كوليير من ذات الصحيفة، فتقول إن وظيفتهم كانت تكذيب ادعاءات الحكومة بعدم وجود انتهاكات لحقوق الإنسان، والتي كانت تحاول إخفاءها بتواطؤ مع وسائل الإعلام الرسمية.

ومع إقرار دستور عام 1980، اعترفت الحكومة بجميع وسائل الإعلام، على أن تتحمل (تلك الوسائل) مسؤولية ما تنشر. كان ذلك القانون -وإن بدا في ظاهره تعديلا في سياستها- يحمل تهديدا مباشرا للصحفيين بوضعهم تحت سيف الحكومة، إذ وصل كثيرًا منهم تهديداتٌ بالقتل والاعتقال، وتعرضوا للقمع والاضطهاد والتعذيب، وكان أحد هؤلاء خوان بابلو كاردينيس، مدير مجلة "أناليسيس".

لم يكن كاردينيس وحده من دفع ثمن قول الحقيقة في تلك المجلة، ففي 8 سبتمبر/أيلول 1986 هاجم عناصر من مركز المعلومات الوطني في تشيلي منزل رئيس تحرير المجلة خوسيه كاراسكو تابيا وقادوه إلى مكان مجهول، ليعثر أهله على جثته بعد ساعات ملقاة بجوار سور مقبرة "أميريكو فيسبوتشي" وبها 13 طلقة.

وترى رئيسة "تجمع أهالي المفقودين" لورينا بيسارو أن الصحفيين لعبوا دورا رئيسيا خلال تلك الحقبة.. تقول: "مع التعذيب والتهميش والقمع، كان هناك وسائل اتصال وصحفيون أظهروا الحقائق في البلاد، رغم الثمن الباهظ الذي دفعوه، كالاعتقال أو القتل".

سلفادور الليندي - سانتياغو، تشيلي - 1973 (رويترز)
سلفادور الليندي - سانتياغو، تشيلي - 1973 (رويترز)

 

المزيد من المقالات

الاحتلال الذي يريد قتل الصحافة في الضفة الغربية

"كل يوم يعيش الصحفي هنا محطة مفصلية، كل يوم كل ثانية، كل خروج من المنزل محطة مفصلية، لأنه قد يعود وقد لا يعود، قد يصاب وقد يعتقل"، تختصر هذه العبارة للصحفي خالد بدير واقع ممارسة مهنة الصحافة بالضفة الغربية خاصة بعد السابع من أكتوبر

Hoda Abu Hashem
هدى أبو هاشم نشرت في: 21 يناير, 2025
لماذا عدت إلى السودان؟

قبل أكثر من سنة من الآن كان محمد ميرغني يروي لمجلة الصحافة كيف قادته مغامرة خطرة للخروج من السودان هربا من الحرب، بينما يروي اليوم رحلة العودة لتغطية قصص المدنيين الذين مزقتهم الحرب. لم تكن الرحلة سهلة، ولا الوعود التي قدمت له بضمان تغطية مهنية "صحيحة"، لأن صوت البندقية هناك أقوى من صوت الصحفي.

محمد ميرغني نشرت في: 8 يناير, 2025
هل تنقذ المصادر المفتوحة الصحفيين الاستقصائيين العراقيين؟

تصطدم جهود الصحفيين الاستقصائيين في العراق بالتشريعات التي لا تسمح بالولوج إلى المعلومات. مع ذلك، تبرز تجارب جديدة تتجاوز التعقيدات السياسية والبيروقراطية بالاعتماد على المصادر المفتوحة.

حسن أكرم نشرت في: 5 يناير, 2025
التضليل في سوريا.. فوضى طبيعية أم حملة منظمة؟

فيديوهات قديمة تحرض على "الفتنة الطائفية"، تصريحات مجتزأة من سياقها تهاجم المسيحيين، مشاهد لمواجهات بأسلحة ثقيلة في بلدان أخرى، فبركة قصص لمعتقلين وهميين، وكم هائل من الأخبار الكاذبة التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد: هل هي فوضى طبيعية في مراحل الانتقال أم حملة ممنهجة؟

فرحات خضر نشرت في: 29 ديسمبر, 2024
طلبة الصحافة في غزة.. ساحات الحرب كميدان للاختبار

مثل جميع طلاب غزة، وجد طلاب الإعلام أنفسهم يخوضون اختبارا لمعارفهم في ميادين الحرب بدلا من قاعات الدراسة. ورغم الجهود التي يبذلها الكادر التعليمي ونقابة الصحفيين لاستكمال الفصول الدراسية عن بعد، يواجه الطلاب خطر "الفراغ التعليمي" نتيجة تدمير الاحتلال للبنية التحتية.

أحمد الأغا نشرت في: 26 ديسمبر, 2024
الضربات الإسرائيلية على سوريا.. الإعلام الغربي بين التحيز والتجاهل

مرة أخرى أطر الإعلام الغربي المدنيين ضمن "الأضرار الجانبية" في سياق تغطية الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا. غابت لغة القانون الدولي وحُجبت بالكامل مأساة المدنيين المتضررين من الضربات العسكرية، بينما طغت لغة التبرير وتوفير غطاء للاحتلال تحت يافطة "الحفاظ على الأمن القومي".

Zainab Afifa
زينب عفيفة نشرت في: 25 ديسمبر, 2024
صحافة المواطن في غزة.. "الشاهد الأخير"

بكاميرا هاتف، يطل عبود بطاح كل يوم من شمال غزة موثقا جرائم الاحتلال بلغة لا تخلو من عفوية عرضته للاعتقال. حينما أغلق الاحتلال الإسرائيلي غزة على الصحافة الدولية وقتل الصحفيين واستهدف مقراتهم ظل صوت المواطن الصحفي شاهدا على القتل وحرب الإبادة الجماعية.

Razan Al-Hajj
رزان الحاج نشرت في: 22 ديسمبر, 2024
مقابلة الناجين ليست سبقا صحفيا

هل تجيز المواثيق الأخلاقية والمهنية استجواب ناجين يعيشون حالة صدمة؟ كيف ينبغي أن يتعامل الصحفي مع الضحايا بعيدا عن الإثارة والسعي إلى السبق على حساب كرامتهم وحقهم في الصمت؟

Lama Rajeh
لمى راجح نشرت في: 19 ديسمبر, 2024
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة

طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.

Mawadah Bahah
مودة بحاح نشرت في: 17 ديسمبر, 2024
الصحافة السورية المستقلة.. من الثورة إلى سقوط الأسد

خلال 13 سنة من عمر الثورة السورية، ساهمت المنصات الصحفية المستقلة في كشف الانتهاكات الممنهجة للنظام السابق. الزميل أحمد حاج حمدو، يقدم قراءة في أدوار الإعلام البديل من لحظة الثورة إلى لحظة هروب بشار الأسد

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 13 ديسمبر, 2024
صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

Iman Kamal El-Din is a Sudanese journalist and writer
إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

Linda Shalash
لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

Shaarawy Mohammed
شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
عمر الحاج.. "التحول" الصعب من العطلة إلى بؤرة الزلزال

قبل أن يضرب زلزال عنيف مناطق واسعة من المغرب، كان عمر الحاج مستمتعا بعطلته، ليجد نفسه فجأة متأرجحا بين واجبين: واجب العائلة وواجب المهنة، فاختار المهنة. في تغطيته لتداعيات الكارثة الطبيعية، التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، خرج بدروس كثيرة يختصرها في هذه اليوميات.

عمر الحاج نشرت في: 17 أغسطس, 2024