حين زرتُ لندن للعمل في فترة تدريب مع "بي بي سي ميديا آكشن"، كنت أتردد على مبنى "البي بي سي" الجديد (New Broadcasting House)، لأشاهد في ساحته تمثالا طويلا لجورج أورويل وأتأمله قليلا. على الحائط المجاور للتمثال، كتبت عبارة شهيرة لأورويل من مقدمة كتابه في النقد السياسي الساخر "مزرعة الحيوان" الذي وضعه في منتصف أربعينيات القرن الماضي. تقول العبارة: "معنى الحرية في أبسط أشكالها يتمثل في الحق في إخبار الآخرين بما لا يرغبون في سماعه".
لكن ما حدود هذه الحرية؟ وما الحدّ الذي يحق فيه للمرء إهانة الآخرين دون مساءلة؟ ماذا لو ترتب على استخدام هذه الحرية عواقب ملموسة على حياة الآخرين الذين يُطلب منهم استيعاب الإهانة ومجرد تجاوزها؟
قرأت "مزرعة الحيوان" عام 2004، وكانت ضمن القراءات الإلزامية في سنة الدراسة الأولى، وقد كتبت حينها مقالا حللت فيه توظيف أورويل للرمزية. لكني لا أذكر مقدمة الكتاب ولا هذا الاقتباس المحفور بجانب تمثال الرجل في لندن، الذي لم يرد في أي من النقاشات حول الرواية، أو لا أذكر على الأقل أنه قد احتل جزءًا مهمًّا منها.
ربما لم تلقَ الرواية حينها صدى في ذهني مثلما فعلت في خريف العام 2019، حين كانت حكومة بلادي بصدد وضع أول إعلان لمجابهة خطاب الكراهية ونشر المعلومات الخاطئة، وقد أثار لديّ شيئًا من القلق والتحفظ.
اطّلعتُ على المسودة الأولى للإعلان قبل بضعة أشهر، ولم أجد فيه سوى إعلان عام بسيط عن مكافحة خطاب الكراهية، لكن قراءتي بطبيعة الحال كانت ضمن سياق تاريخي مختلف يصعب معه التسليم بأي نوايا حسنة محتملة من طرف النظام واهتمامه بشأن هذا الإعلان. فما نعيشه منذ 28 عامًا في إثيوبيا هو واقع سلطة تتسلّق على ظهر القانون، وليس سلطة يحكمها القانون. فكثيرًا ما كانت الإعلانات المشابهة ذات العناوين الرنّانة، مثل "إعلان الحق في الوصول إلى المعلومات"، و"إعلان محاربة الإرهاب"، مادّة لإساءة التوظيف والاستخدام من قبل النظام من أجل تكميم الأفواه وسجن المعارضين. لكني تساءلت أمام تمثال أورويل إن كان هذا الإعلان سيكون مختلفًا هذه المرة.
أدركتُ أنه لا يسعني الصمت، لكني في الوقت ذاته كنت أعرف أن ثمة خطرًا محدقًا يضع حدًا لآرائي ولحدّة انتقاداتي. لقد كان آبي أحمد جديدًا على رأس السلطة، وقد أقدم في بداية عهده على عدة خطوات إيجابية منحته فرصة لنتريّث في الحكم عليه ونفترض أنه قد أتى -ربما- بنهج جديد. وانطلاقًا من ذلك، كتبتُ رسالة موجهة إلى النائب الفدرالي العام، وعبّرت فيها عن مخاوفي وتحفظاتي فيما يتعلق بالإعلان. ولأني افترضتُ أنهم قد اطلعوا على انتقادات مماثلة، قررتُ أن أرفق برسالتي مجموعة من التعديلات المقترحة.
حين صدر الإعلان أخيرًا في مارس/آذار من ذلك العام، وجدت أن بعض النقاط التي أثرتها في رسالتي إلى المدعي العام قد لاقت تجاوبًا بالفعل ولو بشكل جزئي، مع أني لا أستطيع الجزم بأن التغييرات التي حصلت كانت بتأثير من رسالتي بالضرورة. وقد كان موقفي الأساسي يرى أن إثيوبيا -أو أي دولة أخرى- تحتاج إلى مقاربة إيجابية تملك روح المبادرة فيما يخص محاربة خطاب الكراهية. لكن ما الذي نقصده بهذه المقاربة؟
سأحاول في هذا المقال تلخيص اعتراضاتي على الإعلان، وتوصياتي المقترحة لمعالجة مواضع الخلل:
الحذر من التشدد في العقوبات
ينص الإعلان على أن أي شخص يعمد إلى نشر خطاب كراهية بأي شكل كان، مطبوعًا أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو باستخدام الرسائل النصية أو الصور أو التسجيلات الصوتية أو مقاطع الفيديو، فسيعاقب بالحبس لمدة لا تتجاوز سنتين، أو بغرامة لا تتجاوز 100 ألف بير إثيوبي (3000 دولار). لكن الحكم قد يصل إلى خمس سنوات إن كان نشر ذلك الخطاب قد أدى إلى اعتداء أو محاولة اعتداء على الضحية.
وقد سجلتُ اعتراضًا على هذه العقوبات لسببين: الأول أن فرض مثل هذه العقوبات المتشددة غير المتكافئة مع الجرم، لن يؤدي بالضرورة إلى إقناع الناس بتجنب خطاب الكراهية، عدا عن أن هذه العقوبات قد تستخدم من قبل السلطة كوسيلة لتهديد أي صوت معارض، وقد يكون لذلك انعكاس مخيف على وسائل الإعلام وعلى العامة.
أما السبب الثاني فهو أن افتراض ضرورة التناسب بين العقوبة والأثر المترتب على خطاب الكراهية افتراض غير دستوري، فالفقرة السادسة من المادة 29 من الدستور الإثيوبي تنصّ على أنه لا يمكن الحجر على حرية التعبير والمعلومات بالنظر إلى نوع المحتوى أو الأثر المترتب عليه.
استجابة سياسية أولا
يحتاج فهم خطاب الكراهية إلى النظر في العديد من العوامل الاجتماعية والنفسية والبنيوية التي تدفع الناس إلى استخدامه، إذ كثيرًا ما يرتبط هذا الخطاب بأشكال مختلفة من غياب المساواة، وذلك ما يؤكده تقرير صادر عن "لجنة المساواة وحقوق الإنسان" (EHRC). لذا، وحسب ما ورد في المادة 19، فإن أي إجراءات "سالبة" تحدّ من حرية التعبير عادة ما تؤدي إلى نتائج عكسية، لأنها لا تعالج الجذور الاجتماعية لأنماط التحيّز التي تشجع على اللجوء إلى خطاب الكراهية.
ثمة منهجية "إيجابية" متكاملة، يكون فيها هذا الإعلان جزءًا فحسب من خطة استجابة أكثر شمولية. فالقرار رقم 19/18 الصادر عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، يشير إلى أن تعزيز التنوع والتعددية ورفض الإقصاء هما الترياق الأفضل لمحاربة خطاب الكراهية، إلى جانب السياسات والقوانين التي تهدف إلى معالجة مشكلة التمييز من جذورها.
وبناء على ما سبق، سأقدم فيما يلي مجموعة من التوصيات لمحاربة خطاب الكراهية في إثيوبيا:
1. على الأحزاب السياسية أن تتبنى سياسات صارمة ضد خطاب الكراهية، وأن يتم إثبات هذا الالتزام في برامجها ودعاياتها الانتخابية. ويجب على القادة السياسيين -سواء كانوا منتخبين أو معينين- أن يتقدّموا الجهود الرامية إلى محاربة خطاب الكراهية، وأن يكونوا نموذجًا للآخرين، وذلك عبر الإحجام تمامًا عن التورط في هذا الخطاب، إضافة إلى دورهم في شجبه إذا صدر عن أي طرف كان.
2. حظر الحملات السلبية في الانتخابات
في مناخ سياسي لا يخلو من التوترات الإثنية في إثيوبيا، فإن أي حملة انتخابية يطلقها حزب سياسي في منافسة أحزاب محسوبة على إثنيات أخرى، قد تُفهم خطأ على أنها حملة تستهدف المجموعة الإثنية نفسها التي تمثلها تلك الأحزاب.
3. تعزيز دور المجتمع المدني
تضمّن الإعلان مقترحًا إيجابيًّا حول التعاون مع هيئة حقوق الإنسان الإثيوبية لمحاربة خطاب الكراهية، لكن دورها -كما لاحظت- اقتصر على المساهمة في زيادة الوعي بين العامة، بينما المطلوب هو انخراط المزيد من منظمات المجتمع المدني في أنشطة تهدف إلى معالجة الأسباب الحقيقية لخطاب الكراهية في المجتمع، ومن ذلك غياب المساواة بأشكالها المختلفة.
4. التعاون مع المؤسسات الدينية ورجال الدين
يحتل الدين مكانة مركزية في المجتمع الإثيوبي، وهذا يعني أنه بالإمكان التعاون مع المؤسسات الدينية ورجال الدين في الحملات التي تهدف إلى محاربة الأشكال المختلفة لخطاب الكراهية، انطلاقًا من حرمتها ومخالفتها للتقاليد الدينية السائدة، وسيكون ذلك أيضًا متسقًا مع المعاهدات الدولية التي وقعت عليها إثيوبيا. وتؤكد "خطة عمل الرباط" على دور المؤسسات الدينية وقادة المجتمع الدينيين في الوقوف ضد خطاب الكراهية والدعوة إلى التسامح والتعددية، وثمة توصيات مشابهة أخرى لتبني منهجيات متكاملة يشارك فيها الجميع، مثل ما ورد في "إعلان بيروت 2017" الذي اشتمل على 18 تعهدًا حول "الإيمان من أجل الحقوق".
5. استهداف المدارس عبر تعليم الأسس الأخلاقية منذ الصغر والاهتمام بالتربية الإعلامية السليمة
لدينا في إثيوبيا فرصتان مهمتان يمكن البناء عليهما في الجهود الرامية إلى محاربة خطاب الكراهية: الأولى هي ما يتوافر في المدارس من فكرة "الإذاعة المدرسية" التي توظف لأغراض تعليمية وترفيهية من خارج المنهاج، في الطابور الصباحي وفي استراحة الغداء. ومن الضروري استغلال هذه المساحة لنقل رسائل توجيهية للطلبة تتعلق بخطاب الكراهية، تساعدهم على فهم الآثار المدمرة لهذا الخطاب، وترسيخ هذا الفهم في أذهانهم منذ الصفوف الأولى. أما الفرصة الثانية فهي تضمين دروس خاصة متعلقة بخطاب الكراهية في مقررات المواد الاجتماعية والتربية الوطنية.
6. التعاون الإيجابي مع وسائل الإعلام
تقع على عاتق وسائل الإعلام مسؤولية أخلاقية ومهنية للمساهمة في بناء مجتمع يؤمن بالمساواة والتعددية. ومن الضروري أن تهتم السياسات الناظمة لعمل وسائل الإعلام في إثيوبيا بالتأكيد على هذه المسؤولية، كما يجب على الحكومة أن تدعم إنشاء منظمات إعلامية مستقلة مناهضة للانجرار نحو خطاب الكراهية. من أمثلة ذلك في أوروبا، منظمة "إعلام ضد الكراهية" (Media Against Hate) التي توصي في إستراتيجيتها الرئيسية بمحاربة خطاب الكراهية عبر "الدعوة إلى النهوض بالمعايير الأخلاقية لدى الإعلاميين، بدل اللجوء إلى تقييد حرية التعبير". ثمّة مثال آخر وهو مشروع "Get The Trolls Out" الذي أطلقه معهد التنوع في الإعلام (Media Diversity Institute)، والذي يسعى إلى "الاستفادة من الإمكانات التي توفرها وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لإنتاجات إعلامية مبتكرة وإطلاق حوار حولها، بهدف خلق سردية متينة مناهضة لخطاب الكراهية بأشكاله المتنوعة".
7. منهجية استشعار الواجب
تنص الفقرات الثلاث الأولى من المادة 8 من الإعلان على أن الحكومة تطلب من المنصات الرقمية الالتزام "بالسياسات والإجراءات الضرورية لأداء واجباتها المنوطة بها في مجابهة ومنع خطاب الكراهية. وهذه الفكرة منسجمة بشكل ما مع التوصيات التي تقدمتُ بها. ففي رسالتي إلى مكتب المدعي العام، أوصيت باتباع فكرة "استشعار الواجب" في صياغة معاصرة لما يمكن أن تتوقعه الحكومات من المنصات الرقمية.
أخيرًا، يعرّف الإعلان خطاب الكراهية بأنه أي "خطاب يهدف بشكل مقصود إلى نشر الكراهية أو التمييز أو الاعتداء على شخص أو مجموعة محددة من الأشخاص، باعتبار العرق أو الدين أو الإثنية أو النوع الاجتماعي أو الإعاقة". فما هي الكلمات أو العبارات التي يمكن اعتبارها بشكل قطعيّ "خطاب كراهية"؟ وما الذي يجعل الخطاب يستهدف "بشكل مقصود" مجموعة ما؟ وكيف يمكن التوصل إلى تعريف واضح للمجموعة "المحددة"؟ كل هذه الكلمات والعبارات تحتاج إلى مزيد من الدقة في تعريفها، وهي متروكة بشكلها الحالي لتقدير القضاء.
ثمة محاولات جارية حاليا من قبل مؤسسة تدعى "مختبر السلام للتكنولوجيا" (Peace Tech Lab)، تعمل على تطوير مسرد بالكلمات والعبارات التي تصنف في المجتمع الإثيوبي ضمن "خطاب الكراهية"، وعلى الحكومة أن تبذل جهودًا مماثلة من أجل بيان العبارات الفضفاضة التي تترك لتقدير القضاة.
لقد جرى تأجيل الانتخابات في إثيوبيا بسبب تفشي جائحة "كوفيد-19"، ويُفترض الإعلان عن موعد جديد لها، وستكون حينها ميدانًا عمليًّا لاختبار نوايا الدولة في وضع هذا الإعلان وكيفية توظيفها له.