التميّز والشغف هو ما يميّز فئة الصحافيين العرب الذين تنتمي إليهم زينة خضر. فقد صعدت زينة سلّم الإعلام درجة درجة بدءاً بالعمل كصحافية في محطات تلفزيونية محلية وانتهاءً بقناة الجزيرة الإنجليزية. وقد حالفني الحظ كثيراً لأعمل معها في الميدان كمعدّ ومحرر إخباري ومنتج منفّذ من مكاتب الجزيرة الإنجليزية في قطر.
وليس خافياً على كل من عملوا مع زينة أنها شغوفة بشكل استثنائي بعملها وما تؤمن به. وهي مقدامة تتمتّع بالشجاعة وتلزم نفسها والفريق الذي تعمل معه بأعلى المعايير الأخلاقية.
ولم تكن تغطيتنا للأزمات والحروب المتواصلة التي تمّزق منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تتعلّق بتغطية المعارك والقتال، بل كنا نتخذ من القصة الإنسانية محوراً وجوهراً لتكون محركاً لتغطيتنا الإعلامية. ومن ليبيا وأفغانستان مروراً بالعراق وباكستان وصولاً إلى الفليبين وسوريا، أثبتت زينة أنها بارعة في رواية القصص الصحافية. فهي دائماً تثابر لتستخرج معنى من فوضى الحروب التي تجتاح بلداننا، ودائماً تقدم السياق المطلوب.
بالنسبة إليّ كان العمل مع زينة على الحدود السورية التركية أحد أصعب المهام التي أوكلت إليّ. فطوال أيام كنّا ندرس الخرائط للعثور على طرقات "آمنة" للدخول إلى سوريا مع إحدى المجموعات المعارضة في شمال سوريا.
كان هدفنا بسيطاً وهو تسليط الضوء على أهوال الحرب وقتامة الألم الذي يتسبب به الإنسان. وقد تحوّل العمل داخل سوريا إلى كابوس لجميع الصحافيين لما كان يشكّله من خطر على سلامتهم. فجبهة النصرة التابعة لتنظيم القاعدة كانت تقاتل في سوريا وبعدها بقليل تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام. تبع ذلك تحالفهما ومن ثم اختلافهما فيما بعد، ما زاد الأمور تعقيداً.
وجاءت خطة دخول سوريا لتغطية القتال بين قوات النظام السوري ومختلف المجموعات المسلحة بشكل أساسي بعد عشرات الاتصالات المتقطعة عبر سكايب أو فايبر مع ناشطين وأطباء محاصرين وعمال إغاثة ومقاتلين. ومن التحديات الدائمة التي واجهناها كان التعامل مع الناس المتواجدين على الحدود والذين أرادوا مساعدة فريقنا على العبور إلى سوريا، وذلك لأن اعتقالك أمر وارد في أي لحظة، لكن توقيف فريقنا كان سيعني تبخّر أيام وليال من التحضيرات. وفي مرحلة ما، قررت تركيا إغلاق الحدود الرسمية أمام أي صحافي يرغب في العبور إلى سوريا، وإن عبرت سيكون ذلك على مسؤوليتك. وفي ذروة المعارك في إدلب وحلب، كان تواجد فريقنا داخل سوريا محفوف بالخطر، لذلك كان علينا تقييد مهامنا لبضعة أيام وأحياناً ليوم واحد. كما أن التوتّر الذي ينتابك حين تعرف أن زملاءك في سوريا بمفردهم لا يمكن وصفه. فبمجرّد عبورهم الحدود، لن يكون بيدك أي حيلة تجاههم. وزينة مع فريق صغير يضم شخصين أو ثلاثة بمفردهم، لا يقودهم سوى البحث المكثّف الذي أجروه والعلاقات التي أقاموها في سوريا، واعتمدوا فقط على حدسهم الصحافي. وتوصّلت زينة وفريقها إلى ضرورة الامتناع عن السفر ليلاً والتنقّل فقط في النهار لتقليص خطر تعرضهم للخطف.
أصبحت زينة واحدة من أوائل الصحافيين الدوليين الذين سمح لهم التصوير مع تنظيم الدولة في سوريا قبل أن ينفصل التنظيم عن "القاعدة". لم يكن الأمر مخططاً له ولكن كان على الفريق أن يمر في قرية دانا القريبة من الحدود التركية والتي يسيطر عليها التنظيم لكي يغادر سوريا.
ولكنّ اتساع رقعة انتشار تنظيم الدولة في سوريا بعد ذلك جعل عملنا أكثر خطراً. كانت الغارات الجوية والخطف والقتل، تهديدات حقيقية، وتحوّلت سوريا إلى أخطر مكان في العالم. وهذا ما جعل معظم الصحافيين الأجانب يلتزمون الحدود التركية السورية لإجراء تغطياتهم. وخلال إحدى تلك المهام على الحدود في أيار/مايو 2016، أجرينا هذه المقابلة مع زينة خضر المراسلة الحربية في الجزيرة، التي صنعت نفسها بنفسها.
عوّاد جمعة: ما الذي دفعك لتصبحي صحافية؟
زينة خضر: كنت أدرس العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت حين أرادت إحدى المحطات المحلية أن تبدأ خدمة إخبارية باللغة الإنجليزية. وسألني أحدهم في الجامعة ما إذا كنت أرغب في إذاعة الأخبار. لم أكن حينها قد فكّرت مطلقاً بالعمل في مجال الأخبار، بل كنت أتطلّع للعمل في السلك الدبلوماسي أو في منظمة دولية كالأمم المتحدة.
عوّاد جمعة: إذاً ما الذي دفعك إلى البقاء في مجال الصحافة وكيف ترين دورك كصحافية تغطّي النزاعات الآن؟
زينة خضر: إنه مجال مذهل. أحب الالتقاء بالناس والإصغاء إليهم. قد يقول كثيرون لي إني لا أتوقف عن تغطية النزاعات، غير أن تغطية الحرب ليست فقط عن الخسائر البشرية والتفجيرات والدمار. بل هي أيضاً عن السياسات التي تقف وراء الحرب وهي أمور أعتقد أنه من المثير للاهتمام أن نحاول فهمها.
في المقابل، يمكنك كصحافي أيضاً أن تحدث فرقاً بطريقة أو بأخرى لا سيّما حين تعمل لصالح محطة تلفزيونية. سأعطيك مثالاً واحداً فقط: كان هناك فتاة صغيرة في بلدة عرسال اللبنانية. وكانت في الرابعة عشر أو الخامسة عشر من العمر. وكان أهلها غير قادرين على تسديد إيجار منزلهم فأرادوا تزويجها لمالك أراضٍ يبلغ من العمر 48 أو 50 عاماً. كانت الفتاة تبكي وتقول لي: "عليّ أن أفعل ذلك كي تبقى عائلتي في المنزل". ولكن بعد بث التقرير عنها، أبدى الناس رغبتهم في التبرّع بالمال. ولكنّي لم أتدخّل في الجانب المالي لأنه ليس من شأني بل لعبت دور حلقة وصل بين الناس ومكتب الأمم المتحدة في بيروت. وبالفعل وجدوا لها منزلاً جديداً ولم تضطر للزواج من ذلك الرجل أبداً. ثمة الكثير من الفتيات مثلها، لذلك ستشعر بالرضا حين يساعد تقرير كهذا في تغيير حياة شخص ما.
الصحافة الميدانية: القصة الإنسانية
عوّاد جمعة: أثناء تغطية الحروب، دائماً ما يكون من الشائك الوصول إلى مواقع القتال. وأنتِ مثلاً، غطّيتِ الحرب السورية من اليوم الأول. فكيف تخبرين قصص الحرب من دون أن يكون لديك إمكانية الوصول إلى الرواية الكاملة؟
زينة خضر: أولاً أعتبر نفسي محظوظة لأنّي دخلت سوريا كثيراً قبل الحرب، أحياناً كسائحة وأحياناً أخرى كصحافية. وهذا جعلني آلف هذا البلد وأعرف ناسه وحكومته. وكوني من لبنان الذي يتشارك جزءاً من حدوده مع سوريا، يساعدني أيضاً على فهم السياسات السورية. ولكن بالطبع يصعب دائماً إجراء التغطية من داخل سوريا نظراً إلى القيود المشددة التي تفرضها الحكومة. ولكن في بداية الثورة في آذار/مارس 2011، كان لا يزال لـ "الجزيرة" مكتب هناك. فكان لدينا رخصة للعمل في دمشق ولكن ليس في بلدة درعا الجنوبية التي انطلقت منها شرارة الاحتجاجات. غير أننا ذهبنا سراً إلى تلك المنطقة وبمساعدة الأهالي، كنّا أول فريق إعلامي يغطّي الأحداث من درعا. كانت رؤيتنا للناس هناك والحديث إليهم كافياً لنفهم لماذا نزلوا إلى الشارع. كان الناس يخبئوننا وينقلوننا من غرفة إلى أخرى. كان الخوف كبيراً ولكنّ الشجاعة كانت كبيرة أيضاً. رأيت بنفسي أهالي البلدة من مدرّسين ومحامين وسباكين، ينزلون إلى الشارع ويطالبون بالإصلاحات. في ذلك الوقت لم يجرؤ أحد منهم على القول "نريد إسقاط النظام" أو التلفّظ باسم بشار الأسد. كانوا ينادون فقط بالإصلاحات. ولكن حين كنا نضغط عليهم وتكون الكاميرا مطفأة كانوا يقولون "حسناً، أنت تعلمين، لقد طفح الكيل من هذا النظام ومن الذلّ الذي تحمّلناه على مرّ السنين". ولم تمرّ سوى أسابيع حتى أغلق مكتبنا ومنعت "الجزيرة" من الحصول على تأشيرات.
حينها لم يعد لدينا خيار سوى المراسلة فقط من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. وكنّا ندخل إلى سوريا ونخرج منها من الجانب التركي. وبالفعل غطّى الكثير من الإعلاميين الأحداث من الحدود ولكنّنا رأينا ما كان يحدث مباشرة، وهذا ما منحنا بصيرة. فعلى سبيل المثال أدركنا سريعاً مثلاً بأن هناك انقساماً حاداً في صفوف المعارضة وهو أمر لن تفهمه حقاً إن لم تره بنفسك. فقد كان هذا المعسكر يفتقد إلى الوحدة وهو ما ثبت أنه مكمن ضعف المعارضة طيلة النزاع. ونحن دخلنا وبنينا علاقات مع الناس والناشطين لذلك عرفنا مَن من بين هؤلاء محل ثقة ومن ليس كذلك. ولكنّ مجدداً، فقدنا إمكانية الوصول إلى الجانب الحكومي، إلاّ أننا استطعنا التعويض عن ذلك بقراءة الصحف الموالية. فنحن على يقين أن الإعلام في العالم العربي مسيّس. اقرأ صحيفة "الأخبار" أو "السفير" مثلاً، ستعرف فوراً ما هو موقف النظام السوري. فالجميع يبعث الرسائل السياسية من هنا ومن هناك. لذلك كان عملي يقوم على وضع وجهتي النظر في التقرير على أن يقرر الجمهور بنفسه ما الذي حصل فعلاً. في نهاية المطاف نحن صحافيون ولسنا مدّعين في محكمة.
أهمية السياق
عوّاد جمعة: أشرتِ إلى نوعين من المهارات يجب أن يملكهما الصحافيون لتغطية حدث ما حين يتعذّر الوصول إلى موقعه. الأول هو قراءة مختلف المصادر والجانبين المتعارضين للقصة، والثاني هو الروابط الإنسانية التي تقيمينها مع مصادر داخل منطقة النزاع. أنت تعرفين المنطقة جيداً ولكن بماذا تنصحين شخصاً عليه تغطية حرب أهلية في مكان آخر؟ هل تعتقدين أن هذه المهارات قابلة للنقل؟ ما هي نصيحتك لصحافي متدرّب أو صحافي شاب جديد يخرج للمرة الأولى لتغطية نزاع استقطابي ليس لديه أي خلفية عنه كالتي لدى شخص من تلك المنطقة؟
زينة خضر: يجب عليك فعلاً أن تقضي وقتك في الإصغاء والتحدث إلى الناس لفهم ما يحدث وليس فقط الإصغاء إلى ما يقوله السياسيون. ستفهم القصة أكثر حين تتحدث أكثر إلى الناس على الأرض. من الأمثلة على ذلك أنّه صحيح ليس لدينا إمكانية للوصول إلى دمشق ولكن في لبنان يوجد الكثير من الدمشقيين الذين يمكننا التحدث إليهم وفهم ما الذي يجري هناك، لذلك فالناس عنصر بالغ الأهمية. كما أن القراءة المكثفة تساعد أيضاً فالعديد من النزاعات اليوم لها ماض تحتاج إلى فهمه كي تفهم الحاضر. أقصد أن ما يجري في سوريا لم يحصل بين ليلة وضحاها.
عوّاد جمعة: وما الذي يعنيه ذلك؟
زينة خضر: في الكثير من الأحيان لم نغطّ حقيقة أن الحرب السورية هي بشكل أو بآخر، حرب طبقية. اليوم يتحدث الجميع عن حرب مذهبية ولكنّها في واقع الحال، بدأت بانتفاضة شرائح مهمّشة في الأرياف. عليك العودة إلى برنامج التحرير الاقتصادي الذي وضعه بشار الأسد في العام 2000 لتفهم لماذا سكّان ريف حلب هم الذين اجتاحوا شوارع المدينة وليس سكان المدينة الذين كانوا راضين عن أحوالهم ولديهم أعمال وعلاقات جيدة. إن لم تفهم هذه الأمور الصغيرة، فلن تفهم الوضع. الأمر ليس فقط صاروخاً سقط هنا ومستشفى دمّرت هناك وعشرة أشخاص قتلوا هناك. الأمر أكبر من ذلك بكثير. فالناس الذين ليس لديهم شيء أو لديهم القليل ليخسروه كانوا أكثر استعداداً للنزول إلى الشارع والمخاطرة بكل شيء. أما الذين يعيشون حياة مريحة وأبناؤهم قادرون على الذهاب إلى الجامعات والعثور على وظائف، ففكروا مرتين قبل أن يتظاهروا ضد النظام. فطوال عقود، كان الأغنياء ومن لديهم علاقات مع نافذين في الدولة، هم من يستطيع العثور على وظائف وعيش حياة كريمة. أما الغالبية فشعرت بأنها مقموعة ومنسية. وهذا اليأس هو بالتحديد ما دفع الناس إلى الانتفاضة وكسر حاجز الخوف.
عوّاد جمعة: الأمر مرتبط بالسياق إذاً.
زينة خضر: بالضبط، كل شيء مرتبط بالسياق.
عوّاد جمعة: إذا وضعنا كل ذلك في الاعتبار، كيف يبقى الصحافي على الحياد؟ فنحن سواء أسأنا فهم القصة أو فهمناها جيداً، قد لا نزال نتّهم بالانحياز. ما هي المهارات المطلوبة ليبقى الصحافي محايداً، إذا كان ذلك ممكناً أساساً؟
زينة خضر: كلبنانية، من السهل على أي شخص أن يقول إنّي أؤيد أحد طرفي النزاع السوري نظراً إلى مدى الانقسام اللبناني؛ أي أنك إما مع النظام أو مع المعارضة. ولكنّي فعلاً لا أستطيع أن أصنّف نفسي مؤيدة لأي منهما. فأنا أعتقد أن الجانبين ارتكبا أخطاء والناس على الجانبين هم الذين يدفعون الثمن. صحيح أننا جميعاً بشر وأني كوّنت بعض المشاعر تجاه القضية برمّتها إلاّ أنّي لا أستطيع بأي شكل من الأشكال أن أظهر تلك المشاعر لأنّ الناس سيعرفون على الفور، صدّقني. عملي يقوم على الإصغاء إلى الناس من الطرفين. هذا خيط رفيع جداً وعليك أن تكون في منتهى الحذر. فبهذه الطريقة تصون مصداقيتك. ولكن لا شك أن هذه من أصعب القضايا التي غطّيتها لأن الأطراف المتنازعة تتوقع من الصحافيين أن يؤيّدوا طرفاً دون آخر.
عوّاد جمعة: إذاً، الأمر يتعلق بإعادة التركيز على الزاوية الإنسانية التي ترين أنها المدخل إلى الموضوع.
زينة خضر: صحيح، فالناس يموتون على الجانبين. ربما يموت عدد أكبر على أحد الجانبين، ولكن إذا ارتأيت تغطية طرف دون آخر، فإن الناس سيحكمون عليك. فمتابعتي لبعض الناس على تويتر للعامين أو الثلاثة الماضية، تجعلني أدرك موقفهم من النزاع. الأمر ليس صعباً، إنه واضح جداً.
الصحافي كشاهد: الموضوعية والحياد
خالد رمضان: في العام 2003، كتب الصحافي البوسني كمال كورسباهيك مقالة بعنوان "موضوعية من دون حياد" حيث فنّد فكرة أن الإبادة هي من المسائل التي لا يمكن للمرء أن يكون حيادياً تجاهها. وسبق أن نشر مقالة أخرى عن الحياد والموضوعية في العام 1995 حيث استخدم الحرب في البوسنة ونقل الأخبار عن الإبادة ليُلخِّص أن الصحافيين قادرين أن يكونوا موضوعيين بشكل مثالي من دون أن يكونوا بالضرورة حياديين. ما رأيك في هذا السجال بشكل عام حول الحياد والموضوعية بناء على تجاربك؟
زينة خضر: لا أعتبر نفسي مرتبطة بأي من الطرفين وأعتقد أنهما ارتكبا أخطاء ولكن الحياد التام غير موجود. فحين ترتكب المعارضة فظائع، ننقلها. وحين يرتكب النظام فظائع ومجازر، ننقلها أيضاً. في النهاية، الناس هم الذين يموتون.
رأيت ذلك بأم عيني في حلب، حين انتشلوا أكثر من 80 جثة من أحد الأنهر. كانت الجثث مكبّلة مع آثار طلقات نارية في رؤوسها. وكان الناس يتوافدون للنظر إلى الوجوه لكي يعاينوا ما إذا كان بين الجثث أقرباء لهم. وكان النهر الذي وجدت فيه الجثث يجري من الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة باتجاه الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة. فهؤلاء الناس كانوا يعيشون في أراضي المعارضة وقصدوا أراضي الحكومة إما للعمل أو لشراء حاجيات ولم يعودوا. هذه حقائق مهمة يجب ذكرها، ولكن عليك أن تكون حذراً أثناء إعداد تقريرك كي لا توجّه الاتهام إلى الحكومة بقتل هؤلاء الناس. ولكن إذا أراد المرء أن يربط المعلومات والحقائق التي قدّمتها، فقد يصل إلى خلاصته الخاصة. مجدداً، نحن لا نعمل لصالح محكمة دولية تحاكم على جرائم حرب.
أعتقد أن هناك طريقة ليبقى المرء موضوعياً. فحتى لو كان لديك مشاعر داخلية، ثمة معايير صحافية يجب أن تحافظ عليها وإلاّ لماذا تمارس هذه المهنة؟ كما أن التقرير في النهاية يحمل اسمك، ما يعني أن سمعتك على المحك.
خالد رمضان: هناك أيضاً الدور المتحوّل للصحافة. فنحن نرى صحافيين يصنفّون أنفسهم ببساطة ناشطين صحافيين ويقولون إنهم لا ينقلون الأحداث فحسب بل هم شهود عليها أيضاً. لنقل إنهم شهود على جرائم حرب مثلاً وقد يتلقون دعوة إلى لاهاي (مقر محكمة العدل الدولية) أو أماكن أخرى للإدلاء بشهاداتهم. وبالفعل قدّم بعض الصحافيين مواد إلى المحكمة في قضية ميلوسوفيتش وأحسّوا بالرضا حيال ذلك. فهم يعتبرون أن صحافة المناصرة ليست صحافة سيئة. ما رأيك في ذلك؟
زينة خضر: لا أعتقد أنك ستكون ناشطاً إذا قدّمت دليلاً في محكمة، بل ستكون شاهداً. هناك فرق شاسع. إذا استدعاني أحد إلى المحكمة الآن وسألني: "ما الذي رأيته حين رُفعت تلك الجثث من النهر وكان الناس يتعرفون عليها؟"، فسأخبر ما رأيته بالضبط، كشاهدة. فبذلك لا أكون ناشطة وهذا ليس نشاطاً سياسياً. فالنشاط السياسي هو مثلاً أن تواصل القول إن الطرف الآخر يفعل كذا وكذا وأن تتجاهل بالكامل أخطاءك الخاصة أو ما تسيء فعله. هل تفهم قصدي؟ الناشطون هم من يريدون فقط إظهار جانب واحد من القصة.
خالد رمضان: إذاً، الإدلاء بالشهادة أمام المحكمة أمر جيد برأيك؟
زينة خضر: نعم. هذا عملنا. فمن المفترض أن نلعب دور "الرقيب" للجمهور. فإذا كنّا في مكان ما ورأينا شيئاً يحصل فعلينا أن ننقل ما رأينا إن لم يكن لدينا أي شك في حقيقة ما حصل.
عوّاد جمعة: أحياناً يغطّي مراسلان القضية ذاتها ولكنّهما يخرجان بتصوّرين مختلفين للحقيقة. هل تعتقدين أن هناك حقيقة واحدة أم حقائق تختلف باختلاف المشاهدين؟
زينة خضر: أنت تقصد أن المراسلين كانا في موقع الحدث ولم يكونا يراسلان من الحدود، أليس كذلك؟
عوّاد جمعة: صحيح، لنقل أنهما كانا شاهدين.
زينة خضر: ثمة ما يسمّى ظروف. لنقل إن لديك شخصاً من التلفزيون الروسي وآخر من "الجزيرة" ينقلان القصة ذاتها. بالطبع سيعدّ كل منهما تقريراً مختلفاً. فأنا مثلا لن أعرف الحقيقة كاملة ولكنّي أستطيع أن أعطيك ما أعتقد أنها الحقائق وما الذي رأيته، فهذا عملي.
خالد رمضان: هناك أيضاً منعطف مثير للاهتمام في مسألة المسؤولية والذنب. فمثلاً خلال حرب فيتنام، كان المصور الصحافي إيدي آدمز يشهد تنفيذ حكم الإعدام بعناصر من "الفيتكونغ"، في الشارع والتقط صوراً وفيديو لذلك. في مرحلة لاحقة، اعتذر من الجنرال الذي أطلق النار على أولئك السجناء لأنه أحسّ بالذنب لتدمير حياة الرجل.
وقال بما معناه أن شخصين ماتا في تلك الصورة: الشخص الذي أصابته رصاصة الجنرال والجنرال نفسه الذي قتلته الكاميرا. ولكن بغض النظر عن ذلك، لا يدين الصحافي للجنرال بأي شيء لأنه كان يقوم بعمله فحسب. ما شعورك تجاه الذنب الذي يحسّه بعض الصحافيين في مراحل لاحقة؟
زينة خضر: أحياناً تشعر بالذنب لأنّك تصوّر مأساة شخص آخر. فيصادف أنك في مكان ما ويتحوّل الشخص الذي أمامك إلى مجرّد موضوع. ولكنّك تقول حينها: "نريد تسليط الضوء على المعاناة". هذا ما شعرت به حين كنت أصوّر الناس ينظرون إلى الجثث قرب النهر ويحاولون التعرّف عليها. وبالفعل تعرّف أحد الرجال على والده وبدأ يصرخ ويركض. تبعناه حتى وصل إلى الطريق حيث بدأ يضرب الحائط ويصرخ. فقدت تماسكي للحظات قبل أن أحاول طرح سؤال عليه. فنظر إليّ وطلب أحدهم منه أن يجيبني ففعل. شعرت بعدها بالذنب وقلت في نفسي إن ذلك الرجل كان يعيش مصيبة وأنا كل ما كنت أفكّر فيه هو تسجيل تصريح منه، هل تفهم قصدي؟ ولكنّي كنت فعلاً بحاجة لمعرفة الحقيقة، لذلك أردت أن أعرف أين كان والده. فمعرفة ذلك كانت ستساعدني أن أشرح للعالم من قتل هؤلاء الناس. وفكّرت أنه إذا كان هذا الرجل يريد العدالة، فيجب أن يقول أين فُقد والده. وبالفعل قال لي: "والدي ذهب ليستلم راتبه من الجانب الحكومي ولم يعد. فُقد واليوم أجد جثّته هنا". ساعدني كلامه في شرح القصة. فهؤلاء الناس دخلوا الأراضي التي تسيطر عليها الحكومة قبل أن يُعثر على جثثهم في النهر.
التحقق من المصادر
عوّاد جمعة: ما هي الخطوات التي تتخذينها للتعامل مع المصادر والتحقق منها في بيئة عدائية مثل النزاع السوري؟
زينة خضر: الثقة بالناس تستغرق وقتاً. فعليك أن تتحدث إليهم كثيراً ليس فقط عن الحدث نفسه بل عن أمور أخرى أيضاً. بعدها ستبدأ بملاحظة ما إذا كان الشخص منحازاً أم لا. فأحياناً تجد نفسك تعمل مع منتج أو دليل على الأرض في أماكن لا تفهم لغة أهلها، لذلك عليك أن تثق بهم. وغالباً ما يكون لدى هؤلاء بعض الميل السياسي. وأنا اختبرت ذلك في العديد من الأماكن التي لا أفهم لغتها. فصحيح أنك تحتاج إلى وقت وتجربة لتفهم الناس ولكنك ستفهمهم في وقت أقصر مما تظن وستجد نفسك على بيّنة مما تتعامل معه. وحين تعرف أن هذا الشخص لديه معتقدات معيّنة فستتعامل معه بشك وحذر. لذلك أعتقد أن دخولنا إلى سوريا ورؤية الأمور بأنفسنا ساعدنا كثيراً. فأنت تقابل أشخاصا ثم تبدأ بالشعور بالثقة تجاههم وتختبرهم مرة تلو الأخرى. وحين تدرك لأول مرة أنهم يكذبون عليك، تعرف أنهم ليسوا أهلاً للثقة. الأمر يستغرق وقتاً ولا يحصل بين ليلة وضحاها.
عوّاد جمعة: ما هي الإشارات أو المؤشرات التي يجب أن ننتبه لها حين نبدأ خوض غمار الصحافة؟
زينة خضر: التعامل مع المصادر والتحقق منها هي عملية تجربة وخطأ. أعتقد أني شخص مختلف جداً عمّا كنته قبل خمس سنوات. كل يوم أتعلّم شيئاً جديداً وكل يوم أرتكب خطأ وأتعلّم منه. هذا هو المهم. عليك أن تحافظ على انفتاحك تجاه كل شيء. لا يمكن أن تثق بأي شخص يقول لك إن أمراً ما هو الحقيقة لأن الجميع حتى مصادرك لديهم نوع من الأجندة. فأحياناً يرغبون في تسريب رسالة فيخبرونك بها لأن لديهم دوافع أخرى. ليس الأمر سهلاً ويستغرق وقتاً.
عوّاد جمعة: بعيداً عن التجربة والخطأ والوقت، ما هي المعايير الأخرى التي يجب أن يستند إليها المرء لدى الإصغاء إلى مصدر أو توظيف شخص محلي للعمل معه؟
زينة خضر: أثناء عملي في حلب مثلا، كان هناك شخص أعرفه منذ سنوات ولطالما تحدثت معه عبر سكايب. كنت أثق فيه حقاً، ولكنه ليس الوحيد الذي أتحدث إليه. لديّ ثلاثة أو أربعة أشخاص غيره من المدينة أتحدث وأصغي إليهم لكي أرى إن كانوا جميعاً يخبرون القصة ذاتها. هذا يشعرني براحة أكبر حيال ما ننقله. فإن قال أحد المصادر شيئاً مختلفاً تماماً، أحاول أن أجري اتصالاً آخر وأطرح السؤال عليه مجدداً. فلا يجب أن تثق بشخص واحد فقط.
الصحافة كأداة لإخبار الناس وتعليمهم
خالد رمضان: كصحافية أنت تقدمين معلومات ولكنّ هل لديك نوع من الأجندة التي تريدين تعريف الناس عليها، مثلاً؟
زينة خضر: نعم. أعتقد أن المسألة الأهم بالنسبة لي هي أنّ الكثير من الناس يتجاهلون السياق. فمثلاً أحياناً نقول إن الروس مسؤولون عن غارة في سوريا حين لا نكون واثقين مما إذا كانت سورية أو روسية. اليوم قد يعتبر البعض أنّ لا فرق بين الجانبين فروسيا والحكومة السورية حليفان. ولكنّ الفرق كبير رغم تحالفهما. فخلال مراحل معيّنة من النزاع، أوقف الروس طائراتهم ورفضوا دعم العدوان الذي تشنّه الحكومة السورية وحليفتها، إيران. ولا يخلو الأمر من الاختلافات بين روسيا وإيران أيضاً. وأحياناً امتنعت روسيا عن الغارات الجوية لتوجيه رسالة إلى الغرب وحلفائها. فكل معركة وتقريباً كل عمل عسكري كان له معنى سياسي ومن المهم فهم كل ذلك ووضع الأمور في سياقها.
عوّاد جمعة: هذه قصة خاصة جداً وأنت تعرفينها جيداً. ولكن لنقل أنّكِ ذهبتِ إلى اليونان لتغطيتها. ما هي النقاط الرئيسية التي تسمح للصحافي بجمع العناصر التي تكوّن السياق، وما هي الأمور الأخرى التي عليه البحث عنها؟ هذا يضعنا مباشرة أمام مفهوم "صحافة الباراشوت" أو "صحافة القفز بالمظلّات". بصراحة لا أعتقد أنك كصحافية تبحث عن السياق وتثقيف القراء، يمكن إنزالك بالمظلة في مكان ما إذا كان المطلوب منك تقديم صحافة سليمة. هل توافقين؟
زينة خضر: ليس مثالياً أن يتم إسقاط الصحافي بالمظلة في مكان ما ووضعه تحت ضغط كبير. غير أن اللاعبين هم نفسهم في جميع النزاعات: الحكومة والمعارضة. ما يتغيّر هي الأسماء فقط. معظم النزاعات تكون بين الشعب والسلطة. وفي معظم النزاعات، يكون دور الجيش والقوى الأمنية أساسياً. ثمة مسائل متشابهة، لذلك عليك أن تطرح الأسئلة المناسبة وتتعرّف جيداً على اللاعبين الجدد ومواقعهم فيما يخص المسائل المهمة.
أنت بحاجة أيضاً إلى منتجين جيدين يفهمون اللغة ويكونون قادرين على القراءة من عدة مصادر وأن يكون لديهم علاقات عامة واسعة كي يتحدثوا إلى مختلف الأطراف. فحين أكون في مكان لا أتحدث لغته، أطلب من المنتج/ة الاتصال بالمعارضة وطرح أسئلة محددة عليها. ومن ثم الاتصال بالحكومة ومعرفة ما لديها لتقوله. عليك أن تفهم الصورة العامة. حتى قصص المهاجرين، مهما بدت بسيطة وسهلة، ليست مباشرة. فاليونان لديها مشكلة مع الاتحاد الأوروبي ولديها نزاع طويل مع تركيا. لذلك فحين تتحدث إلى المسؤولين، يجب أن تعرف هذه الخلفية وتأخذها بعين الاعتبار من أجل فهم إجاباتهم بشكل أفضل. يجب أن تتحقق جيداً وتتحدث إلى مختلف الأطراف وترى ما يقوله مختلف اللاعبين. على المنتجين والصحافيين أن ينظروا إلى الصورة الأكبر.
عواد جمعة: لنتخيّل أنك محررة توزّعين المهام وكنت على وشك إرسال صحافي جديد وشاب لتغطية الحرب في سوريا. وطلبت منه أن يعدّ تقاريراً عن ثلاث أو أربع قصص إنسانية. ما هي المعايير لاعتبار القصة الإنسانية جيدة؟
زينة خضر: لا يجب أن تركّز على الأمور العادية التي يعرفها الناس مسبقاً. فحين تذهب إلى مخيّم للاجئين تسمع قصصاً عن غياب الطعام والماء. لا تسئ فهمي، لست عديمة الإحساس ولكنّي أعتقد أن الصور تتحدث عن نفسها والجميع يعرف ما الذي تعنيه الحياة في مخيّم للاجئين. تعني أنّ: لست في منزلك وتعيش في ظروف مزرية. المهم إذاً هو أن تتحدث إلى الناس في مختلف المخيمات في مناطق مختلفة، فكل منهم لديه قصة مختلفة يرويها لك.
إليك هذا المثل من اليونان: كنت أعدّ تقريراً عن اللاجئين والتقيت عائلة من محافظة حمص. المثير للاهتمام هو السياق الذي توضع فيه الأمور. فالبعض قد يقول إن هذه العائلة لا يجب أن تحصل على حق اللجوء لأن المنطقة التي أتت منها لا تشهد قتالاً وتوصّلت الحكومة والمعارضة فيها إلى نوع من "المصالحة". ولكن "المصالحة" سمحت للمعارضين بالاستسلام فقط من دون أن تضمن سلامتهم. غير أن تلك العائلة أخبرتني أن أحد أبنائها مفقود والآخر مطلوب لدى السلطات لذلك لن تستطيع العودة أبداً إلى ديارها.
لا يجب أن تركّز فقط على المعاناة اليوم، بل أن تضعها في سياق أكبر. فمن خلال الإصغاء إلى هذه العائلة وحدها، يمكنك أن تفهم بأن الحل للأزمة الذي توصلت إليه الحكومة السورية مع اتفاقيات "المصالحة" هذه لا ينفع مع هذه العائلة. وهؤلاء هم عيّنة من الآلاف الذين يواجهون وضعاً مماثلاً. لذلك فمن خلال قصة المعاناة الإنسانية هذه، يمكنك الخروج بصورة سياسية أكبر بكثير تمكّن الناس من فهم ما يجري في سوريا بشكل أفضل. هذه الطريقة الأسهل لمن يتواجد في السويد أو البرازيل لكي يكوّن فكرة عن السياق ويفهم ما الذي يحصل في حمص. فصحيح أن البنادق سكتت ولكنّ السلام لم يحلّ.
عوّاد جمعة: حين يطلب من صحافي التركيز على الناس في نزاع ما، غالباً ما تكون تقاريره عن المعاناة. فالعديد منهم ليس لديهم القدرة أو المعرفة أو السياق ليشرحوا الصورة الأكبر. فالمرء يحتاج إلى مجموعة مختلفة من المهارات كي لا يركّز فقط على المعاناة وأن يروي قصة إنسانية. فنحن نخلط بين المعاناة والإنسانية والقصص التي تتمحور حول الإنسان، والتي ليست بالضرورة الشيء نفسه. ثمة فوارق بسيطة كما فهمت منك.
زينة خضر: صحيح. حين نتحدث عن قصص النازحين داخلياً واللاجئين، نغوص فيها ونحوّلها إلى قصص سياسية. نستعمل الناس كشخصيات، نخبر قصصهم وندع الصور تتحدث عن نفسها. المعاناة تتحدث عن نفسها. وستعرف أنه مهما كان شكل التسوية السياسية أو الأمور التي يتحدثون عنها، لا يوجد سلام. الأمر ليس كالقول "بدأ وقف إطلاق نار، يمكن للناس أن يذهبوا إلى بيوتهم!". الأمر ليس كذلك.
عن اختلاف وجهات النظر والهوية والسلامة
خالد رمضان: أنا مهتم جداً بأن أعرف أكثر عن سلامتك ولكن أيضاً عمّا تمثّلينه لناحية الجنسية والعرق والجندر. هل لعبت هذه النواحي دوراً في رسم الطريقة التي ينظر فيها الناس إليك؟ هل وجدت نفسك في مواقف تعرضت فيها للتمييز وكيف تعاملت مع الموقف في حال حصل؟
زينة خضر: قد تشكّل هوية الصحافيين وجنسيتهم عائقاً. فكوني لبنانية، أول سؤال يطرح عليّ حين أذهب إلى منطقة تخضع لسيطرة المعارضة هو "من أي منطقة أنت؟" لأنهم يريدون معرفة مذهبي. فلبنان مجتمع منقسم حيث الغالبية في مذهب معيّن تؤيّد الحكومة أو المعارضة السورية. من جهتي أتفادى الإجابة على السؤال وأردّ فورا: "اسمعوا، أنا هنا أخاطر بحياتي لذلك أعتقد أن عليكم احترام ذلك". يلعب الجندر أيضاً دوراً إذ يكون نعمة أحياناً ونقمة أحياناً أخرى. ففي بعض الأوقات يرفض رجال من مجموعات معيّنة التحدث إليّ لأني امرأة ولكنّي أعتقد أن هناك طريقة للتعامل مع الأمر. برأيي إن ذلك مرتبط بكيفية مقاربتك للناس إذ عليك أن تتصرّف بشكل مختلف، حازم وليس عدوانياً. فمجرّد كوني امرأة لا يعني أنّي أضعف من الباقين. كما عليك أن تكسب ثقة الناس، إذ إن الأمر برمّته مرتبط بالثقة وبكيفية تقديم نفسك للناس. والمراسلة التي تتمتع بالخبرة ستكسب الاحترام أكثر من مراسل عديم الخبرة غير قادر على إظهار الثقة بالنفس والتفهّم.
عوّاد جمعة: هل يمكنك إعطائي مثالاً ملموساً عن وضع معيّن جعلتك فيه جنسيتك أو كونك امرأة، تتصرفين بشكل مختلف؟
زينة خضر: مرة كنّا في إدلب حين كان "أحرار الشام" و"النصرة" القوة الأساسية على الأرض هناك، ولكنّ "النصرة" كانت مختلفة جداً عمّا هي عليه اليوم. وكان من الصعب عليّ الوصول إلى الزعيم حيث قالوا لي أكثر من مرة "أنت امرأة لذلك لن يقابلك". ولسوء الحظ لم يكن برفقتي شخص يتحدث العربية لكي يذهب ويجري المقابلة معه، ولم يكن خياراً أن نرسل الكاميرا ونجعله يقول ما يرغب به من دون مساجلته، لذلك لم ننجز التقرير.
أحياناً لا أتمكن من القيام بالمقابلة بنفسي وأحياناً أحصل عليها ربما لأني من المنطقة. فأنا أعرف الحدود وإلى أي مدى يمكنني الذهاب. وفي نهاية المطاف، إذا جعلت رجلاً يشعر بأنه شقيقك وأن لديه مسؤولية الحفاظ على سلامتك، فهذا عامل مساعد. ففي العالم العربي ثمة نزعة لدى الناس بأن من واجب الرجال حماية النساء ومعاملتهنّ كشقيقات. في الخلاصة، الأمر يرتبط بكيف تقارب الناس وكيف تتصرف وكيف تقدّم نفسك. وبمجرد أن تكسب احترام الناس، من المتوقّع أن يساعدوك.
خالد رمضان: هل ذلك جزء من آليتك للحماية؟
زينة خضر: نعم.
عواد جمعة: يمكن اعتبار ذلك تكيّفاً مع الظروف القائمة، إذ يجب أن يكون المرء حساساً ثقافياً وحساساً تجاه المجتمعات المحلية التي يعمل فيها كصحافي.
زينة خضر: نعم عليك أن تشرب الشاي قبل أن تضع الميكروفون أمامه وتطرح عليه الأسئلة. يجب عليك احترام الآخر. ثمة أمور صغيرة عليك القيام بها سواء كنت رجلاً أو امرأة.
خالد رمضان: ولكن ربما كونك امرأة يمكن أيضاً أن يعود عليك بالنفع، في بيئة نسائية مثلاً.
زينة خضر: نعم. كان هناك مجموعة نساء تعرّضن للاغتصاب في سجون تابعة للحكومة السورية. التقينا بهنّ في شقة في تركيا ولا أعتقد أنّ أياً منهنّ كانت لتقول ما قالت لي لو لم أكن امرأة ولو لم يكن المصوّر أجنبياً لا يفهم لغتهنّ. فكنّ يتحدثن بكل صراحة ويبكين ويعطين الكثير من التفاصيل.
عوّاد جمعة: فيما يخص تغطية النزاع في سوريا والمعاناة الإنسانية والسياسات التي تقف وراء كل ذلك، ما الذي يشكّل التحدّي الأكبر بالنسبة لك كمراسلة؟
زينة خضر: التحدّي الأكبر كان معرفة الحقيقة. ففي الحروب، يسيطر الخوف على الناس، فقد يقولون لك أموراً تعلم أنت مدى أهميتها كمعلومات ولكنّهم يخشون من أن يقولوا ذلك أمام الميكروفون لما قد يشكله من خطر على حياتهم. التحدي الأكبر هو استخراج الحقيقة لأنّ ثمة مسؤولية ملقاة على عاتقك. فيوماً ما سيحاسبك التاريخ على ما قلته أو كتبته. هذا أمر أتعامل معه بجدّية كبيرة.
حين أنظر إلى طفل أو شخص في مستشفى أو شخص فقد كامل عائلته، أقول لنفسي: "كنت أوفر حظّاً، فقد ارتدت المدرسة ومن ثم الجامعة وأتحدث لغتين ويمكنني أن أقول للعالم ما الذي يرغب هذا الشخص في قوله ولكنه لا يستطيع لأنه أقل حظاً". هذه مسؤولية وهذا ما يعطيك قوة.
خالد رمضان: كيف تتعاملين مع ذلك ومع جميع الأخطار النفسية وبماذا تنصحين زملاءك اليافعين الذين تخرّجوا للتوّ وهم متحمّسون للعمل في مناطق النزاع؟
زينة خضر: لست انتحارية، ولا أقوم بمخاطرات غير ضرورية. ليس الأمر مرتبطاً بإثبات نفسك وأعتقد أن هذا أمر مهم جداً وعليك أن تعرف جيداً متى تسحب القابس. ولا يجب أن تشعر بالحرج من الرفض أحياناً. فالرفض لا ينمّ عن خوف بل عن شجاعة. مثلاً كنّا نحن صحافيو "الجزيرة" من سحبنا قابس الدخول إلى سوريا في لحظة ما. وكنا نحن من قرر التوقف عن الدخول أيضاً. لم يكن قرار الإدارة بل قراري بعد حادثة حصلت لي. ربما حالفني الحظ واستطعنا التصوير من دون التعرّض للخطف. عدتُ مرة واحدة إلى سوريا بعد ذلك لأني لم أرغب في أن تتحوّل تلك الحادثة إلى نوع من الرهاب. ولكني لم أكن مرتاحة أبداً. وكنت أشعر أن كلّ سيارة خلفنا تتبعنا. حينها أدركت أن الوقت حان للتوقّف. وحتى حين كنّا ندخل إلى سوريا، كنا نناقش كل قصة مئات المرات ونسأل أنفسنا: هل تستحق العناء أم أن الأمر سيكون عبارة عن أصوات اشتباكات كما في كل مرة وكأن الجبهة لم تتغيّر؟ لا أرغب في إعداد تقارير من هذا النوع. بل أريد قصصاً عن الجبهات في إطار ما تعنيه في السياق الأوسع. بعدها تدخل، تعدّ التقرير وتخرج. يجب أن تقوم بمخاطرات محسوبة وتعرف جيداً متى تسحب القابس.
أهمية الفريق
رأينا الكثير من الصحافيين الشباب يعبرون الحدود بأنفسهم، لا يتحدثون اللغة ولكنهم يثقون بالجميع على الحدود، يصعدون في سياراتهم، يقصدون مدينة حلب وينتهي المطاف بالكثيرين منهم ضحايا للخطف. أما نحن فكنّا نتحقق من معارفنا الذين ندخل معهم وما إذا كانوا أهلاً للثقة. أمر كهذا يستغرق وقتاً. فأنت لا تعبر الحدود ببساطة وتدخل إلى البلد. فريقنا نجا من غارة أصابت هدفاً بعيداً عنا مئة متر فقط. رأينا الطائرة بأمّ العين وسمعنا صوت محرّكها. لم يكن لدينا مكان نختبئ فيه سوى سطح واحد. بعد تلك التجربة، استغرقت شهراً لأتعافى. وبعدها أصبحت كلّما سمعت صوت طائرة مدنية، أنحني قليلاً. ولكنّ ذلك لم يوقفنا ودخلنا مجدداً.
الأمور قد لا تسير دائماً على ما يرام ولكن ليس هذا ما تفكّر فيه بل في قصتك والهدف من وجودك هناك والوقت المحدود الذي لديك لإتمام الأمر. وعليك أن تعرف أنه لا يمكنك البقاء في مكان واحد أكثر من عشر دقائق. كما أن الفريق الذي تعمل معه في منطقة نزاع، بالغ الأهمية، لذلك إن لم تكن مرتاحاً مع من يرافقونك، لا تذهب. فأعضاء الفريق الواحد يجب أن يفهموا بعضهم من دون كلام، ويجب أن يتصرفوا بسرعة وأن يعرفوا جيداً ما الذي يفعلونه. ونصيحة: لا تثق بمن يقول لك "تعال أريد أن أريك شيئاً"، بل يجب أن تفكّر مئات المرات وأن تكون مدركاً تماماً لما يجري من حولك.
كنت أراهم (الصحافيين الشباب) يدخلون سوريا دون أي شيء، ويثقون بأي كان من دون حتى أن يفهموا اللغة، كل ذلك لأنهم يريدون القصة الصحافية. يعتقدون أنهم سيحققون انطلاقتهم الصحافية لمجرّد أنهم غطوا الحرب في سوريا. ولكن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك. فإن لم تضع القصة في السياق الصحيح، فلن تنصف الصحافة ولن تنصف الناس، والأهم من كل ذلك أنك ستعرّض سلامتك وأمنك للخطر. رأيتهم يحملون حقائب ظهر ويسيرون على نحو غير مسؤول. ولكن الواقع أنّك تحتاج إلى مساندة وتحتاج إلى مؤسسة تسندك. فتغطية الحرب ليست أمراً سهلاً لأنها كما سبق وقلت: ليست "مقتل عشرة أشخاص وتدمير منزل". الصورة أكبر من ذلك بكثير. ثمة أزمة سياسية وراء كل ذلك، ثمة سياسات تحرّك كل ذلك كما هناك في المقابل سياسات تحاول إيجاد حلّ. إن لم تكن مدركاً لكل ذلك، فلن تعدّ قصة صحافية صحيحة.
التعامل مع الصدمة
عواد جمعة: كيف يحمي الصحافيون أنفسهم من الصدمة النفسية في مثل هذه الأوضاع؟
زينة خضر: يتحدثون إلى أنفسهم.
قد تعتبر الأحاديث العادية، سطحية ولكنّ عليك أن تتقبل هذا العالم لأن الآخرين لا يرون ما تراه.
استغرقت شهراً كي لا أتوتّر في كل مرة أسمع صوت طائرة وبعدها تجاوزت الأمر. رأيت الجثث الثمانين (التي عثر عليها في النهر) بينها جثة لفتى في الثانية عشر من العمر. وحين عدنا إلى المنزل الآمن، كانت تفوح من ملابسي رائحة الموتى. لم أنم في تلك الليلة إطلاقاً. لم تبارح وجوه أولئك الناس خاطري ولكن بعد يومين أو ثلاثة، سوف تتشاور مع نفسك وتقرر الاستمرار. أقصد أنك تتصالح مع نفسك والحقائق من حولك. لا أحاول أن أكون عديمة الإحساس هنا، فأنا شخص حساس جداً ولكن يجب أن تقول لنفسك: "هذا عملي، وأنا أفعل ذلك لسبب ما".
حين ذهبت لأول مرة إلى مدينة حلب خلال الاشتباكات، كنا على الجبهة وسمح لنا مقاتلو المعارضة التقدّم شارعاً إلى الأمام. جلست هناك وفكرت بالأمر لدقيقة. ثم قلت لا، المشهد في هذا الشارع لا يختلف عن المشهد في الشارع الآخر، فما المختلف الذي سأحصل عليه؟ لذلك رفضت البقاء وبدأ الجميع يضحكون عليّ ويقولون إنّي خائفة لأني امرأة. ولكنّي لم أسمح لهم بإحراجي وأوضحت لهم أن اللقطة في هذا الشارع هي نفسها في الشارع الآخر ولكن الفرق أني في هذا الشارع قد أقتل على يد قنّاص. أما في الشارع الآخر فسأحصل على قصّتي الصحافية وأطلع العالم عليها ثم أعود إلى بيتي.
لا تحسد الإدارة على موقفها لأنه صعب جداً فهي مسؤولة عن سلامة وأمن موظفيها. لذلك من الطبيعي أن تحاول ثنيك عن الذهاب حين تشعر أنه يشكّل خطراً عليك. ولكن نصيحتي هي أن تصغي الإدارة إلى الفريق الميداني لا سيما إذا كان خبيراً في أوضاع مماثلة. فصحيح أن بعض الموظفين يقومون بمخاطرات للأسباب الخاطئة سواء لإثبات جدارتهم أو لكي يتم تصويرهم أثناء نجاتهم من رصاصة، إلاّ أن البعض الآخر يفعلون ذلك من أجل القصة الصحافية. وأنا واثقة من أنّ الإدارة قادرة على التمييز بين الفئتين. كما على الإدارة أيضاً السماح لموظفيها باختيار الفريق الذي يفضلون العمل ضمنه في المناطق الخطرة، فديناميكيات الفريق مهمة.
سأعطيك مثالاً. كنت في مصراتة في ليبيا خلال الثورة ولم يسمح لي بالمغادرة لتغطية الجبهة قرب سرت. أما سبب القرار فكان وجود تنظيم الدولة في المنطقة. غير أنّي غطّيت شمال العراق وراسلت من كركوك حيث كان تنظيم الدولة أيضاً. إذاً ما الذي يجعل مكاناً ما آمناً على عكس مكان آخر. أحياناً، تقف البيروقراطية حجر عثرة. فكركوك في الواقع أكثر خطورة لأنها مدينة لا تخضع لسيطرة جهة معيّنة، أما مصراتة فكانت تسيطر عليها جهة واحدة في تلك الفترة. وحين تسيطر جهة واحدة على مدينة أو منطقة، يكون من الصعب حصول عمليات تسلل. أضف إلى ذلك أنّ لدينا خبرة في الدخول إلى الجبهات. نحن نعرف كيف نعمل وكم يمكننا البقاء وما هو أسوأ سيناريو. تختلف النزاعات عن بعضها البعض وهو ما ينسحب أيضاً على الجبهات. لذلك فإن أخذ تجارب وخبرة المراسلين المسؤولين في الاعتبار مهم جداً لا بل أساسي أثناء تقييم المخاطر.
عوّاد جمعة: إذاً يجب أن يعرف المرء إلى أين يذهب وأن يضمن أن يكون صوته مسموعاً. تصرّين على أنك تعرفين كم من الوقت يمكنك البقاء. هل يمكنك إعطاءنا فكرة تقريبية عن المدة القصوى التي يمكن للمرء قضاءها في مثل هذه الجبهات على اختلافها؟
زينة خضر: الأمر يعتمد على البلد. فعلى سبيل المثال، في شمال العراق لا يمكنك البقاء أكثر من 15 دقيقة. فإذا أدرك الطرف الآخر، مثل تنظيم الدولة، أن هناك فريق تصوير، فكن على ثقة تامّة بأنّه سيفكر في استهدافه وسيحتاج وقتاً للتحضير. لذلك أقول 15 دقيقة كحد أقصى قبل أن يكون عليك الخروج والابتعاد عن المكان. في سوريا لا يتعدّى الأمر 10 دقائق لأن الكثير من الناس مخبرين ليس على الجبهة فحسب بل في أي مكان تقصده. فحتى في حي واحد عليك أن تواصل التحرك وتغير موقعك كي لا تعطيهم الوقت الكافي ليتحضّروا إما لخطفك أو لاستهدافك.
أحمل معي أقل ما أحتاجه، طبعاً إضافة إلى سجائري وقهوتي. أسافر بأخف حمل ممكن وضمن فريق قليل العدد. فكلما كبُر الفرق تعاظم الخطر. ونحن فعلاً لدينا عادة سيئة بأن نشكّل فرقاً من أربعة إلى خمسة أشخاص. ولكنّ الحقيقة أنه من الأفضل أن يكون الفريق أقل عدداً. فالإخلاء ومراقبة بقية الفريق أسهل، والأهم القفز إلى السيارة إن احتاج الأمر مغادرة المكان. وأنتم بحاجة أكيدة للتواصل لأنه أساسي وإبقاء شخص من الفريق في الخلف تحسبّاً لحصول أي مكروه.
فمثلاً في شمال العراق، يمكن لثلاثة أشخاص أن يبلغوا الكيلومتر الأخير قبل المكان الذي تريدون الوصول إليه وهم: المصوّر والمراسل والمرافق الأمني. أما الدليل والسائق فيبقيان في الخلف. فالعدد المتدنّي يسمح لكم بالعمل بشكل مستتر، إذ تتمكنون من تصوير ما تريدون ومن ثم تخرجون وتنسحبون من دون أن يراكم أحد. وفي اللحظة التي يراكم فيها العدو ويلاحظ وجود الكاميرا، فسيرغب بالتأكيد في أن يفتعل إشكالاً. كما أنك تحتاج إلى أشخاص يبقون في الخلف تحسباً لاضطرارك للاتصال أو للإخلاء. في الخلاصة، من الأفضل بكثير أن تبقي أشخاصاً على بعد كيلومتر أو اثنين خلفك.
أن تكون مراسلاً مسؤولاً
خالد رمضان: ماذا عن الرقابة الذاتية؟ كأن تعتقدين أن قصّة ما ستلحق ضرراً أكثر مما ستدرّ فائدة. هل ستختارين تغطيتها؟
زينة خضر: كلما زادت خبرتك، كلما أدركت أكثر أن ما يبدو مثيراً قد لا يمثل ما يجري. أحياناً قد يحصل شيء ما أمام عينيك ولكنّه لا يمثل ما يجري، رغم أنه قصة صحافية عظيمة وصورة عظيمة أيضاً. وهنا عليك أن تتراجع خطوة إلى الخلف وتقول: "لا ليست هذه القصة الصحافية التي أريد إنجازها لأنه سيتم إخراجها من السياق". إن أعددت مثل هذه القصص سيعتقد الجميع أن هذا ما يجري، في الوقت الذي تكون القصة عن حادثة شخصية أو منعزلة مثلاً.
لا تخش من أن تطرح أي سؤال حتى لو بدا غبياً لأنه قد يعطيك الجواب الحقيقي. سأعطيك مثالاً. أنت صحافي شاب في إدوميني، اليونان، لم تتابع مجريات القصة من البداية ولنقل أنك وجدت نفسك هناك فجأة بينما الناس يحاولون دفع السياج الحدودي للعبور تحت وابل من الرصاص المطاطي والغاز المسيل للدموع. فإن كنت صحافياً شاباً، يمكنك أن تتعامل مع هذا الموقف وكأنه حرب شاملة. ولكن عليك أن تطرح السؤال مئة مرة: "هل حدث ذلك من قبل؟" و"كم مرة؟". فأسئلة كهذه تضع ما تراه في سياق مناسب وإلاّ ستخاطر بالدخول وتسمع كلاماً مثل "غداً سيكون هناك تظاهرة كبيرة حيث سيسير الناس باتجاه الحدود". حينها تفكّر في قرارة نفسك: "عظيم! سيكون هذا العنوان الرئيسي غداً". أما إذا واصلت طرح الأسئلة، فستعرف حتماً أن ذلك حصل سابقاً. وستفكّر أن الناس يقومون بهذه التحركات كنوع من الضغط لإبقاء قصتهم تحت الأضواء. ومن ثم تتراجع خطوة إلى الخلف وتدرك أن القصة لن تكون العنوان الرئيسي في اليوم التالي لأنها حدث متكرر. عليك إذاً أن تطرح السؤال الغبي: هل حصل ذلك قبلاً؟ ما الذي حصل في المرة السابقة؟ ما حجم التظاهرة؟ هل يحاولون القيام بذلك من أجل سبب مختلف؟ لا تتردد في السؤال مهما بدا غبياً وواضحاً.
خالد رمضان: هل تتابعين تفاعل الناس مع تقاريرك على شبكات التواصل الاجتماعي؟
زينة خضر: نعم أتابع. بعض الناس يتصرفون بفظاظة ببساطة لأني أعمل في الجزيرة. فمثلاً، قيل لي مرّة أن تنظيم الدولة يجب أن يأسرني ويفصل رأسي عن جسدي ويرفعه على عمود. في الوقت نفسه اتهمت بأني داعمة لجبهة "النصرة". والبعض اتهمني أيضاً بأني مناصرة للنظام. ولكن في الواقع أسعدني أن الجانبين ينتقدونني. لا يزعجني كل ذلك ولكنّي أحلله كثيراً لأني أرغب في أن أتعلّم فأنا ككائن بشري، أقترف الأخطاء.
عليك أن تكون صلباً. ففي المرة الأولى التي تقرأ مثل هذه التعليقات ستصاب بالذعر. ولكن بعد ساعة تهدأ وتقول: "ليقولوا ما يريدونه" لأن ثمة أشخاصاً آخرين يعلّقون ويشيدون بعملك أو يقولون لك أشياء جميلة. لذلك لا يجب أن تُستفزّ أو أن تدخل في نقاشات مع أحد، فلن تكسب أي شيء من هذا كله، لا شيء أبدا. وإذا اقترفت خطأ اعترف بذلك.
* زينة خضر: مراسلة صحافية حاصلة على جوائز، تستقر حالياً في الدوحة. تعمل مع الجزيرة الإنجليزية منذ انطلاق المحطة في العام 2006 وتغطّي الحروب في سوريا والعراق فضاً عن انتفاضات الربيع العربي. رشّحت تغطيتها للانتفاضة في طرابلس في مهرجان مونت كارلو للتلفزيون والأفلام وجوائز "إيمي" وفازت بجائزة مهرجان سكاي للنساء في التلفزيون والأفلام. ولزينة أيضاً تجربة في تغطية أفغانستان وباكستان.