"كانت كأنها نهاية العالم".. حكاية مراسل الجزيرة من ميدان 11 سبتمبر

"كانت كأنها نهاية العالم".. حكاية مراسل الجزيرة من ميدان 11 سبتمبر

كلّ ما أذكره في الفترة القصيرة التي سبقت 11 سبتمبر 2001، هو أننا كنا في موسم شحيح للغاية بالأخبار والقصص الصحفية. ففي شهر أغسطس ومطلع سبتمبر، مررنا كصحفيين بفترة هي الأكثر شحًا بالأحداث على الإطلاق. عمليًا لم ينشغل أحد إلا بقصّة إخبارية واحدة فقط للاستهلاك والتدوير اليومي في شبكات التلفزة الأمريكية، وهي قصة تشاندرا ليفي، الفتاة التي عملت متدربة في المكتب الفيدرالي للسجون في العاصمة واشنطن، وكانت على علاقة عاطفية مع أحد أعضاء الكونغرس من كاليفورنيا، واختفى أثرها، وشغلت قصتها الرأي العام الأمريكي طيلة شهور عديدة. ففي كل يوم في شبكة "سي بي أس" الإخبارية، وعلى مدى فترة طويلة، لم يكن هناك سوى ملاحظة وحيدة في السجلّ اليومي للمهام الرئيسية: "اليوم يتوفر الطاقم مع الكاميرا أمام منزل تشاندرا ليفي". لم تكن ثمّة قصة سوى قصتها. عدا عن ذلك، بدا كل شيء في أغسطس رتيبًا هادئًا. الجميع في إجازة الصيف، ذلك الصيف الذي سيحمل معه عمّا قليل كارثة قاتلة.  

لم تكن الجزيرة الإنجليزية قد انطلقت بعد في ذلك العام، ولم يكن لدينا سوى مكتب صغير في واشنطن العاصمة، بمراسل واحد، وكنت أنا الثاني. فريق صغير، لقناة لم تكن معروفة لدى العديد من المسؤولين الأمريكيين الذين بالكاد كانوا يحسنون نطق اسم "الجزيرة" آنذاك. 

أعتقد أني صنعت التاريخ في ذلك اليوم، إذ كنت أول شخص يخبر الجزيرة بالواقعة. أذكر أني دخلت بهو مبنى الصحافة الوطنية (National Press Building)، حيث اعتدت أن أكون أول من يصل إلى المكتب، بعد الثامنة صباحًا بقليل. 

نصبت في البهو ثلاث شاشات تلفاز بجانب مكتب الاستقبال وأمن المبنى، وعلى إحدى الشاشات، رأيت بداية اللقطة المباشرة التي عرضت على أحد البرامج الصباحية، حيث تظهر الطائرة الأولى وهي تضرب مبنى مركز التجارة العالمي، البرجين التوأم، وكان الافتراض الأولي، الذي أدركته من تعليقات من تسمّرت أنظارهم نحو الشاشة حولي، أن ما حصل قد يكون حادثًا، ولكنه بلا شكّ حادث شديد الفظاعة. 

ذهبت من فوري عائدًا إلى المكتب واتصلت بالدوحة، وقلت لهم: "أيها الزملاء، وقعت حادثة هنا، ويظهر أنها فظيعة، يمكن أن تتابعوا البث المباشر من "سي بي أس"، وهكذا تسنى للجزيرة نقل مشهد الضربة الثانية، بسبب ذلك الاتصال المبكّر، وإلا لتأخرت تغطية الشبكة للحادثة.  

أما بقية الحكاية، فمحض تاريخ.

 

 

1
لحظة تفجير البرج الجنوبي لمركز التجارة العالمي (يسار) عند ضربه بطائرة يونايتد إيرلاينز المختطفة في رحلة رقم 175 مع استمرار تصاعد الدخان من البرج الجنوبي بعد ضربه بطائرة مختطفة أخرى، يوم 11 سبتمبر 2001، ضمن مخطط إرهابي لاستهداف المركز المالي للولايات المتحدة عبر ضرب البرجين التجاريين في مدينة نيويورك، حيث يعمل حوالي 40 ألف موظف وموظفة. (رويترز/شين أدير)

 

كأنه مشهد سينمائي

حين ضربت الطائرة الثانية البرج، ضربتني أنا صدمة بالغة. كنت على الهاتف مع الزملاء في الدوحة، ورحت أقنع نفسي بأن ما حصل لا يمكن أن يكون هجومًا إرهابيًا. 

كنت على الهواء [عبر الهاتف]، أقول: "قد يصعب تصديق ذلك، ولكن ربما تكون مشكلة تقنية كارثية قد حصلت"، وأشرت إلى أن الطائرتين مزودتان بأحدث التقنيات التي تنبه طاقم الطائرة في حال وجود أية عوائق أمامه، كجبل أو مبنى طويل، وربما قد تعطّل هذا النظام. لم أكن قادرًا على تصديق أن الحادثة قد تكون متعمّدة.  في تلك اللحظات الأولى، كنت المراسل الوحيدة في المكتب، وكنت أنقل الحدث إلى الجزيرة عبر الاتصال الهاتفي، إذ تعذّر حينها النقل عبر الكاميرا. وبدأت رغم ذلك الأسئلة تنهال على الهواء، حول كل تلك الشائعات التي انتشرت عن الحادثة، وما إذا كان مبنى وزارة الدفاع قد تعرض للهجوم، أو إن كان هنالك استهداف للبيت الأبيض. 

كان مكتبنا على بعد عدة مبان وحسب عن وزارة الدفاع، ولكن لم يتسنّ لي مغادرة المكتب في اللحظات الأولى عقب الحادثة. ثم حين خرجت إلى الشارع، بدا المشهد وكأن القيامة قد قامت، والعالم قد آذن بالانتهاء. 

لن أنسى ذلك اليوم أبدًا: الذعر الظاهر على وجوه الناس وهم يسيرون في ذهول تام، وحركة السير باتجاهٍ واحدٍ هربًا من مركز المدينة، ثم صعدت أدخنة قرب مبنى البنتاغون بعد تعرضه للهجوم. 

كانت تلك أوّل مرة -وآمل أن تكون الأخيرة- أرى فيها مثل ذلك الهلع بين الناس. كان أمرًا يعجز المرء عن تصديقه، كأنه بلا مبالغة، مشهد سينمائي خيالي من أحد تلك الأفلام التي تصوّر نهاية العالم.  مركبات الإسعاف والإطفاء والطوارئ تأتي من كل حدب وصوب، من كل نوع وحجم، حتى أني تفاجأت أن لدى خدمات الطوارئ هذا القدر المتنوّع من المركبات، من شتّى الأحجام والمواصفات. 

بعدها استجمعت تركيزي واستعدت توازني بعد الصدمة وانطلقت باتجاه وزارة الدفاع للتحقق من الشائعات حول تعرضه للهجوم، ثم قيل إن طائرة أخرى قد اتجهت نحو مبنى الكونغرس لضربه، إلا أن ذلك لم يحصل.  وصلت في وقت لاحق من ذلك اليوم إلى البنتاغون، وصورت بعض اللقطات المباشرة هناك والأدخنة ما تزال تتصاعد من المكان وتملأ السماء برائحتها التي أذكرها جيدًا حتى اليوم. 

صعدت بسيارة أجرة مع المصوّر، باتجاه البنتاغون، وهو المكان الوحيد في واشنطن العاصمة، ولله الحمد، الذي تعرض للهجوم. ومن عجائب الصدف التي أذكرها، أن السائق الذي أخذنا هناك، كان ملتحيًا، ولم أعرف أصوله من أين، باكستانية أو أفغانية. 

أوقفتنا نقطة تفتيش نصبتها شرطة ولاية فيرجينيا على الطريق السريع في طريقنا إلى البنتاغون، وذلك لأن مقرّ البنتاغون كائن في الواقع في حدود ولاية فيرجينيا. سألَنا الضابط: "إلى أين أنتم ذاهبون؟"، فأجبناه بأننا ذاهبون إلى البنتاغون! لاحظت وجه الضابط وهو يكتسي بريبة واضحة حين سمع الجواب، ولكنه سمح لنا بالمرور ومتابعة الطريق. 

 

2
محمد العلمي، مراسل الجزيرة في واشنطن، والمصور نادر عابد، قبل جولة من البث المباشر من أمام مبنى البنتاغون الذي تتصاعد منه الأدخنة جراء هجوم استهدفه يوم 11 سبتمبر، 2001. (مصدر الصورة: محمد العلمي)



 

 

قبل الحرب الحتمية 

دار في نفسي صراع بين المهنيّ والشخصي في تلك اللحظات. كنت شديد القلق على ابنتي التي كانت على مقاعد الدراسة، على أبواب الثانية عشرة من العمر. حاولت عبثًا الاتصال بزوجتي كي تذهب إليها وتأخذها من المدرسة، لكن كل المحاولات ذهبت سدى، لأن خطوط الهاتف كانت ضعيفة بشكل لا يصدق بسبب الضغط الهائل على الشبكة، فالجميع على الهواتف يتصلون ببعضهم البعض، بسبب الذعر الذي هزّ المدينة بأسرها. 

كما أنه لم يكن لديّ أدنى فكرة عن الطريقة التي سأغطي بها تلك الأخبار. في البداية لم أستطع الحديث أكثر من دقيقة واحدة في كل مرّة، وأنا أحاول أن أستوعب وحسب تلك الصدمة الهائلة. لقد فاق الأمر كل تصوّر. 

شعرت بأن ذهني مشغول للحد الأقصى، فأنا قلق شخصيًا على أسرتي الصغيرة، وخائف أيضًا مما كان يحصل. لكن بمجرد أن تكشّفت لي حقيقة أنني أمام قصّة كبرى، في أعقاب عمل إرهابي، أدركت أننا جزء من يومٍ سيختلف العالم من بعده، وأن آثاره ستكون عميقة على مستوى الولايات المتحدة وخارجها، وعرفت أننا ذاهبون إلى حرب، أو أن الولايات المتحدة بالأحرى ذاهبة قطعًا إلى حرب جديدة. 

أدركت أيضًا، على الصعيد المهني، أنني أمام فترة صيف حافلة للغاية، بخلاف أي موسم صيفي مرّ علينا في هذه المهنة من قبل، وأنه لن يكون بعد ذلك التاريخ أي يومٍ بلا أخبار ساخنة، حتى أجل معلوم. 

 

3
في هذه الصورة التي التقطت في 11 سبتمبر 2001، تظهر طائرة مروحية تطوّف فوق مبنى البنتاغون الذي تتصاعد منه الأدخنة الكثيفة، بعد أن ضربت طائرة اختطفها إرهابيون الجانب الغربي من المبنى، ما تسبب بمقتل 184 شخصًا (أسوشيتد برس/هيسون يوم، ملف).

أن تصبح جزءًا من القصة 

تغيرت حياتي كثيرًا بعد 11 سبتمبر، على المستويين الشخصي والمهني على السواء. 

في نوفمبر، تعرضت للاعتقال في تكساس. فلاديمير بوتين كان أول زعيم دولة أجنبية يزور الولايات المتحدة بعد الهجوم، وكان بصدد اللقاء بالرئيس الأمريكي جورج بوش في مزرعته الكائنة في كراوفورد في تكساس. فتوجهت أنا هناك، وكان مكتب الجزيرة بطبيعة الحال قد قام بالترتيبات والحجوزات اللازمة، باستخدام بطاقة الائتمان الخاصة بالمكتب التي تحمل اسم "الجزيرة". 

في تلك الفترة، حضر اسم "الجزيرة" بشكل أوسع داخل الولايات المتحدة، بسبب تغطية الشبكة للحرب على أفغانستان في أعقاب الهجوم. قبل ذلك كان من الصعوبة بمكان أن نلفت الانتباه ليتحدث الناس إلينا، فقد كنت شبكة صغيرة غير معروفة محليًا، حتى أن الاسم كان مربكًا للعديدين عند سماعه لأول مرّة. 

سافرت بالطائرة إلى هيوستن، ومنها انطلقنا بطائرة صغيرة إلى مطار قرب كراوفورد في تكساس، وهو أقرب مطار إلى مزرعة بوش. هبطنا في ذلك المطار الصغير، ثم توجهنا إلى مكتب تأجير السيارات، فحصلت على المفتاح من الموظفة هنا، وقالت لي: "تفضّل، السيارة على الطرف المقابل من الشارع". 

لكن، وفور خروجي نحو السيارة، رأيت شرطيين يتحدثان إلى تلك الموظفة، ثم لاحظت أنهما يتجهان نحوي، وطلبا مني أن أتوقف في مكاني وأنتظر. حدث ذلك يوم أربعاء، وكان يفترض بي أن أكون جاهزًا يومها في الساعة الرابعة مساء بالتوقيت المحلي للظهور في بث مباشر على نشرة الساعة الحادية عشرة ليلًا بتوقيت الدوحة. 

سألتهما: "لمَ عليّ أن أنتظر؟"، فأخبراني بأن عليّ أن أنتظر وصول ضباط الخدمة السريّة، ثم أوضح لي أحدهما قائلًا: "هنالك شبهة بأن ثمة ما يربط البطاقة الائتمانية التي استخدمتها بأفغانستان". فقاطعته وقلت: "عفوًا؟ على حد علمي فإن الملا عمر لا يتعامل مع الأمريكان إكسبريس"، وهو شركة البطاقات الائتمانية التي يتعامل معها مكتب الجزيرة. 

كل ما حصل يومها هو أن السيدة في مكتب تأجير السيارات قد رأت اسم "محمد" على البطاقة، وفي المعلومات اسم "الجزيرة"، والتي ارتبطت بذهنها بأفغانستان، فأبلغت الشرطة، فأتوا إلي، واحتجزوني، من باب التحوّط. كانت المسافة بين المطار والمزرعة حوالي 65 كم، ومع التأخر الحاصل، اضطررت للاتصال بالمكتب وأخبرت مدير المكتب بأنني لن أتمكن من الخروج على المباشر من كراوفورد. 

 

وهكذا أصبحتُ قصّة 

نشرت الجزيرة خبرًا عاجلًا يفيد بأن مراسلها محتجز في الولايات المتحدة. في تلك الأثناء، كان حشد من المراسلين متواجدين في مزرعة عائلة بوش، لتغطية زيارة بوتين إلى الولايات المتحدة، كأول زعيم أجنبي يزور البلاد بعد التفجيرات. لكن الأنظار اتّجهت إلى ذلك الخبر العاجل، حول شخص يدعى "محمّد"، جرى احتجازه في المطار وهو في طريقه إلى المزرعة حيث سيجري ذلك اللقاء المهمّ. 

بعد مضي أكثر من ساعتين، وصل ضباط من الخدمة السريّة، ودار بيني وبينهم حوار مثير. لحسن حظي أن زوجتي كانت قد ألحّت علي صبيحة ذلك اليوم قبل خروجي إلى العمل أن آخذ معي جواز السفر الأمريكي، رغم أنها رحلة داخلية. لكنها اقترحت أن يبقى الجواز معي، من باب الاحتياط، وقد تبيّن أنّها على حقّ. 

أظهرت لهم جواز سفري الأمريكي، وظننت أن الأمر سينتهي بمجرّد أن يتأكدوا من هويتي، لكنهم بدل ذلك راحوا يتصفحون الجواز ليعرفوا الدول التي قمت بزيارتها وحصلت على تأشيرة للدخول إليها، وكان من ضمنها تونس، التي زرتها عام 1994 لتغطية قصة لصالح "فويس أوف أمريكا"، التابعة وقتها لوزارة الدفاع الأمريكية. سألوني عن تلك الزيارة التي قمت بها قبل سبع سنوات من الهجوم، وعن سببها، وعندها جنّ جنوني ورددت بغضب: "أنا مواطن أمريكي، وقد تحققتم للتوّ من جوازي وهويتي، ثم إن حكومتكم هي التي أوفدتني إلى تونس!". 

في نهاية المطاف، اصطحبوني إلى المزرعة حيث ستعقد القمة بين بوش وبوتين، وعند وصولي تعامل معي الحاضرون من الصحفيين باهتمام كبير، كأني نجم والجميع يرغب بفرصة للحديث معي! شعرت لبضع ساعات بأني أكثر أهمية حتى من بوتين! وكأن لسان حال الحاضرين يقول: "وأخيرًا، وصل محمّد إلى المزرعة!". 

بعد تلك الحادثة بسنوات، تلقت ابنتي دعوة من البيت الأبيض ضمن برنامج للتواصل يهدف إلى توجيه رسالة إلى الجالية المسلمة في الولايات المتحدة بأن المؤسسة الرسمية الأمريكية لن ترضخ لموجة "الإسلاموفوبيا". في الواقع، لقد بذلت إدارة بوش جهدًا استثنائيًا في بعض المنعطفات من أجل إثبات أنها ليست مناهضة للمسلمين. وقد استضاف البيت الأبيض ابنتي، وتقدم نحوها بوش، وهي فتاة صغيرة ترتدي القفطان المغربي، فسألها: "كيف حالك؟"، فأجابته: "لقد اعتقلتم والدي!"، فقدم اعتذاره إليها. وما زلت أحتفظ بالصورة التي جمعتها مع بوش.

 

4
الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش يتحدث أمام مجموعة من الأطفال المسلمين خلال حفل إفطار في البيت الأبيض بمناسبة عيد الفطر، وذلك في 17 ديسمبر، 2001. وقد قرأ بوش قصيدة للأطفال بتلك المناسبة. (رويترز)

محمّد ولكن "لا شيء يدعو للخوف"

لذلك اليوم، 11 سبتمبر، أثر عميق على حياتي الشخصية والمهنية. كان من ضمن ما تغيّر، طريقة التعاطي مع اسم "محمّد، وكيف أنني شعرت مضطرًا لوهلة بأن أثبت لمن ألتقي بهم بأنني "جيّد"، بخلاف الصورة التي لديهم عمّن يحملون هذا الاسم، وهذا بالرغم من أنني مواطن أمريكي، أتمتع بالمواطنة الأمريكية منذ فترة طويلة قبل تلك الأحداث، وأعمل في الوسط الصحفي في الولايات المتحدة منذ وقت طويل. 

كانت مسألة "غوانتامو" من أبرز القضايا الكبرى الشائكة، وكنت أحد الصحفيين القلائل الذين أتيحت لهم فرصة زيارة ذلك السجن. خلال إحدى زياراتي هناك عام 2004، أجريت مقابلة مع الجنرال المسؤول عن المنشأة. كان علينا عبور الخليج، للوصول إلى المنشأة، حيث يفصل الماء بين المكان الذي مكثنا فيه، وبين المعتقلات. وأثناء الانتظار، تبادلنا أطراف الحديث مع مجموعة من الزملاء من وسائل إعلام أمريكية مختلفة، وقلت لهم: "في هذه الجزيرة الكثير من المحمّدات، ولكني المحمّد الوحيد الذي دخل إليها وهو يضمن الخروج منها". 

وأذكر أن زميلي من نيويورك تايمز قال حينها: "محمد، هل تسمح لي أن أضمّن ما قلته في مادتي؟"، فلم أمانع بالطبع. كانت تلك هي الظروف التي أحاطت بالعمل حينها، والحساسيات التي تركت أثرها الشخصي عليّ، بمجرّد أني أحمل اسم "محمّد"، في أعقاب 11 سبتمبر. 

إليكم موقفًا آخر. كنت في أحد الأيام في مطار دالاس، في رحلة عمل لتغطية قصة ذات علاقة بالتفجيرات، وقد تحوّل السفر بالطائرة إلى معضلة حقيقية وقتها، بسبب التشديدات الأمنية غير المسبوقة: "اخلع حذاءك، اخلع الجورب، لا يمكن اصطحاب الماء، هذا ممنوع، وذلك غير مسموح..."، إجراءات خانقة فقدت معها أمريكا الكثير من أريحيتها المعهودة. 

على أية حال، وأنا مع المصوّر في طابور الانتظار الطويل، رأيت بعض موظفي المطار يساعدون امرأة على كرسي متحرك للعبور من جهتي، وبسبب الضوضاء وارتفاع الأصوات في المطار، لم أتمكن من سماعهم وهم ينادون عليّ كي أفسح الطريق للمرأة على الكرسي، وعندها لفت المصور انتباهي وناداني: "محمد!"، وعندها، أقسم لكم، التفت الجميع من حولنا عند سماع الاسم، مشدوهين، كأنهم يقولون: كيف يمكن أن نسافر على متن طائرة فيها "محمّد"؟!

على الصعيد المهني، كانت القصة نادرة بكل ما تعنيه الكلمة. فالحكومة الأمريكية أقدمت على خطوات وإجراءات غير مسبوقة منذ الحرب الأهلية، من اعتقال للأشخاص بلا اعتبار للقانون أو التقاليد الأمريكية، بشكل ترافق مع صعود سريع في الخطاب اليميني المتطرف على وسائل الإعلام. 

تلك كانت في تقديري بداية تجلّي الشرخ العميق في المجتمع الأمريكي. لم يحصل ذلك مباشرة، ولا مع بدء الحرب في أفغانستان، بل ربما حصل ذلك بشكل أوضح إبان غزو العراق عام 2003، حينها تسلل إلي شعور بأني في بلد مختلف غير الذي عرفته طيلة حياتي السابقة، وعرفت أن الوضع سيبقى على هذا النحو لفترة من الزمن. 

كان الاستقطاب الحاصل يذكّر بأمريكا الحرب الأهلية، حيث تشعر بأن ثمة حاجزًا يفصل بين فئتين من الناس، يحول دون أن ترى فئةٌ أختها على الطرف الآخر، فيغدو الاتفاق على أية قضية ضربًا من المستحيل. وقد رأينا مثلًا كيف انعكس ذلك مؤخرًا على قضية اللقاحات، وقبل ذلك فيما يخص الحرب، حين دعم الديمقراطيون الحرب على أفغانستان، لكنهم عارضوا بشدّة غزو العراق، بينما علت أصوات الجمهوريين بالدعوة للحرب في البلدين، رغم أنهم أعرضوا صفحًا عن شأن أفغانستان ومستقبلها حتى الآن، ولأسباب سياسية. 

لقد تغيّرت الولايات المتحدة تغيرًا عميقًا، وفي تقديري، فإن هذا التغيّر وما تبعه من شرخ في المجتمع هو أثر من ذلك اليوم، 11 سبتمبر، والذي غيّر العالم بأسره، بما أعقبه من حروب مكلفة وخسائر في الأرواح لم تتوقف. 

 

5
محمد العلمي، كبير مراسلي الجزيرة في واشنطن، نقل الوقائع من الميدان، قبل 20 عامًا من اليوم، عقب هجوم إرهابي ضرب مدينة نيويورك والعاصمة واشنطن. (مصدر الصورة: محمد العلمي)

 

تعلّمت طرح الأسئلة الصعبة  

أهمّ ما تعلمته من تغطية أحداث 11 سبتمبر هو اتخاذ موقف فاحص ونقدي إزاء تصريحات الحكومة وبياناتها. 

ففي الأيام الأولى للحرب في أفغانستان، قصفت الولايات المتحدة حفل زفاف ظنًا بأنه تجمّع للقاعدة، ما أدى إلى مقتل 40 مدنيًا بريئًا في مناسبة اجتماعية. 

غطّت الجزيرة الخبر، وأذكر في تلك الفترة أننا أصبحنا في نظر الحكومة الأمريكية وكأننا أعداء، فبدأت ضدنا حملة يومية، وقد خلق ذلك تحدّيات جمّة بالنسبة إلي أثناء عملي كمراسل في واشنطن. لقد كنّا في نظر البعض "شبكة القاعدة"، أو شبكة "إرهابية". 

ولم تبدأ هذه الصورة عن الجزيرة في الولايات المتحدة بالتغيّر إلا بعد أن انحسرت شعبية الحرب على العراق، وحينها بدأ الرأي العام الأمريكي ينظر إلى الجزيرة نظرة مختلفة. 

كان من بين من هاجمَنا دونالد رامسفيلد، والذي انتقدَنا في برنامج تلفزيوني بسبب تغطيتنا لحادثة العرس الذي تعرض للقصف، كما هاجم الجزيرة مرّة بشكل مباشر أثناء التصوير، ملمحًا إلى أننا منحازون إلى الإرهابيين. عندها وجهت إليه سؤالًا: "سيد رامسفيلد، هل تتهمنا بفبركة تلك المشاهِد؟ هل تعتقد أننا اختلقناها؟"، فلم يعطِ جوابًا، وتابع تلقي الأسئلة من صحفي آخر. 

ومع ذلك لم أفقد الشعور بأني أمارس عملي في وضع ديمقراطي. معدودةٌ هي الدول التي يمكن فيها لصحفي أن يواجه وزير الدفاع، وبلاده في حالة حرب، ويطرح عليه أسئلة صعبة في هامش من الحريّة ودون أن يخاطر بسلامته الشخصية. فهنا في الولايات المتحدة، يمكنك أن تواجه مسؤولًا حكوميًا من أعلى المستويات، دون أن تخشى أنّك لن تعود إلى بيتك! 

لكن حتى في البلد الديمقراطي، يمكن بكل سهولة للصحفي، ولاسيما في سياق الحرب وتصاعد المشاعر الوطنية، أن يتحوّل إلى ناطق باسم الحكومة، دون أن يتخذ موقفًا نقديًا فاحصًا وباحثًا عن الحقيقة، وهو الموقف الذي حرصت على الالتزام المهني به. 

 

6
مدير مكتب الجزيرة في واشنطن حافظ الميرازي (يسار) في لقاء مع وزير الدفاع الأمريكي الأسبق دونالد رامسفيلد (يمين)، في 16 أكتوبر 2001، من داخل مبنى البنتاغون في العاصمة واشنطن. كان رامسفيلد واحدًا من عدة مسؤولين أمريكيين بارزين انتقدوا شبكة الجزيرة بسبب طبيعة تغطيتها للحرب الأمريكية على أفغانستان في أعقاب الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر (وكالة الأنباء الفرنسية/جويس نالتشايان)

 

وماذا عن الحياد؟ 

يصعب البقاء على الحياد، خاصة حين تصبح جزءًا من القصة، وتبدأ بالقلق على سلامتك الشخصية، وسلامة أسرتك، حتى في البلد الذي تقطن فيه. 

لكن يبقى من الضروري إلى جانب المساءلة والتعاطي النقدي مع المعلومات الالتزام بالموضوعية، حتى بإزاء ما نفترض في الوضع الطبيعي أنّه "حقائق"، وذلك لأن ضحية الحرب الأولى هي الحقيقة. 

فكثيرًا ما تتسلل إلينا الشائعات، خاصة في هذه الأيام التي فاقمت من هذه المعضلة بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وهذا يعني ضرورة اتخاذ موقف فاحص ليس عند التواصل مع صناع القرار وحسب، بل وحتى مع العامّة، فلا تدري من يحاول إلى التأثير على موقفك ورأيك. وتبقى مهمّة الصحفيّ قائمة في السعي لتمييز الحقيقة عن الزيف، وهي مهمّة تتطلب قدرًا هائلًا من المسؤولية والاتزان، لتحديد ما يلزم نقله إلى المشاهد من معلومات وأخبار وعلى أي نحو سينقلها. 
 

More Articles

Weaponizing the Law: SLAPPs Against Journalists and Press Freedom

SLAPPs—abusive lawsuits designed to silence journalists and activists—are surging across Southeast Asia, exploiting vague laws and weak protections to punish those who speak truth to power. As legal harassment intensifies, journalists face not only imprisonment and censorship but also emotional trauma, exile, and long-term damage to their careers.

AJR Contributor Published on: 17 Apr, 2025
Predicting the Future of Media in 2025

The rise of citizen journalism, the rethinking of long-form content, the evolution of video, and the exploration of AI opportunities are key elements of the media landscape forecast for 2025, according to a report from Harvard University's Nieman Lab.

Othman Kabashi
Othman Kabashi Published on: 15 Apr, 2025
Revisioning Journalism During a Genocide

Western media’s coverage of the Gaza genocide has revealed fundamental cracks in the notion of journalistic objectivity. Mainstream outlets have frequently marginalized or discredited Palestinian perspectives, often echoing narratives that align with Israeli state interests. In stark contrast, Palestinian journalists—reporting from within a besieged landscape—have become frontline truth-tellers. Through raw, emotional storytelling, they are not only documenting atrocities but also redefining journalism as a form of resistance and a reclaiming of ethical purpose.

Ana Maria Monjardino
Ana Maria Monjardino Published on: 4 Apr, 2025
How Media Drives Collective Adaptation During Natural Disasters in Oman

This paper highlights how Omani media, during times of natural disasters, focused on praising government efforts to improve its image, while neglecting the voices of victims and those affected by the cyclones. It also examines the media’s role in warning against and preventing future disasters.

Shaimaa Al-Eisai
Shaimaa Al-Eisai Published on: 31 Mar, 2025
Systematic Bias: How Western Media Framed the March 18 Massacre of Palestinians

On March 18, Israel launched a large-scale assault on Gaza, killing over 412 Palestinians and injuring more than 500, while Western media uncritically echoed Israel’s claim of “targeting Hamas.” Rather than exposing the massacre, coverage downplayed the death toll, delayed key facts, and framed the attacks as justified pressure on Hamas—further highlighting the double standard in valuing Palestinian lives.

Mei Shigenobu مي شيغينوبو
Mei Shigenobu Published on: 18 Mar, 2025
Misinformation in Syria: Natural Chaos or Organised Campaign?

Old videos inciting “sectarian strife,” statements taken out of context attacking Christians, scenes of heavy weaponry clashes in other countries, fabricated stories of fictitious detainees, and a huge amount of fake news that accompanied the fall of Bashar al-Assad’s regime: Is it the natural chaos of transition or a systematic campaign?

Farhat Khedr
Farhat Khedr Published on: 11 Mar, 2025
Trump and the Closure of USAID: A Candid Conversation on "Independent Media"

The impact of U.S. President Donald Trump's decision to halt foreign funding through the U.S. Agency for International Development (USAID) on Arab media platforms has largely gone undiscussed. Some of these platforms have consistently labelled themselves as "independent" despite being Western-funded. This article examines the reasons behind the failure of economic models for Western-funded institutions in the Arab world and explores the extent of their editorial independence.

Ahmad Abuhamad Published on: 9 Mar, 2025
The Sharp Contrast: How Israeli and Western Media Cover the War on Gaza

Despite being directly governed by Israeli policies, some Israeli media outlets critically report on their government’s actions and use accurate terminology, whereas Western media has shown complete bias, failing to be impartial in its coverage of Israel’s aggression in Gaza.

Faras Ghani Published on: 5 Mar, 2025
International Media Seek Gaza Access; What Do Palestinian Journalists Say?

As international media push for access to Gaza, Palestinian journalists—who have been the primary voices on the ground—criticize their Western counterparts for failing to acknowledge their contributions, amplify their reports, or support them as they risk their lives to document the war. They face systemic bias and exploitation, and continue to work under extreme conditions without proper recognition or support.

NILOFAR ABSAR
Nilofar Absar Published on: 26 Feb, 2025
Journalism and Artificial Intelligence: Who Controls the Narrative?

How did the conversation about using artificial intelligence in journalism become merely a "trend"? And can we say that much of the media discourse on AI’s potential remains broad and speculative rather than a tangible reality in newsrooms?

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 23 Feb, 2025
The Whispers of Resistance in Assad’s Reign

For more than a decade of the Syrian revolution, the former regime has employed various forms of intimidation against journalists—killing, interrogations, and forced displacement—all for a single purpose: silencing their voices. Mawadda Bahah hid behind pseudonyms and shifted her focus to environmental issues after a "brief session" at the Kafar Soussa branch of Syria’s intelligence agency.

Mawadah Bahah
Mawadah Bahah Published on: 18 Feb, 2025
Culture of silence: Journalism and mental health problems in Africa

The revealing yet underreported impact of mental health on African journalists is far-reaching. Many of them lack medical insurance, support, and counselling while covering sensitive topics or residing in conflicting, violent war zones, with some even considering suicide.

Derick Matsengarwodzi
Derick Matsengarwodzi Published on: 13 Feb, 2025
Tweets Aren’t News: Why Journalism Still Matters

Twitter, once key for real-time news, has become a battleground of misinformation and outrage, drowning out factual journalism. With major newspapers leaving, the challenge is to remind audiences that true news comes from credible sources, not the chaos of social media.

Ilya
Ilya U Topper Published on: 10 Feb, 2025
Will Meta Become a Platform for Disinformation and Conspiracy Theories?

Meta’s decision to abandon third-party fact-checking in favor of Community Notes aligns with Donald Trump’s long-standing criticisms of media scrutiny, raising concerns that the platform will fuel disinformation, conspiracy theories, and political polarization. With support from Elon Musk’s X, major social media platforms now lean toward a "Trumpian" stance, potentially weakening global fact-checking efforts and reshaping the online information landscape.

Arwa Kooli
Arwa Kooli Published on: 5 Feb, 2025
October 7: The Battle for Narratives and the Forgotten Roots of Palestine

What is the difference between October 6th and October 7th? How did the media distort the historical context and mislead the public? Why did some Arab media strip the genocidal war from its roots? Is there an agenda behind highlighting the Israel-Hamas duality in news coverage?

Said El Hajji
Said El Hajji Published on: 21 Jan, 2025
Challenges of Unequal Data Flow on Southern Narratives

The digital revolution has widened the gap between the Global South and the North. Beyond theories that attribute this disparity to the North's technological dominance, the article explores how national and local policies in the South shape and influence its narratives.

Hassan Obeid
Hassan Obeid Published on: 14 Jan, 2025
Decolonise How? Humanitarian Journalism is No Ordinary Journalism

Unlike most journalism, which involves explaining societies to themselves, war reporting and foreign correspondence explain the suffering of exoticised communities to audiences back home, often within a context of profound ignorance about these othered places. Humanitarian journalism seeks to counter this with empathetic storytelling that amplifies local voices and prioritises ethical representation.

Patrick Gathara
Patrick Gathara Published on: 8 Jan, 2025
Mastering Journalistic Storytelling: The Power of Media Practices

Narration in journalism thrives when it's grounded in fieldwork and direct engagement with the story. Its primary goal is to evoke impact and empathy, centering on the human experience. However, the Arab press has often shifted this focus, favoring office-based reporting over firsthand accounts, resulting in narratives that lack genuine substance.

AJR logo
Zainab Tarhini Published on: 7 Jan, 2025
I Resigned from CNN Over its Pro-Israel Bias

  Developing as a young journalist without jeopardizing your morals has become incredibly difficult.

Ana Maria Monjardino
Ana Maria Monjardino Published on: 2 Jan, 2025
Digital Colonialism: The Global South Facing Closed Screens

After the independence of the Maghreb countries, the old resistance fighters used to say that "colonialism left through the door only to return through the window," and now it is returning in new forms of dominance through the window of digital colonialism. This control is evident in the acquisition of major technological and media companies, while the South is still looking for an alternative.

Ahmad Radwan
Ahmad Radwan Published on: 31 Dec, 2024
Independent Syrian Journalism: From Revolution to Assad's Fall

Independent Syrian journalism played a pivotal role in exposing regime corruption and documenting war crimes during the 13-year revolution, despite immense risks to journalists, including imprisonment, assassination, and exile. Operating from abroad, these journalists pioneered investigative and open-source reporting, preserving evidence, and shaping narratives that challenged the Assad regime's propaganda.

Ahmad Haj Hamdo
Ahmad Haj Hamdo Published on: 17 Dec, 2024
Bolivia’s Mines and Radio: A Voice of the Global South Against Hegemony

Miners' radio stations in the heart of Bolivia's mining communities, played a crucial role in shaping communication within mining communities, contributing to social and political movements. These stations intersected with anarchist theatre, educational initiatives, and alternative media, addressing labour rights, minority groups, and imperialism.

Khaldoun Shami PhD
Khaldoun H. Shami Published on: 16 Dec, 2024
How Does Misinformation Undermine Public Trust in Journalism?

Reports reveal a growing loss of trust in the media, driven by the extent of misinformation that undermines professional journalism's ability to influence public discourse. The platforms of misinformation, now supported by states and private entities during conflicts and wars, threaten to strip the profession of its core roles of accountability and oversight.

Muhammad Khamaiseh Published on: 13 Nov, 2024
Challenging the Narrative: Jeremy Scahill on the Need for Adversarial Journalism

Investigative journalist Jeremy Scahill calls for a revival of "adversarial journalism" to reinstate crucial professional and humanitarian values in mainstream Western media, especially regarding the coverage of the Gaza genocide.

Mohammad Zeidan
Mohammad Zeidan Published on: 10 Nov, 2024