الأبواب المغلقة
تؤدي الأبواب في أفغانستان وظيفتها بشكل مكتمل، تعزلك عن كل ما خلفها باستثناء الانفجارات التي إن وقعت، بات كل شيء قاصرا عن أداء وظيفته، وحينها لا ينفع الأمن ولا الأبواب.
حين حطت طائرتي في كابل، كنت متلهفا جدا لاستكشاف البلد القصيّ الذي جاورته لسنوات وعرفت شعبه كذلك حين كنت مقيما في طهران.. كانت استطلاعاتي تتحدث عن موسيقى وثقافة ومأكولات وتاريخ وآثار وإرث عظيم غيبته الحروب والنكبات المتتالية. لم تمض لحظات على دخولي العاصمة حتى اصطدمت بحاجز لم يكن مألوفا بالنسبة لي، فقد لاحظت أن هناك مبالغة في إجراءات السلامة حتى شعرت للحظات أنها قد تكون سببا لتعرضنا للخطر.. صعدنا (فريق الجزيرة) مركبتنا وتوجهنا بداية إلى مكاتبنا ثم إلى المكان الذي سأبيت فيه شهرا أو يزيد حسب الظروف، وقد كان مجاورا لمقر العمل، وبدا أن شيئا ما مبالغ فيه.. أبواب حديدية سميكة وحراسات أبواب مضاعفة، سواتر ترابية وسياج.. قلت لنفسي إنها إجراءات روتينية لن تؤثر على خُططي، ولا بد أن الزملاء سيعينوني على إنجازها.
غير أنه لا يمكننا لوم الناس على شعورهم بالخوف في بلاد شهدت عقودا من الاحتلالات والحرب الأهلية والحكم المتطرف.. لكن ما سبق بشكل عام بات يلعب دورا مختلفا معي؛ فقد أدركت لاحقا أن تلك "المبالغات" من قبل الزملاء باتت تعزلني عما أتيت من أجله، وعما هو أبعد من أخبار السياسة والانفجارات والاشتباكات.. عن الإنسان الذي يشكّل جوهرا لرسالة الصحفي حسبما أعتقد.. كنت قد قرّرت أن أخرج للسير بين الناس، أن أقترب منهم أكثر، أن أتبادل الحديث معهم وأتناول طعامهم، أن أستمع إلى موسيقاهم ورواياتهم للأشياء.. حينها فقط، ستحصل كصحفي على ما يتوق الناس إلى مشاهدته خلف الشاشات.. على قصص صحفية يُسمَع فيها صوت الشارع والأسواق والأزقة الصغيرة بفقرها وغناها، وصورة مشرقة لبلد يظنه الناس متخلفا.
لقد كانت أفغانستان قبل أربعة عقود بلدا تقدميا فيه جامعات ومدارس واقتصاد وفنون، بل هي بلاد جمال الدين الأفغاني، أحد أساطين مدرسة التنوير. كانت للناس آمال قوّضتها الحروب وسدت كل المنافذ بوجهها، أما التصدي لأحلامهم فهو تجارة حقيقية ينتفع بها تجار الأمن -والإشارة هنا إلى شركات الأمن التي شعرت لاحقا أنها منفعة اقتصادية أكثر منها حقيقة- ولا يغيب عنها تجار السلاح والساسة وكل من وجد في تلك الأرض الحبيسة موردا.
بصيص نور
لم يفلح ذلك السواد في خلق متاهة، فبين الناس العاديين ترى أن هناك من يعمل فعليا على خلق الأمل وينجح في أغلب الأحيان، ولن يتمكن أي صحفي من اكتشافهم إذا استمر بتتبع أخبار القتل والسياسة وحدها. واحد من هؤلاء كان "أحمد ناصر سرمست"، رجل قرر أن يترك مهجره في أستراليا التي يحمل جنسيتها، وأن يغير الواقع بطريقة مختلفة.. كان قد ورث الموسيقى عن أبيه، فأنشأ المعهد الموسيقي الأفغاني حيث يجمع الأطفال المشردين في الشوارع ودور الأيتام ويصنع منهم مبدعين شغوفين بالموسيقى بمختلف أشكالها وألوانها.. لن تدرك المشهد ببساطته إلا حين تزور تلك المدرسة وترى الأطفال يتراكضون، وتتحدث معهم وتضاحكهم، وتراهم يعزفون بإحساس عميق على كل آلة وكأنهم يروون مآسيهم، بل كأن عزلة إيجابية أخذتهم بعيدا عن واقع البلاد الأسود.
لم يكن الطريق مفروشا بالورود بالنسبة لسرمست، فقد تعرض لمحاولة اغتيال من جماعة طالبان، وهو يحتفظ بذكرى من تلك المحاولة بشظية تسكن رأسه.. جُلت في المدرسة والتقيت العديد من المبدعين، وكانت "رابعة" اليتيمة القادمة من ولاية نورستان، إحدى الحالات الجميلة التي التقيتها.. رابعة التي فقدت أسرتها في الحرب، تعزف بشكل مبدع على آلة تقليدية تُصدر أنينا حزينا كأنما يحكي قصة رابعة ذاتها.. كان القائمون على المعهد يرجونني أن نظهر الأخبار السعيدة عن بلادهم بعد أن طغى صوت الرصاص والانفجارات.
على هامش الحرب
وكما للناس في الشوراع والأزقة حكايات، فللجنود في القواعد العكسرية حكايات أيضا. رأيت ذلك أثناء مهمة صحفية أديتها في قاعدة هلمند العسكرية بأفغانستان.. كان يُفترض أن نصل القاعدة ونغادرها في نفس اليوم عائدين إلى كابل، غير أن تغييرا ما اقتضى أن نبيت فيها ليلة.. هناك وعلى هامش القتال والمعارك، تحدثنا مع الجنود، وكانت فرصتنا لرؤية الوجه الآخر للحرب.. حدّثونا عن قصصهم ومخاوفهم ومعاناتهم وشوقهم إلى أهاليهم، حتى باتت تلك القصص في نظري أهم بكثير من سرد انتصارات القوات الأفغانية على مقاتلي طالبان.. القوانين تمنعهم من الحديث أمام الكاميرات، لكن هذا لا يمنعنا كصحفيين من الاستماع لأصوات ذويهم، ورصد الإنسان فيهم لا المقاتل فقط.
تظل تلك التقارير التي أنجزتها في أفغانستان من أكثر الأعمال التي أفتخر بها وأشعر بالرضى عنها، رغم أن قصة سياسية من بينها أحدثت جلبة حين أنجزتها، فصنَّاع الزجاج والفخار والحرير والطلبة والمعلمون والموسيقيون والطامحون إلى السفر والهجرة بأحلامهم الصغيرة، هم وحدهم من يصنعون القصص الأجمل. لا أنكر أن الهاجس الأمنيَّ الشخصي من أولويات العمل، لكنه مشروط بعدم تحوله إلى خوف يحجبنا عن أصوات الناس وقصصهم.