أوفدتني مجلة الجزيرة قبل شهر من هذا التاريخ لإعداد ملف عن كولومبيا بعد قرار وقف الحرب الدائرة منذ أكثر من خمسين عاما، بين الحكومة والقوات المسلحة الثورية الكولومبية المعروفة بالفارك. كان هناك استفتاء شعبي حول قبول السلام أو رفضه انتهى بنتيجة صادمة، حيث قرر غالبية المشاركين بالاستفتاء التصويت بلا.
خلال تلك التغطية التقيت عددا من الصحفيين ومصورا صحفيا عايشوا تلك الحرب التي لم يسلم من تبعاتها أي جيل. أنطونيو موراليس ريفيرا، صحفي على مشارف الستين من العمر، كان من بين الذين التقيتهم.. كان ريفيرا من الصحفيين الذين غطوا مجزرة صبرا وشاتيلا التي قتل فيها لاجئون فلسطينيون عام 1982، وكان يشرح لي ما رآه وكأنه حاضر أمامه في اللحظة، حتى أن كل ما قرأته عن تلك المجزرة تلاشى من مخيلتي أمام تلك الرواية من شاهد عيان يروي تفاصيل ما شاهد دون أن تعطّل كل تلك السنين ذاكرته. هل كان ريفيرا ينتظر أن يستمع لرواية مرتكبي المجزرة وقد رأى بأم عينه جثث ضحايا مدنيين لنساء وأطفال وشيوخ ورجال عزّل في مخيم فقير؟
لقد عاد ريفيرا إلى موطنه كولومبيا وهو أشد حنقا على الآلة الاستعمارية وعلى روايتها وانتمى للمتمردين في الحركة المسلحة في ذلك الوقت (إم – 13) وحمل السلاح لفترة وقاتل ضد جيش بلاده الذي كان تحت سيطرة حكومات يمينية صادرت أراضي الفلاحين والسكان الأصليين ما أسفر عن نشوء تلك الحركات. لاحقا، قررت تلك الحركة تسليم السلاح والانخراط في العمل السياسي.
أسوق هذا المثال لمقاربته مع الصحفيين الذين يعملون اليوم وسط مجازر سوريا وآخرها مجزرة حلب التي يغطي جزءا منها مراسل الجزيرة عمرو الحلبي، حاملا في الوقت ذاته كنيته المرتبطة بالمكان وكاميرته التي تعمل على توثيق أحداثه. حاولت التواصل معه لكنني لم أوفق في ذلك لأسباب مفهومة.
ربما أبالغ في اعتقادي أنني سأحصل منه على رأي أو تصريح في غمرة ما تشهده مدينته من كارثة إنسانية، لكن تساؤلاتي ستبقى مشروعة عما يفكر صحفي يوثق الموت والدمار في أرضه وهو خلف الكاميرا أو أمامها. كيف عليه أن يتناسى خوفه وردات فعله حين يكون على الهواء أو حين يعد تقريرا؟ كيف يحافظ على نبرة صوته ويحبس أنفاسه من اللهاث أو يكتم شهقاته إذا تعثرت كاميرته بجثة، على الأغلب، يعرف صاحبها؟
وبالعودة لمثال كولومبيا فهو مطروح ربما لتشابه الظرفين؛ إذ أن طرفي النزاع هم أبناء البلد الواحد، دون أن ننسى التحالفات الداعمة لكل طرف ودون أن ننسى الاختلال في موازين القوى. ريفيرا مثلا، بدا على دراية وفهم لحيثيات الصراع في الوطن العربي لأنه عايشه عن قرب وبدت روايته غير متأثرة البتة بالرواية الغربية، لذا –ولا أقول عن هذا تحيزا- فهو أحد المدافعين في كتاباته عن الحق الفلسطيني والمهاجمين لدولة الاحتلال التي يربطها ببلاده كولومبيا علاقة وثيقة. ختم لي كلامه بالقول إن تغطيته للحروب ومشاركته بها أوصلته لنتيجة أن العمل السياسي مهما كان بطيئا إلا أنه الأفضل.
المصور الصحفي الكولومبي سانتياغو إسكوبار هراميو (مواليد 1979)، قتل عمه خلال النزاع الدائر في بلاده وهُجِّرت عائلته وغطى جزءا من الصراع في بلاده موثقا ذلك بالكاميرا. كانت آلة التصوير تعمل دون توقف وكوابيسه الليلية كذلك. ما حدث مع عائلته ثم عمله مصورا صحفيا موثقا للحروب بين أبناء بلده أصابه بإحباط شديد حتى قرر منذ عام 2009 أن تكون الصورة جزءا من مشروع فني يهدف لمعالجة ضحايا الحرب الذي يعتبر نفسه واحدا منهم.
عرضت مجلة الصحافة لأكثر من مصور ومراسل صحفي عاينوا أهوال الحروب ووثقوها بعدساتهم وتقاريرهم، ورغم ما يتعرضون له من مخاطر لا ضامن لصدها، إلا أنهم عادة ما يقيمون في أماكن خاصة بالصحفيين. بيد أنه في حالة المراسلين والمصورين في الأماكن المنكوبة بسوريا تُفتقد تلك الميزة وهو الأمر الذي نشهده مع "الحلبي" المراسل الصحفي الوحيد المتواجد في حلب.