تخليتُ عن قصتي لأجل السمراء

تعثرت في إحدى خيام التضامن مع الأسرى الفلسطينيين المضربين عن الطعام في سجون الاحتلال بقصة صحفية اعتقدتُ أنها قوية ونادرة.

وقفت عند باب الخيمة المنصوبة على مدخل قرية نائية شرق الضفة الغربية المحتلة، ريثما ينتهي مسؤول في حزب فلسطيني من التقاط صور مع الأمهات المضربات للأسرى المضربين. وأثناء ذلك، ومن بين أكتاف مساعدي المسؤول الذين يخوضون على ما يبدو منافسة حامية في التقاط الصور لزعيمهم وهو يُسلم على القاعدات القائمات النائمات الصائمات في الخيمة، لمحتُ امرأة سمراء ساكتة تجلس في الزاوية عند المدخل من الداخل.

خرج المسؤول، وفتحَ مصوروه بابتعادهم عن باب الخيمة مجالا للهواء، فدلفت إلى الداخل مع زملائي، وأركنت الكاميرا جانبا، ريثما نتعرف إلى أمهات الأسرى وقصصهن قبل البدء بالتصوير.

وفيما كنت أسأل أخريات دون أن أرفع عيني عن السمراء الساكتة في الزاوية، بدا لي، وهي تُشيح بوجهها عن الكاميرا المطفأة، أنها لا تحب الظهور في الإعلام.

هناك اعتقاد مسبق أن الناس الذين يهربون من الصحفيين يكون لديهم في كثير من الأحيان قصص تُثري الصحافة، لقد بنيت توقعاتي على هذا الاعتقاد، وبدأت بحديث مقتضب وعام مع السمراء. كلمة من هنا وجملة من هناك، ونبشٌ بدأته خفيفا بمعول الأسئلة في تراب ماضيها، ثم نبشٌ أعمق، فثبتت توقعاتي، وقلت في نفسي "هذه قصة مدهشة إن نجحتُ في تخييط الأمس باليوم بغرز واضحة لإنتاج ثوب قصصي إخباري جذاب".

في الخيمة، وأثناء الحديث معها سرحتُ في مقدمة القصة التلفزيونية التي سأعمل عليها الآن، وسجَّلت في ذهني بداية راقت لي.. "هذه السمراء المنزوية التي أمضت شبابها في تلقيم المدافع بقذائف الهاون، لم تُلقِم معدتها بالطعام منذ أربعة أيام تضامنا مع ابنها المضرب.. إلخ".

شيئا فشيئا بدأت أخفض صوتي في طرح الأسئلة وأقتربت منها أكثر كي تخفض صوتها عندما تجيب، خوفا من أن يسمعنا أي من الصحفيين المنتشرين خارج الخيمة فيسبقني في إنجاز تقرير سريع أثناء إعدادي المتأني لقصتي التي سأضع فيها لقطات مصورة فجرا، بما أن السمراء تنام في الخيمة ذاتها.

أخذت كل المعلومات من السمراء المولودة في خيام اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، والتي بدأت حياتها العسكرية في سبعينيات القرن الماضي بالانضمام إلى حركة فتح، والتدرب في معسكر عدرا شمال شرق دمشق على تلقيم المدافع بقذائف الهاون، وضرب الآر بي جي وإلقاء القنابل اليدوية وإطلاق النار بالكلاشينكوف والمسدس.

سحبت الكاميرا عن الأرض ونصبتها على الحامل الثلاثي، خشيت أن ترتبك السمراء من معدات التصوير، فخطر في بالي على الفور وأنا أضبط إعدادات الكاميرا افتتاحية ستخفف من خوفها، كدتُ أسألها "أعتقد أن الكاميرا عندما تُنصب على الحامل الثلاثي، فإنها تشبه نوعا من الأسلحة الرشاشة التي يتدلى من مقدمتها حامل مشابه.. لا أعرف اسم السلاح بالضبط.. هل تدربتِ على شيء مشابه في الماضي؟".

لكنها سبقتني بسؤال مرعب عندما قالت لي "معقول يمنعوني أزور ابني في السجن إذا شافوا (شاهدوا) التقرير على التلفزيون؟".

فكرت بالسمراء المضربة عن الطعام في الخيمة تضامنا مع ابنها الذي يتلوى من الجوع في السجن كي يحقق مطالب، من بينها زيادة الوقت الممنوح له ولرفاقه في مقابلة أمهاتهم وذويهم أثناء الزيارة، وتخيلت بأنني في قصة صحفية عن كل ذلك قد أتسبب بمنع الأم من زيارة ولدها بدعوى الرفض الأمني، فجمعت أغراضي مودعا السمراء ومضيت عائدا إلى المكتب وأنا أفكر كيف فاتتني نقطة الضرر الذي قد تسببه قصتي للمقصوص عنها.

كان بإمكاني إقناعها كذبا بأن القصة لن تؤثر عليها، لكني لا أريد ذلك. ومع أنني لا أعرف قواعد الحجب الإيجابي للمعلومات، إلا أنني في حالة مثل التي نويت تغطيتها أستطيع أن أختار بين التخلي عن قصة من المؤكد ستكون قوية ومؤثرة، وبين التخلي عن التسبب بضرر من المحتمل أن يقع على السمراء في زيارة ابنها.

 

المزيد من المقالات

صحافة المواطن في غزة.. "الشاهد الأخير"

بكاميرا هاتف، يطل عبود بطاح كل يوم من شمال غزة موثقا جرائم الاحتلال بلغة لا تخلو من عفوية عرضته للاعتقال. حينما أغلق الاحتلال الإسرائيلي غزة على الصحافة الدولية وقتل الصحفيين واستهدف مقراتهم ظل صوت المواطن الصحفي شاهدا على القتل وحرب الإبادة الجماعية.

رزان الحاج نشرت في: 22 ديسمبر, 2024
مقابلة الناجين ليست سبقا صحفيا

هل تجيز المواثيق الأخلاقية والمهنية استجواب ناجين يعيشون حالة صدمة؟ كيف ينبغي أن يتعامل الصحفي مع الضحايا بعيدا عن الإثارة والسعي إلى السبق على حساب كرامتهم وحقهم في الصمت؟

لمى راجح نشرت في: 19 ديسمبر, 2024
جلسة خاطفة في "فرع" كفرسوسة

طيلة أكثر من عقد من الثورة السورية، جرب النظام السابق مختلف أنواع الترهيب ضد الصحفيين. قتل وتحقيق وتهجير، من أجل هدف واحد: إسكات صوت الصحفيين. مودة بحاح، تخفت وراء أسماء مستعارة، واتجهت إلى المواضيع البيئية بعد "جلسة خاطفة" في فرع كفرسوسة.

مودة بحاح نشرت في: 17 ديسمبر, 2024
الصحافة السورية المستقلة.. من الثورة إلى سقوط الأسد

خلال 13 سنة من عمر الثورة السورية، ساهمت المنصات الصحفية المستقلة في كشف الانتهاكات الممنهجة للنظام السابق. الزميل أحمد حاج حمدو، يقدم قراءة في أدوار الإعلام البديل من لحظة الثورة إلى لحظة هروب بشار الأسد

Ahmad Haj Hamdo
أحمد حاج حمدو نشرت في: 13 ديسمبر, 2024
صحفيو شمال غزة يكسرون عاما من العزلة

رغم الحصار والقتل والاستهداف المباشر للصحفيين الفلسطينيين في شمال غزة، يواصل "الشهود" توثيق جرائم الاحتلال في بيئة تكاد فيها ممارسة الصحافة مستحيلة.

محمد أبو قمر  نشرت في: 17 نوفمبر, 2024
جيريمي سكاهيل: الحرب على غزّة وضرورة العودة إلى "صحافة المواجهة"

يدعو الصحفي الاستقصائي الشهير جيريمي سكاهيل إلى إحياء ما أسماه "صحافة المواجهة" للتصدي لحالة التفريط بالقيم المهنية والإنسانية الأساسية في وسائل إعلام غربية مهيمنة، وخاصة في سياق تغطية الإبادة في قطاع غزة.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 6 نوفمبر, 2024
في السنغال.. "صحافة بلا صحافة"

شاشات سوداء، وإذاعات تكتم صوتها وصحف تحتجب عن الصدور في السنغال احتجاجا على إجراءات ضريبية أقرتها الحكومة. في البلد الذي يوصف بـ "واحة" الديمقراطية في غرب أفريقيا تواجه المؤسسات الإعلامية - خاصة الصغيرة - ضغوطا مالية متزايدة في مقابل تغول الرأسمال المتحكم في الأجندة التحريرية.

عبد الأحد الرشيد نشرت في: 5 نوفمبر, 2024
تهمة أن تكون صحفيا في السودان

بين متاريس الأطراف المتصارعة، نازحة تارة، ومتخفية من الرصاص تارة أخرى، عاشت الصحفية إيمان كمال الدين تجربة الصراع المسلح في السودان ونقلت لمجلة الصحافة هواجس وتحديات التغطية الميدانية في زمن التضليل واستهداف الصحفيين.

إيمان كمال الدين نشرت في: 28 أكتوبر, 2024
الأثر النفسي لحرب الإبادة على الصحفيين

ما هي الآثار النفسية لتغطية حرب الإبادة على الصحفيين؟ وهل يؤثر انغماسهم في القضية على توازنهم ومهنيتهم؟ وماذا يقول الطب النفسي؟

أحمد الصباهي نشرت في: 18 أكتوبر, 2024
"أن تعيش لتروي قصتي"

في قصيدته الأخيرة، كتب الدكتور الشهيد رفعت العرعير قائلا "إذا كان لا بد أن أموت فلا بد أن تعيش لتروي قصتي".

لينا شنّك نشرت في: 15 أكتوبر, 2024
عامٌ على حرب الإبادة في فلسطين.. الإعلام الغربي وهو يساوي بين الجاني والضحيّة

ما تزال وسائل إعلام غربية كبرى تثبت أنّها طرفٌ في حـرب الرواية، ولصالح الاحتلال الاسرائيلي.. في هذا المقال، يوضّح الزميل محمد زيدان كيف أن وسائل إعلام غربية كبرى ما تزال تطوّر من تقنيات تحيّزها لصالح الاحتلال، رغم انقضاء عام كامل على حرب الإبـادة في فلسطين.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 8 أكتوبر, 2024
حسابات وهمية بأقنعة عربية.. "جيش إلكتروني منظم"

أُغرقت منصات التواصل الاجتماعي بآلاف الحسابات الوهمية التي تزعم أنها تنتمي إلى بلدان العربية: تثير النعرات، وتلعب على وتر الصراعات، وتؤسس لحوارات وهمية حول قضايا جدلية. الزميلة لندا، تتبعت عشرات الحسابات، لتكشف عن نمط متكرر غايته خلق رأي عام وهمي بشأن دعم فئات من العرب لإسرائيل.

لندا شلش نشرت في: 6 أكتوبر, 2024
رصد وتفنيد التغطيات الصحفية المخالفة للمعايير المهنية في الحرب الحالية على غزة

في هذه الصفحة، سيعمد فريق تحرير مجلة الصحافة على جمع الأخبار التي تنشرها المؤسسات الصحفية حول الحرب الحالية على غزة التي تنطوي على تضليل أو تحيز أو مخالفة للمعايير التحريرية ومواثيق الشرف المهنية.

مجلة الصحافة نشرت في: 23 سبتمبر, 2024
"مأساة" الصحفي النازح في غزة

بينما تقترب حرب الإبادة الجماعية في فلسطين من سنتها الأولى، ما يزال الصحفيون في غزة يبحثون عن ملاذ آمن يحميهم ويحمي عائلاتهم. يوثق الصحفي أحمد الأغا في هذا التقرير رحلة النزوح/ الموت التي يواجهها الصحفيون منذ بداية الحرب.

أحمد الأغا نشرت في: 22 سبتمبر, 2024
من الصحافة إلى الفلاحة أو "البطالة القسرية" للصحفيين السودانيين

كيف دفعت الحرب الدائرة في السودان العشرات من الصحفيين إلى تغيير مهنهم بحثا عن حياة كريمة؟ الزميل محمد شعراوي يسرد في هذا المقال رحلة صحفيين اضطرتهم ظروف الحرب إلى العمل في الفلاحة وبيع الخضروات ومهن أخرى.

شعراوي محمد نشرت في: 15 سبتمبر, 2024
المصادر المجهّلة في نيويورك تايمز.. تغطية الحرب بعين واحدة

ينظر إلى توظيف المصادر المجهلة ضمن المعايير المهنية والأخلاقية بأنها "الخيار الأخير" للصحفيين، لكن تحليل بيانات لصحيفة نيويورك تايمز يظهر نمطا ثابتا يوظف "التجهيل" لخدمة سرديات معينة خاصة الإسرائيلية.

Mohammad Zeidan
محمد زيدان نشرت في: 5 سبتمبر, 2024
عمر الحاج.. "التحول" الصعب من العطلة إلى بؤرة الزلزال

قبل أن يضرب زلزال عنيف مناطق واسعة من المغرب، كان عمر الحاج مستمتعا بعطلته، ليجد نفسه فجأة متأرجحا بين واجبين: واجب العائلة وواجب المهنة، فاختار المهنة. في تغطيته لتداعيات الكارثة الطبيعية، التي خلفت آلاف القتلى والجرحى، خرج بدروس كثيرة يختصرها في هذه اليوميات.

عمر الحاج نشرت في: 17 أغسطس, 2024
رفاق المهنة يروون اللحظات الأخيرة لاغتيال إسماعيل الغول

كانت الساعة تشير إلى الرابعة عصرا أمس (31 يوليو/ تموز)، مراسل الجزيرة في مدينة غزة إسماعيل الغول، والمصور رامي الريفي، وصحفيون آخرو

Mohammad Abu Don
محمد أبو دون نشرت في: 1 أغسطس, 2024
في الحرب على غزة.. كيف تحكي قصة إنسانية؟

بعد تسعة أشهر من حرب الإبادة الجماعية على فلسطين، كيف يمكن أن يحكي الصحفيون القصص الإنسانية؟ وما القصص التي ينبغي التركيز عليها؟ وهل تؤدي التغطية اليومية والمستمرة لتطورات الحرب إلى "التطبيع مع الموت"؟

يوسف فارس نشرت في: 17 يوليو, 2024
الأمهات الصحفيات في غزة.. أن تعيش المحنة مرتين

أن تكون صحفيا، وصحفية على وجه التحديد تغطي حرب الإبادة الجماعية في فلسطين ومجردة من كل أشكال الحماية، يجعل ممارسة الصحافة أقرب إلى الاستحالة، وحين تكون الصحفية أُمًّا مسكونة بالخوف من فقدان الأبناء، يصير العمل من الميدان تضحية كبرى.

Amani Shninu
أماني شنينو نشرت في: 14 يوليو, 2024
بعد عام من الحرب.. عن محنة الصحفيات السودانيات

دخلت الحرب الداخلية في السودان عامها الثاني، بينما يواجه الصحفيون، والصحفيات خاصّةً، تحديات غير مسبوقة، تتمثل في التضييق والتهديد المستمر، وفرض طوق على تغطية الانتهاكات ضد النساء.

أميرة صالح نشرت في: 6 يونيو, 2024
الصحفي الغزي وصراع "القلب والعقل"

يعيش في جوف الصحفي الفلسطيني الذي يعيش في غزة شخصان: الأول إنسان يريد أن يحافظ على حياته وحياة أسرته، والثاني صحفي يريد أن يحافظ على حياة السكان متمسكا بالحقيقة والميدان. بين هذين الحدين، أو ما تصفه الصحفية مرام حميد، بصراع القلب والعقل، يواصل الصحفي الفلسطيني تصدير رواية أراد لها الاحتلال أن تبقى بعيدة "عن الكاميرا".

Maram
مرام حميد نشرت في: 2 يونيو, 2024
فلسطين وأثر الجزيرة

قرر الاحتلال الإسرائيلي إغلاق مكتب الجزيرة في القدس لإسكات "الرواية الأخرى"، لكن اسم القناة أصبح مرادفا للبحث عن الحقيقة في زمن الانحياز الكامل لإسرائيل. تشرح الباحثة حياة الحريري في هذا المقال، "أثر" الجزيرة والتوازن الذي أحدثته أثناء الحرب المستمرة على فلسطين.

حياة الحريري نشرت في: 29 مايو, 2024
"إننا نطرق جدار الخزان"

تجربة سمية أبو عيطة في تغطية حرب الإبادة الجماعية في غزة فريدة ومختلفة. يوم السابع من أكتوبر ستطلب من إدارة مؤسستها بإسطنبول الالتحاق بغزة. حدس الصحفية وزاد التجارب السابقة، قاداها إلى معبر رفح ثم إلى غزة لتجد نفسها مع مئات الصحفيين الفلسطينيين "يدقون جدار الخزان".

سمية أبو عيطة نشرت في: 26 مايو, 2024