(ترجم هذا المقال بالتعاون مع نيمان ريبورتس - جامعة هارفارد).
أسست مجموعة من الصحفيين اللاجئين موقعي "أمل- هامبورغ" و"أمل- برلين"، بهدف توفير المحتوى الإخباري المحلي للناطقين بالعربية والفارسية في ألمانيا.
بدأت الحكاية عبر منشور على فيسبوك بداية العام 2016 من حساب حسين صطوف، وهو لاجئ سوري يعيش في إحدى المناطق الريفية بألمانيا. وجه حسين في منشوره نداءً للمساعدة في البحث عن ابن أخيه أحمد (17 عاما) الذي قدم إلى ألمانيا وحده، وأقام في سكن للاجئين الشباب في شرقي البلاد، لكنه اختفى ولم يعد إليه لفترة شهر كامل.
تفاعل الناس بشكل واسع مع ذلك المنشور، وقرأه حينها الصحفي طارق خلو الذي كان قد استأنف نشاطه في العمل الصحفي بعد سنتين من وصوله إلى ألمانيا. لقد كان عمله في سوريا محفوفًا بقدر كبير من المخاطر في ظل الحكم الاستبدادي لنظام الأسد وقمعه العنيف للاحتجاجات منذ العام 2011. ترك طارق سوريا واتجه إلى لبنان، ومن هناك ساعدته منظمة الأمم المتحدة للانتقال إلى ألمانيا.
أمضى طارق الفترة الأولى من لجوئه في تعلم اللغة الألمانية، ولم يكن هدفه بناء شبكة جديدة من الأصدقاء أو البحث عن العمل، بقدر ما كان يسعى إلى امتلاك الوسيلة التي تمكنه من إشباع فضوله بالناس والأماكن في هذه البيئة الجديدة. وفي العام 2016، شارك طارق في ورشة تدريبية مع مؤسسة "صناع الإعلام الألمان الجدد" (Neue Deutsche Medienmacher*innes)، وهي شبكة من "الألمان الجدد" العاملين في مجال الإعلام والمهتمين بتعزيز التنوّع والتعدّدية في المجال الصحفي.
في الوقت ذاته، انضمّ طارق إلى شبكة "الشرق للخدمات الإعلامية" (Mediendienst Ost)"، وهي شبكة من الصحفيين المستقلين في شرقي ألمانيا أسسها الصحفي الألماني كريستين فيرنر.
قرر طارق وفيرنر التعاون معًا للمساعدة في العثور على اللاجئ الذي اختفى، وسرعان ما تمكنا بالفعل من ذلك. كان أحمد قد هرب من المأوى الذي كان يسكن فيه، لينتقل إلى المدينة التي كان يعيش فيها عمّه، وهي في الجانب الآخر من البلاد. كانت الإجراءات الخاصة بطالبي اللجوء في تلك الفترة لا تأخذ بعين الاعتبار ضرورة أن يكونوا قريبين من أفراد العائلة الآخرين الذين وصلوا قبلهم إلى البلاد. لم يكن أحمد في خطر، فقد عثرت عليه السلطات بعد يوم من مغادرته المأوى حيث كان يقيم، ونقلوه إلى مأوى آخر بقربه. ما حصل يومها أنهم أخطؤوا في كتابة اسمه، لذلك تم تسجيله كحالة جديدة.
في تلك الفترة، أشارت تقديرات الشرطة الألمانية إلى اختفاء نحو 5000 لاجئ من القُصّر، وهو رقم من شأنه أن يثير الكثير من القلق على عدة مستويات. تناقلت محطات التلفاز والإذاعة في ألمانيا التقارير التي أعدها طارق وفيرنر حول اختفاء أحمد، والتي كشفت عن تفسيرين أساسيين لهذه الظاهرة: الأول هو الأخطاء الإجرائية في تسجيل وتحديد اللاجئين القصّر الهاربين أو المختفين، والتي تحدث بسبب النظام المتبع الذي لا يراعي الروابط العائلية عند توزيع اللاجئين القصّر على مراكز الإيواء (وقد طرأت تعديلات إيجابية على هذا النظام عام 2016).
يقول طارق: "لقد أدركتُ للمرّة الأولى أن ثمة الكثير من القضايا التي يجدر بالإعلام الألماني إيلاء الاهتمام بها، ووجدت أن زملائي الألمان لم يسمعوا بها من قبل". ويضيف فيرنر: "بالنسبة للصحفي الألماني عمومًا، فإن تغطية اللاجئين لا تخرج عن ثنائية البطل أو الإرهابي.. وهنا يأتي دور الصحفيين اللاجئين الذين يملكون القدرة على لفت انتباهنا إلى قضايا تمسّ الحياة اليومية للاجئين وأشكال المعاناة التي يمرون بها".
تكلل التعاون بين طارق وفيرنر بالنجاح، وذلك بفضل مهارة طارق في بناء الثقة مع المصادر وقدرته على تحديد القصص التي يلزم تغطيتها، والتي امتزجت مع الخبرة الطويلة التي يملكها فيرنر في العمل الصحفي بألمانيا على مدى أكثر من 20 عامًا، مما أتاح الفرصة لمثل هذه القصص الصحفية للوصول بالشكل التحريري الأمثل إلى المؤسسات الصحفية الألمانية وجماهيرها.
وكانت النتيجة فوز طارق وفيرنر بالعديد من الجوائز الصحفية تقديرًا للتقارير الصحفية الاستقصائية التي أنجزاها، وكان أحدها عن عمليات تهريب البشر، وآخَر عن خرافات متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي عن الحياة في أوروبا وأثرها على اللاجئين. وفي العام 2019، عمل طارق على تحقيق استقصائي لصالح قناة "أي.آر.دي" (ARD) الألمانية، كشف فيه عن سوريين مقيمين في ألمانيا كانوا متورطين في جرائم حرب بسوريا.
يورغ ويلدرموث سكرتير التحرير في القسم السياسي بقناة "أم.دي.آر" (MDR) التابعة للقناة العامة "أي.آر.دي" ومقرها في لايبزيغ، يقول: "كان العمل مع طارق فرصة مذهلة.. لقد فتح لنا العديد من الأبواب التي ما كان لنا أن نصل إليها بدونه.. طارق ليس مجرد مترجم أو منسّق تواصل مع المصادر، بل هو أيضًا صحفي متميز، وهو يؤدي معنا عملا صحفيًّا".
يتجاوز عدد اللاجئين في العالم اليوم 26 مليون إنسان، ومن بينهم العديد من الصحفيين. وفي الوقت الذي نجد فيه تراجعًا في الثقة بالمؤسسات الإعلامية مقابل تزايد في التنوع لدى مستهلكي المحتوى الإعلامي، يصبح الصحفيون اللاجئون مصدرًا لا غنى عنه للمؤسسات الإعلامية المسؤولة. ورغم قصص النجاح المعروفة لبعض الصحفيين اللاجئين الذين أنجزوا تقارير صحفية متميّزة في مواضيع حساسة، فإن البقية تعترضهم عوائق جمّة أمام الحصول على فرص عمل ثابتة في المجال الصحفي.
بوسع الصحفيين اللاجئين صناعة فرق في المؤسسات الإعلامية لما يتمتعون به من قدرة على تقديم الأفكار الجديدة، والوصول إلى مصادر يصعب على سواهم الوصول إليها، إضافة إلى استقطاب جماهير جديدة، وإثراء التغطية الإعلامية لدى الوسيلة التي يعملون لديها.
ثمة العديد من الزوايا التي تظهر فيها ميزة المعرفة التي يمتزج بها البعد العالمي مع التجربة الشخصية للهجرة أو المنفى، سواء في غرف الأخبار ذات التغطية العالمية أو المحلية للمواضيع المتعلقة بالهجرة أو الفساد أو الجريمة أو القضايا الاجتماعية. كما أن لعمل الصحفيين اللاجئين أهمية خاصة، في الوقت الذي كشف فيه ملف الهجرة واللجوء عددًا من جوانب القصور الخطيرة في المؤسسات الأوروبية، بما فيها المؤسسات الصحفية، وفي الوقت الذي يتعاظم فيه الحديث عن مسألة التنوع في غرف الأخبار بالولايات المتحدة، وذلك في أعقاب حادثة قتل ضابط شرطة أميركي أبيض للمواطن الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد.
وفي أوروبا، حيث وصل أكثر من مليون إنسان هارب من الحرب والدمار عام 2015، تمكن الصحفيون اللاجئون الذين يعملون عادة بالتعاون مع الصحفيين المحليين؛ من إنجاز قصص صحفية تغطي جوانب وقضايا دقيقة، قد يصعب على سواهم العمل عليها. وفي هذا السياق، برزت العديد من المؤسسات غير الربحية التي تساعد على تقديم التدريب للصحفيين اللاجئين وتساعدهم على نشر أعمالهم والربط بينهم وبين الصحفيين المحليين ووسائل الإعلام السائدة.
ففي فرنسا مثلا، يسعى موقع "غيتي نيوز" (Guiti News) إلى بناء جسور التعاون بين الصحفيين الفرنسيين وزملائهم من الصحفيين اللاجئين، بهدف التعاون معًا على مشاريع صحفية، حتى قبل أن يتوفّر المال اللازم لذلك. لقد قدِم أكثر من نصف الصحفيين اللاجئين عبر منظمة "بيت الصحفيين" (MdJ) الفرنسية في باريس، والتي توفر للصحفيين اللاجئين مكانًا آمنًا للإقامة فيه، ودعمًا لتعليم اللغة، وفرصًا للتدريب في غرف الأخبار، والمساعدة في بناء العلاقات المهنية في المجال الصحفي. وقدمت المنظمة منذ العام 2002 الدعم لأكثر من 400 صحفي من 70 بلدًا مختلفًا. ومع ذلك، فإن العديد من الصحفيين اللاجئين لا يزالون يواجهون معيقات تحول دون استئنافهم مسيرتهم المهنية، إذ تشير الإحصاءات إلى أن 80% تقريبًا لم يعودوا يعملون في الصحافة.
أما في لندن، فتقدم مبادرة "مشروع صحافة اللاجئين" (RJP) فرصًا للتدريب والإرشاد والربط المهني والإقامات التدريبية للصحفيين اللاجئين. ومنذ انطلاق المبادرة عام 2016 من مقرها في كلية لندن للاتصالات التابعة لجامعة لندن للآداب، تم العمل مع 63 صحفيًّا لاجئًا، ونجحت في تأمين فرص عمل لـ21 منهم. تقول مديرة المشروع فيفيين فرانسيس: "إنها علاقة متبادلة، فليس الأمر متعلقًا فقط بما يمكن للمؤسسات الإعلامية الكبيرة تقديمه لهؤلاء الصحفيين، وإنما أيضا بما يمكن لهؤلاء الصحفيين تقديمه لهذه المؤسسات".
صحيح أن أمثال هذه الشراكات كفيلة بسدّ فجوات مهمّة على مستوى المهارات ووجهات النظر في العمل الصحفي، ولكن بعض الصحفيين اللاجئين حذروا من تعمق فوارق السلطة بين الصحفي اللاجئ والصحفي المواطن، بحيث تُسند إلى الأول أدوار ثانوية على مستوى التنسيق والترجمة، بينما يتفرّد الآخر بالقرارات التحريرية.
وتعلّق مديرة المشاريع في مؤسسة "صناع الإعلام الألمان الجدد" ريبيكا روث على ذلك بالقول: "تكمن المشكلة في أن يتمّ التعامل مع إحدى نقاط التميّز لدى الصحفي اللاجئ على أنها جانب تميّزه الوحيد باعتبار تجربته في الهجرة وخلفيته كأجنبي، حتى إن هذا الصحفي اللاجئ يبدأ بالتساؤل إن كان سيقدر يومًا ما على الخروج من هذا الرداء، وأن يتم التعامل معه ببساطة كصحفي مهني مثل أي صحفي آخر؟".
ويظهر هذا الإشكال أيضًا في غرف الأخبار، إذ يشعر العديد من الصحفيين اللاجئين بطريقة خاصة في التعامل معهم وكأنهم "مشاريع خيرية"، مما يؤدي بهم إلى الشعور بالمزيد من العزلة والتهميش، وأنهم هناك لأسباب صوابيّة "تجميلية" وحسب، وهي مقاربة فوقيّة لمسألة التنوّع قد يشعر بها حتى الصحفيون المواطنون الذين ينتمون إلى أقليّات دينية أو عرقيّة ضمن المجتمعات التي يعيشون فيها، وهي مقاربة قد ثبت أيضًا عدم جدواها.
المشهد الإعلامي في أوروبا يعاني مشكلة حقيقية على مستوى التنوّع. ففي ألمانيا مثلا، يمثل المهاجرون من الجيل الأول أو الثاني نحو 25% من السكان، لكنّ نسبة الصحفيين من المهاجرين أو أبنائهم يتراوح بين 2 و5% على الأكثر. أما في المملكة المتحدة، فلا تتعدى نسبة الصحفيين البريطانيين من أصول أفريقية 0.2% رغم أنهم ينتمون إلى أقلية تشكّل 3% من السكان. أما الصحفيون المسلمون فلا يشكلون سوى 0.4%، مع أنهم يمثلون 4.8% من السكان.
الصحفية الألمانية تابيا غريزيسيك المؤلفة المشاركة في كتاب "Unbias The News"، والمؤسسة المشاركة في مبادرة "هوست رايتر" (HostWriter) تقول: إن التنوع "ليس مسألة مظاهر، بل هو سؤال مهمّ يتعلق بالجودة في مجال الإعلام، فإن كنا نسعى حقًا لتغيير الواقع، فإن مقاربة التنوّع كرافع لنموذج الأعمال في العمل الإعلامي هي الحلّ، لا سيّما أن المقاربة الأخلاقوية للمسألة لم تؤدّ إلى النتائج المأمولة".
في العام 2019 أجرى معهد "رويترز" بالتعاون مع جامعة "يوهان غوتنبيرغ" دراسة عن التنوع في وسائل الإعلام الأوروبية، قال فيها محررو أخبار من المملكة المتحدة وألمانيا والسويد إنهم يرغبون في توظيف المزيد من الصحفيين من المهاجرين واللاجئين، ولكنهم لا يتلقون سوى عدد قليل من طلبات التوظيف التي تلبّي الشروط الأساسية المتعلقة بالمهارات اللغوية.
ويؤكّد الباحثون المشاركون في هذه الدراسة أنه من أجل تمكين الصحافة من تسليط الضوء على كافة جوانب المجتمع، لا بدّ من ممارسة العمل الصحفي انطلاقًا من زوايا نظر متعددة.. لكن اللاجئين والمهاجرين الباحثين عن فرص للعمل في الصحافة يواجهون شعورًا بعدم "الانتماء"، إضافة إلى النقص الشديد في الفرص المتاحة لهم. تقول الدراسة: "إن تحقيق التنوع يتطلب الالتزام بإحداث تغييرات هيكلية، بالإضافة إلى الاستثمارات ومد جسور التعاون والتشجيع".
إن لمسألة التنوّع أهمية خاصة حين يتعلق الأمر بتغطية قضايا الهجرة واللاجئين في أوروبا. فوفق دراسة للمرصد الأوروبي للصحافة، تبيّن أن 10% فقط من القصص الصحفية التي خضعت للمراجعة في وسائل إعلام أوروبية وأميركية، قد تضمّنت وجهة نظر المهاجرين أو اللاجئين. كما كشف تحليل من موقع "غيتي" أن كلمة اللاجئين ظهرت 35 ألف مرة تقريبًا في عناوين الأخبار والتقارير الصحفية بين عامي 2015 و2018، إلا أنّ 10% فقط من هذا المحتوى تواصل مع اللاجئين أنفسهم كمصدر للمعلومات.
انطلق موقع "غيتي" عام 2018 بعدما وجد القائمون عليه وهم الصحفية الفرنسية نينا غيدار وزميل لها من أصول أفغانية، غيابَ صوت اللاجئين في القصص الصحفية التي تتناول قضاياهم، إضافة إلى ندرة فرص العمل المتوفرة للصحفيين اللاجئين. تقول نينا: "إن وسائل الإعلام تطمس أسماء اللاجئين وأعمارهم وانشغالاتهم، فهم ليسوا في نظر الصحفيين سوى مجموعة صمّاء من البشر لا يُعرف عنها شيء، وهذا أمر مرعب طبعًا".
لا يحظى الموقع الذي أنشأته نينا وزملاؤها بمتابعة كبيرة، باستثناء أولئك الأشخاص المعنيين بشؤون اللاجئين وقضاياهم. وما يزال الموقع يحتاج إلى ما يكفي من التمويل ليتمكّن على الأقل من تقديم المستحقات المالية للصحفيين المتعاونين، الذين يشعرون حتى الآن بالامتنان لتجربة العمل مع الموقع، والتي ساعدتهم على بناء علاقات مهنية في عالم الصحافة ومنحتهم شعورًا بالهدف والغاية.
تقول سارة فريد، وهي مصورة ومنتجة أخبار غادرت باكستان مع أسرتها عام 2018 وانتقلت إلى فرنسا، بعد أن نجا زوجها الصحفي طه صديقي من محاولة اختطاف: "عملتُ لسنوات عديدة في باكستان وكنت مهتمة بقضايا اللاجئين، ولم يخطر لي يومًا أن أصبح بدوري لاجئة.. لقد ساعدني العمل مع موقع غيتي على قبول وضعي الجديد والتماهي معه، وأقول لنفسي: جيد، أنا لاجئة أيضًا، وسأساعد غيري من اللاجئين على الحديث عن قصصهم، وما أكثرها.. إنها قصص وقضايا يعيشها أشخاص يعيشون ظروفًا مشابهة للتي أمر بها شخصيًّا".
أنتجت سارة برنامج "بودكاست" لصالح موقع "غيتي" في العام الماضي، بالتعاون مع الصحفية الفرنسية صوفيا فيشر، كان موضوعه تجربة النساء لارتداء ملابس السباحة. حين كانت سارة في باكستان، كانت ترفض بشكل قاطع إرغام النساء على تغطية وجوههن، ولكنها حين قدمت إلى فرنسا، وجدت نفسها معارضة بنفس القدر من القناعة لمحاولة الدولة منع المرأة المسلمة من ارتداء "البوركيني" أثناء السباحة على الشواطئ في فرنسا.
تقول سارة: "إن صديقاتي من اليمن وسوريا وأفغانستان لم يرتدين ملابس السباحة في حياتهن من قبل، ونحن لا نعرف السباحة أصلا، لكننا نحب البحر، ولا يمكن لنا أن نذهب إلى الشاطئ مرتديات ملابس السباحة المعتادة، فأنا خجولة جدًّا". تقول نينا: "لقد كانت القصة حول تجربة تجاوز القيود التي كنا نعيش وفقها، ولكن من زاوية بعيدة جدًّا عن تناول وسائل الإعلام الفرنسية للقضية، والتي يتصدّى فيها الخبراء الذكور للحديث عن اللباس الأنسب للمرأة". وتضيف سارة: "لقد كان موقع غيتي منصة ساعدتني على مواصلة عملي في الصحافة، ولم يكن ذلك عبر أداء بعض المهام المحدّدة وحسب، ولكن أن أساهم بشكل فاعل على المستوى التحريري، وأن يكون لي تأثير في طريقة تغطية القصص المتعلقة باللاجئين".
لقد وصل مشروع موقع "غيتي" حاليًّا إلى مفترق طرق صعب، بين الرغبة في توسيع قاعدة المتابعين وبين ما يتطلبه ذلك من تغيير نمط المحتوى الذي يقدمه. رفض القائمون على الموقع مؤخرًا عرضًا لمشاركة المحتوى من مؤسسة إعلامية فرنسية ضخمة، وذلك بعد تحفظهم على العرض من ناحية تحريرية. تقول نينا: "لقد شعرنا برغبة في استغلال فكرة التنوّع التي يقوم عليها الموقع، والانشغال بالمظاهر دون الاهتمام بما هو أساسي، مثل زيادة التنوّع بين طواقم الصحفيين العاملين في المؤسسات الصحفية".
تقول دارلين كوثير مديرة مؤسسة "بيت الصحفيين" في باريس، المعنية بتقديم الدعم للصحفيين اللاجئين: إنه "من الصعب الولوج إلى قطاع الإعلام في فرنسا عمومًا، حتى للصحفيين الفرنسيين، وتتردد المؤسسات الصحفية عمومًا في توظيف الصحفيين الأجانب". فالصحفيون اللاجئون المقيمون في فرنسا -رغم إتقانهم الفرنسية- يواجهون صعوبات جمّة في اختراق صحافة "النخبة"، وقد يجد حتى كبار الصحفيين تحديات على صعيد المهارات، سواء ما يتعلق بتحرير الفيديو أو بتنسيق الصفحات، والتي تطلب وسائل الإعلام الفرنسية توفرها لدى الصحفي.
تشير كوثير في المقابل إلى أن بعض وسائل الإعلام الإخبارية العالمية -مثل "فرانس 24"- تظهر ميلا أكبر إلى توظيف الصحفيين اللاجئين، خاصة بالنسبة للمصورين الصحفيين وصحفيي التلفاز، الذين يجدون سهولة أكبر في نقل مهاراتهم وخبراتهم، مثل عبد المنعم عيسى، ومحمد بدرة، وهما مصوران صحفيان متعاونان مع مؤسسة "MdJ"، وقد فازا بجوائز صحفية مرموقة مؤخرًا.
أما مديرة "مشروع صحافة اللاجئين" (RJP) فيفيين فرانسيس فتقول إن أحد التحديات يكمن في إقناع المؤسسات الإعلامية بضرورة أن يتعاملوا مع الصحفيين اللاجئين خارج الأطر الاحتفالية التي تكتفي بإجراء مقابلات معهم خلال مناسبات معينة، مثل "أسبوع اللاجئين" أو "اليوم العالمي لحرية الصحافة"، بينما المطلوب هو التعامل معهم بوصفهم زملاء جديرين بالتقدير ويستحقون مقابلا ماليًّا مجزيًا لقاء العمل الذي يقومون به، إضافة إلى الاعتراف بقدرتهم على تغطية القصص الصحفية على نطاق واسع من المواضيع.
أما إقامات التدريب القصيرة أو التعاون على مشاريع تطوعية غير مدفوعة الأجر، فهي ليست الخيار المستدام الذي يحقق الفرق بالنسبة للعديد من الصحفيين في ظروف الشتات واللجوء. تقول فرانسيس: إن "معظم المشاركين معنا في العشرينيات والثلاثينيات من أعمارهم، ولدى العديد منهم أسرٌ يعيلونها، ومن الضروري للغاية أن نوفر لهم فرص عمل توفر لهم مصدرًا للدخل، وهذا ما نطمح إلى تحقيقه".
بعد وصوله إلى المملكة المتحدة عام 2013، عمل الصحفي السوري عبد الوهاب طحان في "ستار بوكس" قبل أن يتعرف على مبادرة "مشروع صحافة اللاجئين"، وقد تقدّم بالعديد من طلبات العمل، إلى أن تم قبوله أخيرًا للعمل كباحث في مؤسسة "أير وورز" (Airwars)، وهي مؤسسة غير ربحية أسسها صحفيون وتسعى إلى تتبع ضحايا الحروب من المدنيين. وقد نجح في الحصول على هذا العمل بعد فترة من التدريب المجاني بتنسيق من "مشروع صحافة اللاجئين". لقد كان عبد الوهاب أول موظف بدوام كامل يعمل في "إير وورز"، وسرعان ما اتضح لهذه المؤسسة الناشئة القيمة التي أضافها عبد الوهاب، وذلك بفضل معرفته بالظروف المحلية، وعلاقاته مع المصادر داخل سوريا، واستثماره الشخصي وحرصه على نجاحه في العمل.
يصعب في كثير من الأحيان حتى على متحدثي العربية من خارج سوريا معرفة بعض الكلمات عند نطقها باللهجة المحلية في بعض المناطق، إذ يصعب مثلا تخمين موقع الضربة الجوية إن لم يكن الصحفي على علمٍ بهذه اللهجات وأماكن توزّعها، وهي مهارة لا يمكن الاستعاضة عنها بالقواميس ولا بخدمة غوغل للترجمة. ولا يسع أي شخص كان الاستفادة من المصادر المحلية داخل سوريا، خاصة عند اعتبار القلق والخوف الذي ينتاب الناس عند الحديث مع وسائل صحفية أجنبية، في دولة يتنازع الصراع عليها العديد من الأطراف المتنافسة.
يقول عبد الوهاب: "أنا من حلب، وكنت أخرج في المظاهرات المناهضة للأسد، وأعرف ما يمرّ به الناس، وهذا يساعدني على بناء الثقة والحديث معهم". هذا ما مكّن عبد الوهاب من التواصل الحصري دون سواه مع المتطوعين الذين اكتشفوا المقابر الجماعية في الرقة بعد انسحاب تنظيم داعش منها، والحصول على وثائق تثبت وقوع ضحايا في هجمات من مليشيات كردية وأخرى مدعومة من تركيا خلال معارك شمالي سوريا للسيطرة على عفرين. يقول مؤسس "إير وورز" كريس وودز: إن "العديد من أعضاء فريقنا الأساسي اليوم هم من اللاجئين، وهذا واحد من أوجه التأثير الإيجابية العميقة التي تركها عبد الوهاب منذ بدء عمله معنا".
ترك عبد الوهاب مؤخرًا العمل مع "إير وورز"، ليعمل كمحاضر غير متفرّغ، إضافة إلى عمله على برنامج "بودكاست" عن محاولات اندماج اللاجئين في تركيا وأوروبا. وقد عبّر لنا عن أمله في رؤية المزيد من اللاجئين في غرف الأخبار الكبرى بالمملكة المتحدة، وقال: "تخسر وسائل الإعلام كثيرًا وتفوّت فرصة بتغطية صحفية أفضل، وذلك لأنها تصّر على اتباع وصفة تقليدية للفشل. إن كانت وسائل الإعلام ترغب حقًا في تغطية صحفية أفضل، فليس عليها سوى أن تستعين بصحفيين من المجتمعات التي تتحدّث عنها".
بعدما وصل الصحفي الإيراني أوميد رضائي إلى ألمانيا نهاية العام 2014، أزعجه ألا يكون قادرًا على متابعة الأخبار المحلية، وظل الفضول يحرّكه لمعرفة ما يتحدث الناس عنه في الأسواق ومحطات انتظار الحافلات.
حين كان رضائي في إيران، تسلّم مسؤولية تحرير مجلة طلابية حظرتها السلطات بسبب موقفها من المظاهرات المناهضة للحكومة، والمعروفة وقتها باسم "الحراك الأخضر". ألقي القبض على رضائي عام 2011، ثم غادر البلاد متجهًا إلى العراق حتى حصل على تأشيرة دخول إلى ألمانيا لدواع إنسانية. وسرعان ما انخرط هناك في برنامج تدريب للصحفيين اللاجئين في كلية هامبورغ للإعلام، والتي تعلّم فيها كيف تسير الأمور في عالم الصحافة بألمانيا، وما عليه أن يقدّمه كي يحقّق التقدم والنجاح.
في العام 2017، انضم رضائي إلى مجموعة من الصحفيين اللاجئين من إيران وأفغانستان وسوريا، وأسسوا مؤخرًا مبادرة "أمل- برلين"، وهو موقع إخباري عن مدينة برلين باللغتين الفارسية والعربية. حصل الموقع على تمويل من مؤسسة "كوربر" (Korber)، وتمكّن القائمون عليه من ردم فجوة في سوق الأخبار المحلية لآلاف الأشخاص الناطقين بالعربية والفارسية في برلين، مما دفع هؤلاء الصحفيين مؤخرًا إلى إطلاق موقع "أمل- هامبورغ"، ليكون رضائي مسؤول التحرير فيه.
كانت الغاية الأساسية وراء إنشاء هذين الموقعين هو تزويد المقيمين فيها من الناطقين بالعربية والفارسية بوسيلة لمعرفة ما يحصل حولهم. لكن ما حصل لاحقًا هو أن بعض الأصدقاء والصحفيين الألمان أبدوا اهتمامًا بمعرفة القصص الصحفية التي تظهر على هذه المواقع، الأمر الذي دفعهم إلى إنشاء صفحة ألمانية تلخص التقارير التي يعمل عليها الصحفيون في كلا الموقعين، كما فعّلوا خدمة الرسائل الإخبارية كي تصل هذه الملخصات إلى غرف الأخبار في المؤسسات الإعلامية الألمانية التي تبدي رغبة في ترجمة بعض الأعمال التي تنشر إلى اللغة الألمانية.
يمارس فريق العمل في موقع "أمل- هامبورغ" مهامّه من مقرّ لصحيفة محلية تدعى "هامبورغ أبندبلات" (Hamburger Abendblatt)، ويشاركون في اجتماعاتها التحريرية، وتجمع بين الفريقين علاقة مصلحة مشتركة. يقول رضائي: "إنهم يوفرون لنا القدرة على الوصول إلى الأخبار والصور بسرعة كبيرة، ونحن في المقابل نساعدهم على الوصول إلى مجتمع اللاجئين الذي لا يعرفون عنه أي شيء".
نيلاب لانغار، صحفية أفغانية من فريق "أمل"، أعدت مؤخرًا تقريرًا في صحيفة "هامبورغ أبندبلات" عن النساء الأفغانيات في ألمانيا اللواتي تمكّنّ من تجاوز القيود التقليدية المتعلقة بالطلاق وعدم القبول بالعنف الأسري. تقول تسفين كوميرينك العاملة بالصحيفة: "ثمة اهتمام كبير من قبل القراء بمثل هذه القضايا، والصحفيون في موقع أمل أقدَر على الحديث والوصول إلى هؤلاء الأشخاص الذين قد لا يثقون في الحديث معنا، فالتواصل مع الأقليات من الناطقين بالعربية أو الفارسية تحدٍّ يصعب علينا القيام به، بينما نستطيع نحن في المقابل مساعدة فريق أمل على الوصول إلى السياسيين والمسؤولين والحديث معهم".
لقد نجحت المؤسسات الداعمة للصحفيين اللاجئين في ألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة في تقديم نموذج من شأنه أن يدفع وسائل الإعلام إلى إعادة النظر في كيفية التعامل مع هؤلاء الصحفيين والتعاون معهم، لا من باب التعاطف والشفقة، بل من منطلق تحقيق مصلحة مشتركة تتمثّل في تعزيز القدرة التنافسية والوصول إلى جماهير أوسع. ويرى القائمون على المشاريع الداعمة للصحفيين اللاجئين ضرورة أن يمتلك المحررون في وسائل الإعلام بعدًا إستراتيجيًّا وعمليًّا في التعاون مع الصحفيين اللاجئين وتوظيفهم والاستثمار فيهم، عبر تقديم الدعم والتدريب اللازم لتعزيز مهاراتهم وثقتهم، باعتبار ذلك خطوة ستحقق عوائد كبيرة للمؤسسة الصحفية نفسها على المدى البعيد.
على الرغم من أن رضائي يتعاون مع مؤسسات إعلامية ألمانية منذ أكثر من سنتين، فإنه لا يزال مترددًا في التقدّم بطلبات توظيف ليكون عضوًا أساسيًّا في فريق تحرير، وذلك لاعتقاده بأنه قد يتسبب في تأخير وتيرة العمل لدى زملائه الألمان.
يقول رضائي: "نحتاج إلى قدر أكبر من الشجاعة، والأمر ذاته ينطبق على المؤسسات الإعلامية التي عليها أن تعترف بأنه قد يلزم فعلا بذل وقت أطول على مادة صحفية ما، ولكنها في نهاية المطاف ستحصل على مقالة تشتمل على قدر من المعلومات والمصادر الحصرية التي لا يمكن توفيرها من قبل أي صحفي، سوى الصحفي اللاجئ".