ليس هناك رقم محدد في نقابة الصحفيين الفلسطينيين، يُمكنك من خلاله حِساب نسبة الصحفيين الذين دخلوا بيت الصحافة وأتقنوها خير إتقان، دون أن يمروا من باب دراستها في الجامعة كتخصص أكاديمي، لكن هناك ملاحظات يعرفها جيدا كل من عَمل في الصحافة العالمية من الفلسطينيين، وبإمكان أي واحد من هؤلاء أن يؤكد لك بأن معظم زملائه الناجحين في الصحافة العربية والدولية لم يتتلمذوا عليها في الجامعات، بل جاؤوا من تخصصات أخرى.
والدخول من هذا الباب كبداية للمقال لا يهدف إلى قصف الجامعات الفلسطينية التي تُعلم الصحافة بصواريخ النقد؛ قد يكون النقد هنا مشوقا ومغريا للكتابة، لكنه ليس مفيدا.
وليس جديدا القول إن كليات الإعلام في الجامعات العربية والفلسطينية نموذجا، لا تُعلم الصحافة؛ فنقرة واحدة على باب محرك البحث العالمي "غوغل" ستفتح لك مئات المقالات الناقدة والناقمة على طريقة تعليم الجامعات العربية تخصص الصحافة. وبما أن طوفان النقد لم يدفع الجامعات لتطوير برامجها الدراسية، ترتد مسؤولية البحث عن العلم الجيد على دارسي وخريجي الصحافة والإعلام، إن شاؤوا تطوير مهاراتهم في السباحة في بحر الصحافة.
يقول جميل ضبابات، مدير مكتب وكالة وفا في مدينة نابلس الفلسطينية " تعلمت من كتاب "تقرير إلى غريكو" في تحسين مضامين الكتابة الصحفية أكثر مما تعلمت من مناهج الجامعة كلها".
وفي مفتتح كتابه العظيم يقول نيكوس كازانتزاكي "أجمع أدواتي: النظر والشم واللمس والذوق والسمع والعقل. خيَّم الظلام وقد انتهى عمل النهار. أعود كالخلد إلى بيتي الأرض. ليس لأنني عجزت وتعبت من العمل، بل لأن الشمس قد غربت. وهذه عقيدة الصحافة".
صحيح أن الفيلسوف نيكوس كازانتزاكيس الذي أوفدته صحيفة "اليغيثروس لوغوس" اليونانية إلى فلسطين بين عامى 1926 - 1927 من أجل تغطية احتفالات عيد الفصح وأعياد الميلاد فى القدس، لم يوجه هذه المقدمة الفذة للصحفيين، لكن ضبابات يعتقد أنه على الصحفيين تلقفها وشكره على هذه القاعدة الذهبية في العمل الصحفي.
يرشدنا ضبابات هنا إلى واحدة من وسائل التعلم الحقيقي خارج الجامعة، وهي القراءة في كتب لا علاقة لها بالصحافة ظاهريا، لكن يمكن التعثر في بطنها والوقوع على قواعد ذهبية للعمل الصحفي.
الصحفيون الغربيون في البلدان المتقدمة يفعلون ذلك بطريقة منتظمة عندما يتلقون تعليما في الإنسانيات قبل دخول الصحافة، من فلسفة وآداب وتاريخ.. إلخ.
للتعليم الجامعي في فلسطين مشكلات عدة في صناعة الصحفيين، أبرزها الاعتماد المفرط على المادة النظرية والتلقين الذي يتمدد من أول فصل في الجامعة إلى آخر دقيقة من سنتها الرابعة، وهذا كله على حساب التطبيق العملي والتدريب الذي يعتبر عمود العلم في الجامعات المتقدمة.
وهناك سبب آخر مهم يتعلق بقلة الأكاديميين المهنيين الذي مارسوا الصحافة قبل تدريسها، فعليا، من النادر أن يترك صحفي ناجح عمله في الصحافة ويتفرغ لتعليم طلاب الصحافة أصول المهنة، فالأستاذ الجامعي ليس نجما مقارنة بالمراسل الصحفي أو المصور أو المذيع الناجح.
تعتمد جامعة النجاح مثلا، وهي أكبر جامعة في فلسطين، المعايير الأكاديمية لدى مؤسسة الاعتماد الأكاديمي لبرامج الصحافة والإعلام الأميركية(AEJMC) لعام 2006،كمرجعية لبرنامجي الصحافة المكتوبة والإلكترونية والإذاعة والتلفزيون، بعد إجراء بعض التعديلات عليها.
وحسب الخطة الدراسية لبرامج الصحافة والإعلام في النجاح، يترتب على الطالب أن يدرس أربع سنوات لاجتياز 126 ساعة دراسية معتمدة، منها 12 ساعة فقط للتدريب العملي، أي أن ما نسبته أقل من 10% من البرنامج الدراسي الطويل سيكون للعلم التطبيقي، فيما أكثر من 90% للمادة النظرية.
يقول خبير الإعلام هشام عبد الله الذي عمل لنحو ثلاثين عاما في الصحافة، عشر منها في وكالة الأنباء الفرنسية، وعشر سنوات أخرى في راديو فرنسا الدولي، ومثلها في راديو سويسرا: "الجامعات تُخرج جامعيين حملة شهادات، لكن الشهادة لا تصنع صحفيا مهنيا، كما لا تصنع طبيبا بارعا".
ويضيف "هناك جامعات أفضل من غيرها، ومن خلال خبرتي المتواضعة بالعمل مع الصحفيين وتدريبهم أستطيع أن أقول إنه ثمة طلاب صحافة من جامعة معينة أفضل من طلاب جامعات أخرى".
الحل كما يقول عبد الله، لا يتوفر عند الجامعة فقط؛ فالصحافة نتاج تربية وثقافة ويرتبط حسن أدائها بعوامل خارج نطاق المدرسة والجامعة.
ترتبط الصحافة بالشخصية والإيمان والالتزام بأن الجمهور يستحق الأفضل، والإيمان بالحريات وبكرامة البشر وحقهم في حياة أفضل.
ويجب أن يكون لدى الصحفي رؤية واضحة عن الصالح العام، والفرق بين العام والخاص. ثمة أخلاقيات ومبادئ عظيمة تحكم مهنة الصحافة، والصحفي الذي لا يمتثل لهذه المبادئ لن يكون صحفيا. هذه أمور لن يبلغها الصحفي الذي يضع يديه في ماء بارد وينتظر أن تلقمه الجامعة علوم الصحافة بالمعلقة.
وهنا يرشدنا عبد الله إلى جملة من أدوات صناعة صحفي محترف لا علاقة لها بالجامعة، ويضع هشام الجزء الأكبر من المسؤولية على كتف الصحفي نفسه خارج أسوار الجامعة وحدودها الضيقة.
يدرك الصحفيون الفلسطينيون بعد فترة من تجريب الصحافة كمهنة أن شهادة الجامعة ليست إلا جواز سفر لا مفر من حمله لدخول حدود عالم الصحافة، لكن كيف دخل آخرون لم يحملوا هذا الجواز إلى هذا العالم! الجواب: هؤلاء حفروا أنفاقا إليه، بمعنى تعبوا على أنفسهم أكثر من الذين اكتفوا بكتاب الكلية.
في الآونة الأخيرة نشر عباس ناصر مراسل الجزيرة السابق في لبنان على صفحته في فيسبوك ملاحظاته في المهنة، في واحدة من هذه الملاحظات يرشدنا ناصر إلى عدم الاعتماد على الجامعة فقط كأساس للإبداع، ويقول "التعليم أو التدريب قد يصنع محترفاً، ينجز واجبه بشكل جيد، لكنه لا يصنع مبدعاً أو موهوباً. الإبداع جزء من الشخصية. لا يُصنع".