مع ظهور التلفاز، تراجع دور الإذاعة كثيرًا، لكن بقي للصوت متعته الخاصة عند عدد كبير من جمهوره، فبقيت محطات الإذاعة مستمرة في العمل وموفرة لجمهورها نوعا من المتعة التي لا توفرها الصورة. وهذه الأخيرة بقيت مستحوذة على شكل الإعلام حتى دخل الإنترنت، فغيّر من مفهومها بشكل كلي.
وكالعادة، حين تظهر تجربة إعلامية جديدة، أو خدمة جديدة، فإنها تستحوذ على أغلب الجمهور الذي يلاحق كل جديد، حيث استطاع الإنترنت -بعد سرعة انتشاره- أن يفرض معادلة جديدة على الإعلام، باتت فيها المنصات الاجتماعية تستحوذ على اهتمام معظم المستخدمين، وباتت الفيديوهات القصيرة المختزلة محط اهتمام بالغ من قبل المستخدمين، ساحبة البساط من التلفاز، وهو ما عززته الشركات الكبرى المسيطرة على الإنترنت، حيث وفرت خوارزميات خاصة تظهر الفيديو في أول نتائج البحث.
جمهور الإنترنت واسع ومتعدد، ولا يقتصر الطلب فيه على نوع واحد من الفيديوهات، أو نمط واحد من الأداء، فمن كان يشاهد شاشة التلفاز ودخل بعدها عالم الإنترنت، وجد نفسه أمام كم كبير من المحتوى المختزل الذي يميل إلى السطحية في كثير من الأحيان، نظرا لقواعد الانتشار التي فرضتها الخوارزميات على ذائقة الجمهور. وعلى الرغم من وجود الوثائقيات الطويلة، فإن الحظوة كانت للفيديوهات القصيرة.
المحتوى السريع والبسيط لاءم شريحة كبيرة من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أنه زاد الشعور بالحاجة إلى العمق الذي تفتقده الدقائق القليلة التي تتسم بها شبكات التواصل الاجتماعي، وهو ما دفع الكثير من رواد هذه الوسائل إلى البحث مجددا عن وسائط مختلفة تمكنهم من الغوص في عمق المعلومة لاكتساب المعارف من خلالها، وهو الدور الذي كانت تؤديه الأفلام الوثائقية، وبعض الفيديوهات التفصيلية الطويلة.
لكن الاهتمام بالمحتوى المرئي عبر الإنترنت بدأ بالتضاؤل -وفق رويترز- لحساب وسائط إعلامية أخرى كان أبرزها "الصوت"، أو ما يعرف بالبودكاست (Podcast) الذي يحصد ملايين الاستماعات في الغرب، حيث تصل نسب الاستماع لمحتويات البودكاست في أميركا وأستراليا إلى 33%، وفي إيرلندا 38%، بينما تصل في بريطانيا إلى 20% تقريبا. ويرتفع عدد مستخدميه في الدول العربية يوما بعد يوم.
ويُظهر تقرير نُشر في بحث أعدته جامعة "نورث ويسترن" (Northwestern)، ازدياد الطلب على المحتوى الصوتي مقارنة بغيره من المحتويات الرقمية، وهو ما أكدته دراسة أخرى صدرت ضمن تقرير الصحافة الرقمية لعام 2018 "Digital News Report" الصادر عن معهد رويترز لدراسة الصحافة، تشير إلى تحولات كبيرة في سوق الإنترنت، أصبحت المحتويات الصوتية تحتل فيها مساحة أكبر كل يوم.
الأمر ذاته لاحظناه في شبكة الجزيرة الإعلامية، بعد عدد من المواد التجريبية التي أطلقتها منصات مختلفة مثل ميدان والجزيرة نت، أشارت إلى أن الإقبال على المحتويات الصوتية آخذ في الازدياد يوما بعد يوم، وأن كثيرا من متصفحي الموقع باتوا يفضلون الاستماع للمقالات المهمة المفضلة لديهم بدلا من قراءتها، وذلك لسهولة الاستماع على حساب القراءة.
تظهر الدراسات أن عددا أكبر من المستخدمين العرب للإنترنت يستمعون لبرامج البودكاست يوميا، وتعتبر السعودية أكبر سوق عربي للبودكاست، حيث يستمع له نحو 68% من الشباب السعودي من الجنسين، وقرابة 64% من الإماراتيين، يليهم التونسيون والقطريون والأردنيون.
الصورة أعلاه تظهر اختلاف الاستماع للبودكاست ضمن الشباب العربي في مصر، والأردن، ولبنان، وقطر، والسعودية، وتونس، والإمارات.
هذه الأرقام في الأعلى إنما تدل على هجرة عكسية من الصورة إلى الصوت، وذلك لعدة أسباب ربما يكون أهمها إيقاع الحياة، فبريطانيا -الدولة الرائدة في صناعة البودكاست عبر "البي.بي.سي"- لا تزال غير متصدرة للمشهد من ناحية عدد المستخدمين، مستغنية عنه لصالح أميركا وأستراليا. ويعزو بعض الخبراء هذا الأمر إلى قضاء معظم الأشخاص في هاتين الدولتين أوقاتهم في السيارة متنقلين من العمل وإليه، أو في رحلاتهم اليومية، بينما يقضي الهولنديون وقتا أطول على دراجاتهم، وهو ما يحتاجون معه إلى الموسيقى بدل البودكاست، فتصل نسب الاستماع بين الهولنديين إلى 18% فقط.
كما أن هناك العديد من الامتيازات التي لا يجدها المستخدمون -غالبا- إلا في محتويات البودكاست، كالعمق الذي تطرحه البرامج، والاستفاضة في الحديث، حيث تمتد بعض الحلقات لساعتين أو ثلاث، يتحدث فيها الضيف بسردية مريحة، وهو الطابع الذي تأخذه البرامج الحوارية مثل بودكاست "فنجان" من موقع "ثمانية". هذا العمق هو ما يعزز من مكانة البودكاست ويجعل له هوية متفردة، مقارنة بالمنصات والمحتويات الأخرى.
ما هو البودكاست؟
البودكاست خدمة صوتية يمكن اعتبارها برنامجا صوتيا إذاعيا تنتجه المؤسسات أو الأفراد ويطرح مواضيع مختلفة، منها السياسية والاجتماعية والمجتمعية وغيرها، ويبث من خلال تطبيقات مختلفة عبر الإنترنت، وهو ما يمكن التعبير عنه بلغة أبسط بأنه "راديو متخصص"! فكما هو الحال في العلاقة القائمة بين اليوتيوب والتلفاز، هناك علاقة بين الراديو والبودكاست.
الجزيرة بودكاست
اعتمدنا في شبكة الجزيرة على عدة أنماط من البودكاست، كان فيها السردي القصصي، والدراما التوثيقية، والخبري التحليلي، والحواري، ضمن أربعة برامج رئيسية يكتمل إطلاقها نهاية العام الحالي، وهي موزعة على مختلف المنصات الصوتية عبر الإنترنت، حيث يمكن للمستمعين الوصول إليها مباشرة عبر موقعناpodcast.aljazeera.net ، أو عبر تطبيقات البودكاست الرئيسية مثل Apple Podcast وGoogle Podcast التي تعتبر منصات البودكاست الأساسية عالميا. أما من لا تتوفر لهم أي من هذه المنصات، فيمكنهم متابعة المنصة عبر تطبيق Soundcloud للاستماع لجميع البرامج.
في باقتنا البرامجية، أسمينا البرنامج الأول "رموز"، وهو برنامج متخصص في تناول السير الذاتية لزعماء ومفكرين ومؤثرين عرب وأجانب، نسردها بصيغة المتحدث لإضافة البعد الدرامي. كما أضفنا عنصرا حواريا بسيطا لتحقيق التوازن المطلوب للحلقات، أسميناه "صوت الشعب".
"لحظة".. اسم البرنامج الثاني ضمن "الجزيرة بودكاست"، نطرح فيه مختلف القضايا التاريخية التي لم يسلط عليها الضوء بما يكفي، مثل ملف الصواريخ اللبنانية، واختراع المضادات الحيوية، وسوق السيارات وغير ذلك. فنتحدث عن اللحظة التي غيرت مجرى الأحداث في قضية تاريخية محددة، مستعينين ببحث عميق ومقابلات مع خبراء وتسجيلات وثائقية مختلفة.
"من الآخر" هو العنوان الثالث لبرنامج حواري يتحدث فيه نبيل وهبة في مواضيع متنوعة، معظمها اجتماعي، وكلها حديث الساعة، مهمة للجيل الشبابي في الشبكة.
البرنامج الخبري "بعد أمس" الذي يُفترض أن يُبث بداية من شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، سيركز على مواضيع سياسية واقتصادية آنية، نستفيض في شرحها ونأخذ فيها جميع الأبعاد لنعطي المستمع وجبة دسمة كاملة حول الموضوع.
كيف ننتج موادنا في "الجزيرة بودكاست"؟
التحرير:
تبدأ الحكاية مع اجتماع فريق التحرير لاختيار المواضيع التي سيتم العمل عليها، وتحديد العناوين العامة، ثم ينطلق المنتجون في البحث في المصادر الموثوقة، بينما يعاود فريق آخر متابعة وتدقيق جميع المعلومات الواردة في البحث، والتأكد من مصادرها، ثم يبنى عليها بعد ذلك كتابة نص الحلقات من قبل فريق مختص بالكتابة الدرامية، يسلم بعدها لفريق التسجيل والتنسيق للمتابعة مع الضيوف.
التوزيع:
نعتمد في "الجزيرة بودكاست" في توزيع الحلقات على عدة منصات، أهمها "أومني ستوديو" (Omnystudio)، حيث يعطي تفاصيل كثيرة متعلقة بعدد المرات التي تم الاستماع فيها للمحتوى، وأنواع الأجهزة المستخدمة في ذلك، والوقت الذي قضاه المستمعون في الحلقة، وهو ما لا توفره المنصات الأخرى. بعد ذلك نوزع الملف الصوتي على مختلف برامج البودكاست مثل "آبل بودكاست"(Apple Podcast) و"غوغل بودكاست" (Google Podcast)، وتبقى الإحصائيات محصورة في مكان واحد.
المنصة الثانية التي ننشر عليها هي "ساوند كلود" (Soundcloud)، وهي منصة مهمة جدا في العالم وخصوصا في العالم العربي، حيث يسهل إيجاد الحلقات من خلاله، كما أنه متعارف عليه بشكل كبير في الدول العربية.
منافسة ضعيفة
على خلاف الفيديو الذي كثرت فيه المنصات في العالم العربي، يبقى المحتوى الصوتي الرقمي مجالا مقتصرا على عدد قليل جدا من المنصات، ولا تعتمده الكثير من المؤسسات الإعلامية، رغم النجاح الذي يحققه وانخفاض تكلفة إنتاجه. ولكن الصعوبة التي يواجهها صناع المحتوى الصوتي، تكمن أساسا في بتعويض نقص الصورة عند المتلقي، من خلال العوامل الدرامية، والمؤثرات الصوتية المختلفة.
لكن العديد من المبادرات الشبابية بدأت تظهر مؤخرًا، متحدية الصمت في ملعب شبه فارغ، وهي مبادرات بدأت تحظى ببعض التفاعل والدعم، أغلبها في السعودية (فنجان، أبجورة، نشوار)، والكويت (ساي وير) وغيرها، لكن معظمها لا يعدو أن يكون محتوى شبابيا يحتاج إلى الكثير من الدعم.