الحرب في ليبيا والقرارات السريعة

فرق كبير بين دار الحرب ودار السلم.. فَرقٌ وحدها العدساتُ والكلمات قادرة على توضيحه ونقله، إن أحسن أصحابها ذلك.

لا يتعلق الإتقان هنا بالوسائل بقدر ما يتعلق بقدرة الصحفي على الاستغناء قدر المستطاع عن كل ما يثقل كاهله للتنقل بخفة. الثقل هنا حسِّي ومعنوي لا يرتبط بأشخاص على الأرض ويكتفي بصلات الوصل معهم. يتخفف المراسل من معداته ومن ملابسه ومشربه ومأكله، يستغني كثيرا عن خوفه ليستعيض عنه بكثير من الحذر، وعن الغفلة باليقظة. هناك، لا مزاح أبدا، خطأ واحد فقط كفيل بأن يجعلك خبرا.

كانت تلك هي تجربتي الأولى في ليبيا، إذ إنني لم أحظ بأي دورات تدريبية في السابق، بل كان الشغف وحده هو رأس مالي.. كانت الصدمة الأولى بتراجع المصور الذي كان يفترض أن ألتقيه على الحدود المصرية الليبية بدايات مارس/آذار 2011، فخيِّرتُ بين العودة أو الدخول على أمل التحاق مصور آخر بي، أو العثور على مصور في الأراضي الليبية، وكنتُ أعلم مسبقا أن ذلك شبه مستحيل. لجأت إلى الخيار الأكثر عسرا ودخلتها ليلا، وعلى ظهري حملٌ جلّه للمصور الذي فضل عدم الدخول.. حملت معي أدوات المصور من كاميرا ومتعلقاتها وجهاز حاسوب وآخر بنفس الحجم للبث المتنقل، وأدواتي من دفتر وقلم وجهاز حاسوب آخر.

لا بوَّاب ولا أبواب في ديار الحرب.. تخطيت الجانب المصري ووصلت الجانب الليبي المهجور إلا من بضعة شبان يَسِمونك بختم غير رسمي للدخول، لا سؤال ولا جواب. وعلى طول الخط إلى بنغازي، كانت إيماءة الرأس لكل حاجز كافية لنقلك إلى آخر قد يشهد بضعة أسئلة وقد لا يشهد، لكنه وضعٌ كان كافيا لخلق مزيد من المخاوف.

كنتُ أعمل وقتها في إحدى المحطات التلفزيونية التي لم تكن لديها إمكانية توفير جميع التسهيلات اللازمة، لكن على الصحفي التأقلم مع كل الظروف. ومع الوصول ليلا، لم أكن أريد سوى بقعة للنوم بعد سفر دام قرابة 15 ساعة.. وجدت فندقا صغيرا مع الاستعانة بقليل من الحس الأمني البسيط، ونمت فيه ليلتي الأولى.

بدء العمل

كشف الصباح عن هول الواقع.. شوارع فارغة وكثير من الخوف في عيون من تبقوا فيها، وحواجز وأسلحة ثقيلة وخفيفة وأعلام جديدة للبلاد، ولا طاغوت يخشونه.. مزيج من الخوف والفوضى والتحرر والأمل. أول ما كان يجب عليّ فعله كصحفي هو استطلاع المكان والحديث مع الناس والتآلف معهم والبحث عن صحفيين سبقوني لأخذ انطباعاتهم وأي معلومات قد تفيد للتواصل مع الجهات الرسمية، إلى جانب تبادل وجهات النظر حول القصص الخبرية. وجدت بقعة في مبنى مهجور خصصت للصحفيين بحماية من الثوار، دخلت المكان وفرشت الأرض بما لدي من معدات.. استطعت بالاستعانة بزملائي الموجودين في مركز العمل وبمن توفر من مصورين وفنيين على الأرض، من التعلم بشكل مبدئي عليها، بقي أن أجد أولى قصصي وهو الأمر الأصعب.  

علمتني التجربة أن العمل على القصص الإخبارية في مناطق الحرب ينبغي أن يكون أكثر دقة، إذ يلزم التحقق أكثر من المعلومات والأخبار في مكان تقلُّ فيه المصادر الرسمية وتكثر فيه الروايات الشفوية، مما يتطلب مزيدا من الجهد في نسبة الأمور إلى مصادرها بهدف الخروج من فخ الأخبار أو القصص الزائفة.

كما أنه من الضروري أن يشعر المشاهد بما يعيشه الصحفي من خلال نقل الصور والأصوات الطبيعية والقصص المتنوعة، وفي الوقت ذاته الحذر من الانجرار نحو المبالغات العاطفية التي قد يستنكرها أبسط المشاهدين.

في النهاية، صحيح أن الصحفي يبني علاقة جيدة ومنسجمة مع محيطه، لكن عليه أن يكون حذرا من الانحياز المطلق حتى لا يكون بعيدا عن مربع الموضوعية.

لا شيء يوقفك

عندما عشت تجربتي الأولى مع العمل الميداني في مناطق الحرب، علمت أنها مهمة القرارات السريعة ولا مجال للتردد، فمن المتوقع في هذه المناطق أن تنقطع الاتصالات وربما الكهرباء لأيام، كلها أمور قد تكون سببا للعجز والوقوف مكتوف اليدين، لكن هذه الأمور لا ينبغي أن توقف الصحفي، فكل شيء على الإطلاق له بدائل وحلول قد يكون عسيرا إيجادها، لكن في النهاية سيكون هناك حل.

أما القرارات السريعة فهي تلك التي ينبغي أن تأخذها في دقائق، ولا مجال للتفكير أكثر، خصوصا إذا كنت في مرحلة ما مسؤولا عن فريق.. قرارات سريعة بالمغادرة أو البقاء أو التحرك أو التصوير من عدمه.

على سبيل المثال، أذكر أن ترددي في مغادرة منطقة رأس لانوف الليبية في إحدى المعارك عرّضني للخطر وأدى إلى فقدان الاتصال بيني وبين السائق، وكان أفضل قرار اتخذته حينها أن أستثمر الخطأ بأخذ صور القصف الذي لم يبعد عني سوى عشرات الأمتار، لكن ذلك أيضا كاد يودي بحياتي لولا إرسال القدر إحدى سيارات الثوار لتقلني وصحفيَّين آخرين كانا قد تأخرا معي.

وظيفة الصحفي في الحرب أن ينقل ما يستطيع من الحقيقة مع الحفاظ على سلامته، وفي هذا الإطار يعجبني قول أحد الصحفيين القديرين بأن الخبر يعوّض، لكن الصحفي لا يُعوّض.

 

 

المزيد من المقالات

الوقفة أمام الكاميرا.. هوية المراسل وبصمته

ماهي أنواع الوقفات أمام الكاميرا؟ وما وظائفها في القصة التلفزيونية؟ وكيف يمكن للصحفي استخدامها لخدمة زوايا المعالجة؟ الزميل أنس بنصالح، الصحفي بقناة الجزيرة، راكم تجربة ميدانية في إنتاج القصص التلفزيونية، يسرد في هذا المقال لماذا تشكل الوقفة أمام الكاميرا جزءا أصيلا من التقارير الإخبارية والإنسانية.

أنس بن صالح نشرت في: 18 فبراير, 2025
الاحتلال الذي يريد قتل الصحافة في الضفة الغربية

"كل يوم يعيش الصحفي هنا محطة مفصلية، كل يوم كل ثانية، كل خروج من المنزل محطة مفصلية، لأنه قد يعود وقد لا يعود، قد يصاب وقد يعتقل"، تختصر هذه العبارة للصحفي خالد بدير واقع ممارسة مهنة الصحافة بالضفة الغربية خاصة بعد السابع من أكتوبر

Hoda Abu Hashem
هدى أبو هاشم نشرت في: 21 يناير, 2025
لماذا عدت إلى السودان؟

قبل أكثر من سنة من الآن كان محمد ميرغني يروي لمجلة الصحافة كيف قادته مغامرة خطرة للخروج من السودان هربا من الحرب، بينما يروي اليوم رحلة العودة لتغطية قصص المدنيين الذين مزقتهم الحرب. لم تكن الرحلة سهلة، ولا الوعود التي قدمت له بضمان تغطية مهنية "صحيحة"، لأن صوت البندقية هناك أقوى من صوت الصحفي.

محمد ميرغني نشرت في: 8 يناير, 2025
هل تنقذ المصادر المفتوحة الصحفيين الاستقصائيين العراقيين؟

تصطدم جهود الصحفيين الاستقصائيين في العراق بالتشريعات التي لا تسمح بالولوج إلى المعلومات. مع ذلك، تبرز تجارب جديدة تتجاوز التعقيدات السياسية والبيروقراطية بالاعتماد على المصادر المفتوحة.

حسن أكرم نشرت في: 5 يناير, 2025
التضليل في سوريا.. فوضى طبيعية أم حملة منظمة؟

فيديوهات قديمة تحرض على "الفتنة الطائفية"، تصريحات مجتزأة من سياقها تهاجم المسيحيين، مشاهد لمواجهات بأسلحة ثقيلة في بلدان أخرى، فبركة قصص لمعتقلين وهميين، وكم هائل من الأخبار الكاذبة التي رافقت سقوط نظام بشار الأسد: هل هي فوضى طبيعية في مراحل الانتقال أم حملة ممنهجة؟

فرحات خضر نشرت في: 29 ديسمبر, 2024
طلبة الصحافة في غزة.. ساحات الحرب كميدان للاختبار

مثل جميع طلاب غزة، وجد طلاب الإعلام أنفسهم يخوضون اختبارا لمعارفهم في ميادين الحرب بدلا من قاعات الدراسة. ورغم الجهود التي يبذلها الكادر التعليمي ونقابة الصحفيين لاستكمال الفصول الدراسية عن بعد، يواجه الطلاب خطر "الفراغ التعليمي" نتيجة تدمير الاحتلال للبنية التحتية.

أحمد الأغا نشرت في: 26 ديسمبر, 2024
الضربات الإسرائيلية على سوريا.. الإعلام الغربي بين التحيز والتجاهل

مرة أخرى أطر الإعلام الغربي المدنيين ضمن "الأضرار الجانبية" في سياق تغطية الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا. غابت لغة القانون الدولي وحُجبت بالكامل مأساة المدنيين المتضررين من الضربات العسكرية، بينما طغت لغة التبرير وتوفير غطاء للاحتلال تحت يافطة "الحفاظ على الأمن القومي".

Zainab Afifa
زينب عفيفة نشرت في: 25 ديسمبر, 2024
صحافة المواطن في غزة.. "الشاهد الأخير"

بكاميرا هاتف، يطل عبود بطاح كل يوم من شمال غزة موثقا جرائم الاحتلال بلغة لا تخلو من عفوية عرضته للاعتقال. حينما أغلق الاحتلال الإسرائيلي غزة على الصحافة الدولية وقتل الصحفيين واستهدف مقراتهم ظل صوت المواطن الصحفي شاهدا على القتل وحرب الإبادة الجماعية.

Razan Al-Hajj
رزان الحاج نشرت في: 22 ديسمبر, 2024
مقابلة الناجين ليست سبقا صحفيا

هل تجيز المواثيق الأخلاقية والمهنية استجواب ناجين يعيشون حالة صدمة؟ كيف ينبغي أن يتعامل الصحفي مع الضحايا بعيدا عن الإثارة والسعي إلى السبق على حساب كرامتهم وحقهم في الصمت؟

Lama Rajeh
لمى راجح نشرت في: 19 ديسمبر, 2024
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة

طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.

Mawadah Bahah
مودة بحاح نشرت في: 17 ديسمبر, 2024
الصحافة السورية المستقلة.. من الثورة إلى سقوط الأسد

خلال 13 سنة من عمر الثورة السورية، ساهمت المنصات الصحفية المستقلة في كشف الانتهاكات الممنهجة للنظام السابق. الزميل أحمد حاج حمدو، يقدم قراءة في أدوار الإعلام البديل من لحظة الثورة إلى لحظة هروب بشار الأسد

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 13 ديسمبر, 2024
صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

Iman Kamal El-Din is a Sudanese journalist and writer
إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

Linda Shalash
لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

Shaarawy Mohammed
شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024