بنطلون الشهيدة، ومطعم الدجاج الفاسد اللذيذ، وأرجو من المحرر ألايشطب هذين السطرين لأنني كتبتهما بروح المواطن الصحفي الذي يقول ما يشاء كيفما شاء عما يشاء، ولن يلومني أحد لأنني أولا وآخرا لست صحفيا، أو بالأحرى، صرت أعرف متى أدعي أنني صحفي بدليل النشر، ومتى أُنكر ذلك بدليل وسيلة النشر.
أما بروح الصحفي فأنا الآن محتار ومتخبط، خائف ومتردد، شاكّ في كل شيء، لأنني مُقبل الآن على كتابة مقال عن صحافة المواطن، وتلك الصفات تصيبني عادة عندما أفتح صفحة جديدة لكتابة أي مادة صحفية. لكن هذا المقال بالذات يوترني أكثر، لأنني بالإضافة إلى فتح صفحة جديدة للكتابة، مضطر أيضاً لفتح صفحات قديمة طويتها منذ زمن بعيد، فأنا أعتبر نفسي الابن العاق لصحافة المواطن بشكلها الحالي: منها بدأت وعليها انقلبت، وانقلابي ذاك كلفني ثمنا باهظاً في وقت الكتابة وجهد البحث والتدقيق، وأكسبني أشياء أخرى لا تُقدر بثمن.
لو بقيت متمسكاً بما وصلت إليه صحافة المواطن من استسهال لكتابة مادة صحفية وسرعة إنجازها، لما اضطررت لحذف افتتاحية المقال ثلاث مرات، ولا كنت مجبراً على مراجعة 15 مادة كُتبت عن هذا المصطلح الجديد نسبياً في مجتمع الصحافة، ولن أكون ملزماً بفتح خطوط الهاتف مع زملاء صحفيين لهم وزنهم المهني للتأكد من دقة معلومة سمعتها منهم يوما ما.
لو لم أنقلب على صفات المواطن الصحفي لما قلبت البيت رأساً على عقب بحثاً عن الدفاتر العتيقة التي دونت فيها دورات تدريبية حول صحافة المواطن التي تعلمتها بعد مضي شهور على تخرجي من الجامعة.. وجدت الدفاتر في مخزن صغير نضع فيه الأشياء التي لم نعد نستخدمها ولكنها قد تلزمنا يوماً ما، كالأواني المخدوشة التي نعيد تلوينها ونحولها إلى أصص لزراعة النعنع في البيت. وهذه الاستفادة من الشيء الذي لم يعد صالحاً للغرض الذي صُنع من أجله، يسميها أصحاب المصطلحات المختصرة: إعادة تدوير.
قبل ثماني سنوات، كنت واحداً من ثمانين تلميذاً يشقّون طريقهم إلى ما فهمنا أنه مستقبل الصحافة، تعلمنا أن نكون مواطنين صحفيين، والمواطن الصحفي يعمل بشكل منفرد ويختار هو لوحده ما يريد قوله، وبناء على هذا التصور تدربنا على الانفراد بالمادة الصحفية: تعلمنا التصوير الفوتوغرافي والفيديو، والكتابة للإذاعة والتلفزيون والمواقع الإلكترونية، والتحرير، والمونتاج الإذاعي والتلفزيوني، وفن الإلقاء، وفتحنا حسابات في فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، ومواقع أخرى كثيرة نسيتها لأنني لم أستخدمها قط.
وفي أول اختبار حقيقي للعمل في الصحافة، وجدت في وكالة الأنباء الفلسطينية (وفا) -وهي مؤسسة صحفية تقليدية أنشئت عام 1972- فرصة لإعادة تدوير ما تعلمته في دورات مكثفة امتدت لشهور عن صحافة المواطن: استخدمت صفة التفرد للمواطن الصحفي الجديد الذي يختار هو الموضوع الذي يراه مناسباً، ويُصور ويكتب ويُذيع بمفرده، لكنني نشرت في وسيلة إعلام تقليدية.
هذا التصادم بين الجديد والقديم كان تجربة مفيدة وربما نادرة، أقول نادرة لأنني خارج دائرة التغطية الإلزامية العاجلة لما يحدث في المجتمع، بمعنى أنني حُر في اختيار المواضيع التي سأغطيها، تماما مثل المواطن الصحفي الذي لا يطلب منه أحد تغطية حدث بعينه، بل ينقل هو ما يراه مناسباً. ولكن بما أنني صحفي وأعمل في مؤسسة صحفية، فعندما أختار فكرة ما لتقديمها إلى الجمهور، أضع أمام عيني مهارات الصحفي الحقيقي وأخلاقيات العمل الصحفي ومبادئه، وأبحث وأدقق وأتأكد.
اكتشفت من خلال هذه التجربة أن الصحافة حقل تجارب دائم، وكل شيء قابل لإعادة النظر والتغيير والتبديل والتراجع، وخلصت إلى استنتاج أعتقد أنه هام: أنا لست مواطناً صحفياً، لكنني صحفي مواطن.
أعرف أن اسمي العربي ليس فيه رنة موسيقية أجنبية مثل اسم الباحثة والمنظرة في الظواهر الإعلامية كليمينسيا رودريغز صاحبة مصطلح "صحافة المواطن"، وأن سعيي للتفريق بين المواطن الصحفي والصحفي المواطن لن يُؤخذ مأخذ الجد في المجتمع الصحفي العربي التابع، الذي لا يبادر في الغالب بمراجعة أو تطوير ما يصله من أفكار استوردها وقدسها.
هاتف آخر الليل
بحثت في غوغل عن مصطلح "المواطن الصحفي" ووجدت قرابة 327 ألف نتيجة، وبحثت عن مصطلح "الصحفي المواطن" ووجدت نحو 4550 نتيجة، ومن خلال الاطلاع العشوائي على محتوى المواد التي استخدمت مصطلح "الصحفي المواطن" يتبين أن المقصود هو المواطن الصحفي، وأن هناك استخداما واحدا للمصطلحين وكأنهما يشيران إلى المعنى نفسه!
اتصلت بالزميل خالد سليم في وقت متأخر من الليل.. وسليم من أمهر المدققين اللغويين في الصحافة الفلسطينية، ومرجع ضبط اللغة السري لكثير من الصحفيين:
ـ مرحبا خالد، هناك فرق بين الرجل الكلب والكلب الرجل أليس كذلك؟
ـ طبعا هناك فرق، ففي "الرجل الكلب" أنت تصف الرجل بأنه كلب، أما في "الكلب الرجل" فأنت تصف الكلب بأنه رجل.
ـ تصبح على خير خالد، متأسف على الإزعاج.
لغوياً: المواطن الصحفي يعني أن تصف المواطن بأنه صحفي، وعملياً: أصل المصطلح جاء من دور المواطن في نقل قصة أو خبر ما لجمهوره في وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا الدور اعتبره منظرو الإعلام شكلاً من أشكال الصحافة والنشر، ولأن لاعب هذا الدور ليس صحفياً بالأساس، سمي مواطنا صحفيا دفعة واحدة. أما الصحفي المواطن فيعني لغوياً: أن تصف الصحفي بأنه مواطن، ويمكننا القول إن أصل المصطلح عملياً أخذناه من فكرة وجود صحفيين حقيقيين يشبهون المواطن الصحفي في شكل العمل، لكنهم يختلفون عنه في المضمون.
أعتقد أن "الصحفي المواطن" هو المصطلح المعاكس تماما في جوهره لمصطلح "المواطن الصحفي".. ربما هذا هو الاسم المناسب للصحفي الشامل، والمنفرد، والحر في اختياراته لما سينشره في وسائل إعلام تقليدية تحافظ على المبادئ النبيلة لمهنة الصحافة، والذي ينظر للأحداث بعين المواطن وعين الصحفي على حد سواء.
قبل وفاته حاول الصحفي الدنماركي الشهير دان لارسن أن يصنع مشروعه الخاص في الصحفي الشامل الذي سيحل محل وكالات الأنباء في إعداد القصص الصحفية ونشرها.
لارسن واحد من أكثر الصحفيين تجوالاً في العالم، يعرّفنا عليه صديقه جميل ضبابات قائلاً: "تخرَّج من مدرسة الصحافة في جامعة كولومبيا-نيويورك في سبعينيات القرن الماضي، وخلال أربعة عقود خرَّج الكثير من الصحفيين في الحياة، وغطى الأخبار في كل بقاع العالم: من غابات الأمازون ومجاهل إفريقيا إلى خربة مكحول في الأغوار الفلسطينية.. صحفي قضى حياته يطور من هذه المهنة ليس في الدنمارك وحسب، وإنما في بقاع العالم".
مشروع لارسن يشبه كثيراً عمل المواطن الصحفي ولكن باحتراف وبشكل مقلوب، فبدلاً من أن يكون المواطن صحفياً، على الصحفي أن يكون مواطناً.. أعتقد أن روحه كان بداخلها فكرة "الصحفي المواطن" الذي يسير على قدميه ويلتقط القصص التي يراها مناسبة ويغطيها على مهله بطريقة صحفية احترافية، وينشر لوحده وكأنه وكالة أنباء كاملة.
سألت الصحفي جميل ضبابات عن مصير مشروع صديقه دان لارسن، فقال: "لا أعرف إن مات المشروع بموت صاحبه".
نجومٌ بلا سماء
أعتقد أن الطريقة الوحيدة لمواجهة خطر صحافة المواطن على الصحافة الاحترافية ليست في شن حرب انتقادية على هذا الشكل الجديد، إنما ينبغي على الصحفيين اختطاف أدوات صحافة المواطن وتطبيق فكرتها باحتراف، فكل صحفي مواطن في الأساس، لكن ليس كل مواطن صحفياً. وهذه المواجهة لن تنجح إلا إذا حررت وسائل الإعلام صحفييها من قيود السمع والطاعة، وأطلقتهم ليفكروا هم ويختاروا هم ما يجب تقديمه للجمهور، ففي نهاية المطاف لا يفلّ المواطن الصحفي إلا الصحفي المواطن.
تعبت وسائل الإعلام التقليدية وهي تركض وراء حلول لضياعها في زمن المواطن الصحفي، لكنها كانت تركض وراء جزئية واحدة وربما تافهة وهي: السرعة في النشر. لم تر وسائل الإعلام العربية في ظاهرة صحافة المواطن سوى جزئية السرعة، فراحت تسابق المواطنين الصحفيين في النشر.
ملعب السرعة محسوم لصالح المواطنين الصحفيين ولا حل له، وعلى وسائل الإعلام أن تلعب بعيداً عن هذه الجزئية، عليها مثلاً أن تلعب في ساحات المناطق المهمشة والناس العاديين المهمشين وتنقل همومهم التي كانت رأس مال نجاح المواطنين الصحفيين أو الناشطين الإلكترونيين، وهي التسمية الأدق لناشري المعلومات في وسائل التواصل.
خربت صحافة المواطن عندما صنعت نجوماً، هؤلاء النجوم صاروا محط أنظار مواطنين صحفيين أقل حظاً في عدد المتابعين، والمواطنون الصحفيون المغمورون صاروا يرفدون النجوم بالأخبار والصور والفيديوهات والوثائق، وشيئاً فشيئاً صار النجوم محط أنظار تُجار السياسة والمال، وتمت السيطرة عليهم مثلهم مثل أي وسيلة إعلام مملوكة في الخفاء، وبدلاً من الدور المنشود منهم في المجتمع لعب النجوم أدواراً عكسية في أغلب الأحيان.
مثلا: كشف صحفي محترف أن أحد المطاعم في فلسطين يبيع دجاجاً فاسداً للناس، وبعد الفضيحة استعان صاحب المطعم ببعض نجوم صحافة المواطن، أطعمهم بالمجان فتصوروا سيلفي ونشروا: "دجاج لذيذ في مطعم كذا".
ومثلا: نقلت وسائل إعلام معتبرة عن صفحة نجم من نجوم صحافة المواطن؛ صورة فتاة ملقاة على الأرض، وكان النجم قد أخفى قدميها بالتغبيش الفوتوشوبي قبل نشر صورتها، فكتبت وسائل الإعلام خبراً يفيد بأن جنود الاحتلال الإسرائيلي أطلقوا النار على فتاة وأصابوها في قدميها، ظنا منهم أن النجم الشهير غبّش مكان الإصابة (القدمين) حفاظا على مشاعر المشاهدين، ليتبين فيما بعد أن الرصاصة اخترقت رأسها واستشهدت على الفور، لكن النجم قرر تغبيش القدمين لأنه لم يستسغ أن تكون شهيدة وتلبس "بنطلونًا".