يسعى برنامج "الصندوق الأسود" عبر سلسلة من الأفلام الوثائقية التحقيقية التي تبث نهاية كل شهر على شاشة "الجزيرة"، إلى البحث في ملفات وقضايا أثارت جدلا، أو ظلت طي الكتمان، لكشف أسرارها وإعادة سرد الأحداث برؤية موثقة. وقد تم بث أول أفلامه في مايو/أيار 2013.
وفي بدايات العمل على البرنامج، وردنا سؤال من أحد الزملاء: هل نحن أمام سلسلة استقصائية بالمعنى المهني للكلمة؟ أي هل يجب الكشف عن معلومات جديدة والوصول إلى نتائج غير معروفة، أم أننا أمام التعامل مع الاستقصاء والتحقيق كشكل إخراجي يخدم سياق الفيلم؟
كان هذا السؤال جزءا من التحديات التي واجهناها في البداية، خصوصا أننا أمام سلسلة وثائقية استقصائية نريد لها أن تستمر، ونحن نعلم جيدا مدى العوائق والصعوبات التي تواجه الصحفيين الاستقصائيين في البلدان العربية، ليس فقط في ظل غياب حرية الوصول إلى المعلومة، بل أيضا في ظل ضعف القوانين المتعلقة بحمايتهم، مما يتيح استهدافهم بسهولة ودون وجود رادع حقيقي. أضف إلى ذلك أننا في هذه السلسلة نتعاون مع جهات مختلفة، والعديد منها لها باع طويل في إنتاج الأفلام الوثائقية بمختلف أشكالها ولكن ليست "الاستقصائية"، وبعض طواقم عملها لا تمتلك الخبرات الصحفية الاستقصائية، ولا ما يمكن أن يعزز تحركها في هذا المجال، مثل انتسابهم إلى مؤسسات إعلامية أو صحفية توفر لهم الحماية والتحرك كصحفيين، الأمر الذي قد يسهل عليهم تنفيذ الفيلم.
لذا كان لا بد لنا أن نحسم الأمر ونجيب على السؤال الرئيسي: هل نحن أمام سلسلة استقصائية بالمعنى المهني للكلمة؟
الإجابة تعتمد بالأساس على طبيعة المواضيع التي سنتناولها، وعلى ماهية الاستقصاء الذي يجب أن يتم، ولكن قبل ذلك، على ما يجب نقاشه في محاولة للإجابة على السؤال: هل يجب أن يتضمن الفيلم تصوير محاولات التتبع والتقصي والبحث عن المعلومة؟ وهل يجب أن يكون ذلك حقيقيا أمام الكاميرا أم يمكن الاستعاضة عنه بلقطات تمثيلية في ظل صعوبة تنفيذ مثل هذا النوع من الأفلام؟
بما أن الصحافة التلفزيونية الاستقصائية بالأساس تتناول موضوعات حساسة يلفها التكتم والسرية لكشف ما هو جديد وتأكيد أو نفي ما كان شائعا حولها، واختراق أماكن معينة ذات خصوصية تثير الكثير من الغموض والتساؤلات حولها، فإن الإجابة ستكون: نعم. إذًا هو استقصاء بالمعنى المهني للكلمة، حتى لو لم تظهر هذه الأدوات على الشاشة، وإنما تم إخراجها بشكل فني. فلو حصلنا على وثائق وتسريبات سرية، ولم يكن بإمكاننا تصوير طريقة الحصول عليها لأسباب مختلفة، فلا ضير من وضعها في قالب فني وحتى الاستعانة بلقطات ومشاهد تمثيلية لإيصال الفكرة إلى المشاهدين، عدا طبعا عن أن إعادة التمثيل لأحداث معينة بحد ذاتها يمكن أن تشرح للمشاهد وتفسر ما حصل في حادثة ما، كأن يكون موضوع الفيلم حول عملية اغتيال والكثير من تفاصيلها مجهولة، وبناءً على المعطيات التي تتوفر بين يدي فريق العمل أثناء التحقيق، يمكن أن يُرسم مشهد الاغتيال لتوضيح كيف حصلت عملية القتل، بل ويتعداه الأمر إلى تسخير هذا المشهد لإثبات الرواية المتداولة حول الاغتيال أو نفيها أو كشف الخلل والثغرات فيها، فيثير التساؤلات حول مصداقية الرواية المنتشرة بين الناس.
في فيلم "حماة 82" الذي فتح ملف مجزرة حماة التي ارتبكها النظام السوري برئاسة حافظ الأسد عام 1982 للقضاء على الإسلاميين، والتي ظلت تفاصيلها غامضة لأكثر من ثلاثة عقود، حتى إن الحديث عنها قبل وقوع الثورة السورية عام 2011 كان من المحرمات.. في هذا الفيلم كان من الصعب أحيانا في مرحلة الإعداد، توثيق عمليات البحث والتنقيب والوصول إلى الشخصيات ذات العلاقة بالموضوع، والشهود الذين يظهرون لأول مرة، لذا تم لاحقا تصوير فريق العمل وهو يعيد تمثيل الخطوات التي قام بها سابقا.
ولكن ماذا لو فشل فريق العمل في الوصول إلى الشهود أو الشخصيات المتورطة التي تشكل عنصرا أساسيا في الفيلم؟ هذا ما واجهناه في فيلم "المستعربون"، حيث سعى التحقيق إلى اختراق وحدات سرية إسرائيلية تنتشر في الأوساط العربية بفلسطين والوصول إلى بعض عناصرها، فهل يجب وقف العمل على الفيلم الذي فقد أيضا أداة تحقيق رئيسية ألا وهي الاختراق؟
كان فريق العمل يواجه مشكلة في الوصول إلى بعض أفراد هذه الوحدة السرية وتصويرهم، ومع ذلك لم يكن بإمكاننا أن نغلق الباب حينها ونوقف الإنتاج، فاتفق فريق العمل على تصوير محاولاتهم الوصول إلى "مستعربين" كي تكون جزءا من الفيلم، فهذا بالنسبة لنا بحد ذاته يكشف حجم التعتيم والغموض الذي يحيط بهذه الوحدات، بل ويساهم في إظهار ممارسات التضييق التي تفرضها بعض الجهات للحد من كشف الحقيقة.
في النهاية نجح فريق العمل في الوصول إلى "مستعربين" وتصويرهم في الفيلم، بالإضافة إلى مواجهة مؤسس هذه الوحدات ومحاولة الحصول على إجابات منه.
إذًا.. من المهم الاعتماد بشكل أساسي على التتبع والتحري وتصوير الطرق التي يتم بها الاستقصاء في الفيلم، وهذا ما يكون أيضا في حالة العجز أو صعوبة الوصول إلى المعلومة أو إلى الشخصيات أو أصحاب القصص التي نحكي عنها. وإن تم الجمع بين الحالتين معا، أي الوصول إلى ما هو جديد وحصري، مع النجاح في تصوير ورصد التتبع والتحقيق الذي تم باستخدام الأدوات الاستقصائية المناسبة لتناول الموضوع، فهذا من شأنه أن يعزز من قوة الفيلم، كما حصل في فيلم "الصفقة" عن الزواج السياحي في مصر، حيث خاض فريق العمل مغامرة جريئة وخطيرة باختراقه إحدى شبكات الاتجار بالزواج منذ بداية اصطيادهم للأثرياء لدى وصولهم إلى المطار عبر بعض سائقي الأجرة، مرورا بالسمسار وانتهاء بباقي أفراد الشبكة والفتيات والعائلات، وكشف كواليس صفقات هذا الزواج.
ويستمر التحقيق والاستقصاء أثناء إنجاز الفيلم نفسه، فالسعي للوصول إلى المعلومات وملاحقة الحقيقة عملية يجب ألا تتوقف في كل مراحل الإنتاج.
ويعتمد "الصندوق الأسود" أسلوب التعقب والاستقصاء ما أمكن، واستخدام تقنيات في التصوير تعزز من هذا الأسلوب، وطبيعة المواضيع المختارة تلعب دورا أساسيا في تحديد المناسب من الأدوات الاستقصائية لاستخدامها في الفيلم، بالإضافة إلى شكل المعالجة الفنية. والمهم هو التوصل إلى الحقيقة، وطرح التساؤلات حولها، بهدف إثارة الرأي العام وتحريك المياه الراكدة.