بشيء من الحسرة، يقلب ببطء صفحات نسخة من الأعداد القديمة لصحيفة توقفت عن الصدور منذ أكثر من عام.
إبراهيم أبوعرقوب ترأس قسم التحرير في صحيفة "فبراير" لعامين قبل أن تتوقف عن النشر نتيجة غياب الدعم والتمويل عنها.
يعلق أبوعرقوب قائلا: "هو بالتأكيد شعور صعب ينتاب أي صحفي كان يجد صحيفة يعمل بها وتنشر له مقالاته أو لقاءاته أو تحقيقاته، يفتخر بانتسابه لها خاصة كصحيفة "فبراير" التي تعتبر صحيفة الدولة الأولى، نستهجن حقاً إهمال إصدارها ودعمها".
صدر أول عدد من صحيفة فبراير في منتصف سبتمبر/أيلول من عام 2011 قبل سقوط نظام القذافي بشهر تقريباً، وكانت تعتبر صحيفة رسمية تابعة للدولة وتشرف عليها هيئة دعم وتشجيع الصحافة في ليبيا.
ويضيف أبوعرقوب: "الصحيفة متوقفة عن الصدور منذ ما يقارب السنة نتيجة أعطال في المطبعة الرئيسة التابعة للدولة الليبية، صيانة هذه المطبعة تحتاج لمبلغ كبير من المال لا يتوفر عند هيئة دعم وتشجيع الصحافة التي تشرف على إصدار صحيفتنا".
وتشهد ليبيا في هذه الفترة تراجعاً كبيراً في عدد الصحف الورقية، بعد توقف العديد منها عن الطبع لأسباب مختلفة، ولم تسلم من هذه الظاهرة حتى الصحف الرسمية التابعة للدولة.
تاريخ
رغم قدم التجربة الصحفية في ليبيا إلا أنها ضعيفة مقارنة بجيرانها مصر وتونس وذلك بعد تدهور أوضاعها في أزمنة مختلفة من التاريخ الليبي.
ويعود تاريخ صدور أول صحيفة ورقية في ليبيا إلى عام 1866 حيث تأسست صحيفة "طرابلس الغرب" بأمر الوالي العثماني في ذلك الوقت، وكانت تتكون من ورقتين: الأولى باللغة التركية والثانية باللغة العربية، ثم توالت العديد من الصحف في الصدور قبل أن تنتكس الصحافة في عهد الاحتلال الإيطالي للبلاد عام 1911، حيث أوقفت بعض، خصوصاً في فترة الحكم الفاشستي في إيطاليا عام 1922.
وبعد هزيمة الإيطاليين في الحرب العالمية الثانية ودخول البلاد فيما يعرف بمرحلة الانتداب البريطاني والفرنسي 1943-1949، تحسن وضع الصحافة وتمكنت الأحزاب السياسية الجديدة من إنشاء بعض الصحف، والتي مارست إلى حد ما العمل الصحفي بحرية، كانت من أشهرها صحيفتا "الوطن" و"شعلة الحرية" في بنغازي وطرابلس.
انتعاشة وانتكاسة
وتعتبر الفترة الذهبية للصحافة الليبية في عهد المملكة الليبية 1951-1969، حيث شهدت تلك الفترة حالة انتعاش كبيرة في العمل الصحفي، ووصل عدد المطبوعات الإعلامية في ذلك الوقت إلى أكثر من 35 صحيفة ومجلة يومية وأسبوعية.
وعلى النقيض، كانت الانتكاسة الأخطر في تاريخ الصحافة المطبوعة في ليبيا خلال فترة حكم العقيد الراحل معمر القذافي 1969-2011، حيث سحبت تراخيص الصحافة بناء على قرار محكمة الشعب التي اتهمت وحاكمت رؤساء ومديري تحرير بعض الصحف بإفساد الرأي العام إبان الحكم الملكي، وتجريم حرية الرأي والفكر تحت ما يسمى قانون "تجريم الحزبية"، ثمّ جرى تأميم الصحف وضمها للقطاع العام بعد إنشاء المؤسسة العامة للصحافة قبل أن تُحلَّ هي الأخرى، لتبدأ مرحلة صحافة النقابات والروابط والصحف الثورية والتعبوية التي كان أغلب مسؤوليها تابعين لمكاتب اللجان الثورية المنفذة لأفكار وتوجيهات العقيد القذافي، ووصلت حالة تردي وضع الصحافة في ليبيا إلى حد التهديد وحتى القتل كما هو الحال مع الصحفي "ضيف الغزال" الذي عثر على جثته مقطعة الأصابع في مدينة بنغازي عام 2005 وذلك بعد كتابته بعض المقالات الحادة، وتهديده بكشف ملفات الفساد في ليبيا.
وفي عام 2007، صدرت صحيفتان في بنغازي وطرابلس "قورينا" و"أويا". ورغم أن الصحيفتين اختلفتا من حيث الشكل والمضمون عن كافة الصحف والمطبوعات الأخرى بجماهيريّة القذّافي، وإصرار مسؤوليها على أنّهما قطاع خاص ولا علاقة لهما بالدولة وأجهزتها، إلا أنهما كانتا من ضمن مشروع ليبيا الغد التابع لنجل القذافي "سيف الإسلام".
صيف خانق
بعد ثورة السابع عشر من فبراير/شباط من عام 2011، شهد قطاع الصحافة المطبوعة حالة من الازدهار بعد تأسيس مئات الصحف الأسبوعية والشهرية، وانتشرت في أغلب مدن البلاد، وشكلت بريق أمل وحلم لخلق بيئة صحفية مستقلة ومهنية، لكن سرعان ما تعرضت الصحافة لحالة من التراجع في أعدادها بشكل مخيف خلال السنوات الثلاث الماضية لأسباب مختلفة.
يقول أبوعرقوب: "وضع الصحافة في ليبيا أضحى صعباً جداً، تشتت الصحفيون وضاعت أحلامهم في صحف تضمهم سواء كانت صحفا عامة أو خاصة في ظل غياب دعم الدولة، يعمل الصحفي في ظروف صعبة بمرتبات زهيدة وأحيانا حتى دون مقابل".
وتوقع كثير من المهتمين بالصحافة أنها كانت في طريقها إلى التحول الجذري نحو صحافة حرة ومستقلة لها تأثيرها وقادرة على فرض مصلحة الوطن على أرض الواقع، إلا أن الكثير من المشتغلين بالصحافة سقطوا في فخ الجهوية وسلطة المال وهو الأمر الذي عجل بنهايتها، كما إن الانتكاسة المالية وسوء الإدارة في البلاد أصابت القطاع الصحفي في مقتل فتحول ربيعه إلى صيف خانق.
وفي هذا الاتجاه تقول رئيسة تحرير صحيفة فسانيا الصادرة من سبها جنوب ليبيا سليمة بن نزهة: "إن الصحيفة اضطرت للتوقف عن الصدور عام 2015 بسبب ظروف مادية صعبة".
وأضافت بن نزهة: "لم تتعاون هيئة تشجيع ودعم الصحافة معنا في إصدار نسختنا الورقية مطلقا، وكان علينا البحث عن طرق خاصة للطباعة، وهذا ما حدث بالفعل وعدنا مجددا لإصدار النسخة الورقية الأسبوعية، بعد تكفل بعض التجار ورجال الأعمال بتكاليف الطبع مقابل نشرنا لإعلاناتهم التجارية على الصحيفة".
فساد إداري
ويرى متابعون أن العجز المالي لهيئة دعم وتشجيع الصحافة وعدم قدرتها على دفع مستحقات المتعاونين وقصورها عن الإيفاء بالتزاماتها للمطابع، تسبب في توقف صدور عدد كبير من الصحف، وهو أمر عزاه القائمون عليها إلى عدم حصول الهيئة منذ فترة على مخصصاتها المالية من قبل الدولة، ما أدى إلى تراكم الديون وعجزها التام عن تقديم واجباتها.
إلى جانب ذلك فإن توقف الصحف يرجع أيضا إلى أسباب إدارية وسياسية، جُل القطاعات الحكومية في ليبيا -بحسب تقارير ديوان المحاسبة الليبي- تشهد حالات من الفشل والفساد الإداري وقطاع الصحافة ليس بعيداً عنها بكل تأكيد، كما أن الصراع والانقسام السياسي الحاصل في البلاد أثر بشكل كبير على استمرارية وانتشار الصحف.
وفي هذا الصدد يشدد عضو نقابة الإعلاميين المستقلين رضا فحيل، على أن سوء الإدارة والفساد المالي أصاب القطاع الصحفي في مقتل.
ويضيف فحيل: "الاختيارات السيئة في المناصب العليا في المجال الصحفي والإعلامي والفساد المستشري داخل إداراته ألحقت الأذى بالقطاع وأفشلت كل المحاولات للنهوض به، الصحافة الرسمية شبه متوقفة وهذا أمر خطير جعل الصحفيين يتجهون نحو الصحف الخاصة ذات التمويل والأهداف الخفية".
صعوبات أمنية
ويضاف إلى كل ذلك الوضع الأمني الصعب في ليبيا والذي يعرض حياة الصحفيين للخطر وهو ما يجعل العمل الصحفي أمراً مستحيلاً في بعض المناطق.
تقول بن نزهة "خلال مسيرتنا، فقدنا اثنين من زملائنا في الصحيفة وهما عبد الله بن نزهة والمصور الصحفي موسى عبد الكريم الذي اختُطف وقُتل أمام الناس، لقد تعرضنا باستمرار للتهديد وعانينا من وضع أمني خطير، الأمر الذي دفع زميلتين لنا في الصحيفة للهجرة إلى تونس وهما في وضع صعب للغاية".
العمل الصحفي في ليبيا بات محفوفاً بالمخاطر، ووصفت منظمة مراسلون بلا حدود في تقريرها لعام 2018 بأن ليبيا واحدة من أخطر دول العالم في ممارسة العمل الصحفي وأن الصحفيين ووسائل الإعلام يتعرضون لمضايقات من الأطراف المتناحرة من دون أي رادع.
ووجهت المنظمة انتقادات للسلطات في ليبية، قائلة إنها لم تتخذ خطوات كافية لتوفير الحماية للعاملين في الإعلام، وغالبا يصبح المنفى الاختيار الأفضل للعاملين في هذا المجال. هذا وتحتل ليبيا المرتبة 162 في مؤشر حرية الصحافة لعام 2018، بحسب المنظمة.
مشاكل وحلول
الانقطاعات المستمرة، والتذبذب في توجهات الصحافة، بالإضافة إلى التغييرات المتتالية والعميقة التي عرفتها الصحافة في ليبيا في أزمنة مختلفة كانت من أكبر أسباب إضاعة فرص بناء تجربة صحفية حقيقية تجمع القدرات والطاقات وتعمل لأجيال ولفترات طويلة، فيتحقق بذلك شرط التراكم الضروري لإنجاز أيّ تطور أو تقدم في هذا المجال.
يقول أبوعرقوب: "أنا ألوم الصحفيين في ليبيا أولاً، إذ عليهم أن يجمعوا أنفسهم قبل أن تجمعهم هيئة أو مصلحة أو وزارة، عليهم إيجاد نقابة قوية تجمعهم وتدافع عنهم وعن مصالحهم وتطالب بأسمائهم في كل قضاياهم أمام مؤسسات الدولة الليبية حتى يكون لهم شأن وقيمة بها".
وبالتأكيد فإن أولى الخطوات لتجاوز أزمة الصحافة الحالية ووضعها على المسار الصحيح تتمثل في عودة الاستقرار وإنهاء حالة الانقسام السياسي الذي تعيشه البلاد، بالإضافة إلى ضرورة تعديل القوانين لمنح الصحافة المزيد من التنظيم والمسؤولية، وإيجاد حلول للفوضى الأمنية وتوفير الحماية للصحفيين، والاعتراف بدورهم في تطوير الحياة السياسية والاجتماعية.. خطوات هامة وكبيرة علها تسهم في النهوض بالصحافة في بلد عانى الأمرَّين لسنوات وسنوات في هذا القطاع الحيوي.