نجحت إسرائيل في الترويج لسرديتها بالاعتماد على آلة دعائية كبيرة وقوية، أدت مهام تزييف الحقائق وتبرير أعمال الاحتلال وتطويعها لخدمة روايتها الخاصة بالصراع مع الفلسطينيين.
لكن ما أضحى يحاصر هذا النهج الدعائي هو ظهور جهد كبير من فلسطينيي الداخل المحتل في أراضي الـ 48 في تفنيد تلك الدعاية عبر وسائل التواصل المتاحة. وقد أبرز الهجوم العسكري الإسرائيلي على غزة في العاشر من مايو/أيار الماضي أهمية هذا الجهد، ففي وقت أوعز الاحتلال للأذرع الإعلامية الإسرائيلية بإظهار الفلسطينيين كمجرمين ودعاة حرب، كان هناك من يتطوع من فلسطيني الداخل لإظهار الحقائق والرد مباشرة على الدعاية الإسرائيلية.
وبالأرقام، يظهر استطلاع رأي أجراه مركز يوغوف (YouGov) البريطاني تراجع شعبية إسرائيل في عدد من الدول الأوروبية بعد التصعيد الأخير في قطاع غزة، حيث انخفض معدل التفضيل الصافي للكيان 14 نقطة في جميع البلدان التي شملها الاستطلاع.
وعلى سبيل المثال، تراجعت درجة التأييد لإسرائيل في بريطانيا 27 نقطة في مايو/أيار 2021، ووصلت إلى ناقص واحد وأربعين (-41)، قياسا بدرجة التأييد التي تم تسجيلها في فبراير/شباط من العام نفسه (-14)، ويعد هذا التصنيف الأدنى لحجم التأييد لإسرائيل داخل بريطانيا منذ عام 2016، حيث تم قياس هذه النقاط وفق مجموعة مؤشرات تحلّل نمط التأييد.
دحض الدعاية الإسرائيليّة
برز الناشط عمر عاصي والمقيم في قرية كُفربرا في الداخل المحتل بصفته من أكثر الناشطين تركيزاً على دحض الرواية الإسرائيلية، مستخدماً منصة الفيسبوك.
في العدوان الأخير على غزة، ساهم عاصي وغيره من نشطاء الداخل في تعزيز الرواية الفلسطينية على منصات التواصل الاجتماعي وفي أعمالهم وفي الجامعات، مستفيدين من إجادتهم اللغة العبرية.
وما يُميز دور عاصي أنه يحاول أن ينقل لمن لا يُجيد العبريّة، أصواتاً من داخل إسرائيل لا تصل دائمًا، فالخطاب التقليدي والرد عليه بحقائق من أرض الواقع لن يفيد كثيرًا، إن لم يكن من وحي المعرفة بالإسرائيليين وبالأفكار المسبقة التي يتبنونها.
"الإعلام الإسرائيلي قد لا ينقل أحاديث المستوطنين عن معارك مقدسة ضد أهلنا في اللد، وينشغل بالحديث عن أهلنا كمخربين، وهنا يأتي دورنا كي نفهم ما يُخطط له هؤلاء، فالمسألة ليست مُجرد غضب عابر بل هي محاولة لتطهير عرقي في اللد"، هذا رأي عاصي الحريص على اختيار المصطلحات كي لا يتعرض حسابه للحظر، وأما من ناحية المشاكل والتهديدات والشتائم، فهو أمر لا يستطيع تجنبه، فبعد كُل تعليق على خبر إسرائيلي، يعرض فيه شيئا من وجهة نظرهم كفلسطينيين، تنهال عليه الشتائم والتهديدات.
لم يستطع عاصي متابعة جميع التعليقات لأنها كانت تتخطى المئات، لكن الأكيد بحسبه أن بعضها تضمن شتائم بذيئة، وبعضها الآخر احتوى تهديدات، وجاءت تعليقات: مثل "يجب أن نطردكم جميعًا من بلادنا".. أو "اذهب إلى الأردن.. إلى سوريا أو العراق".
لا يبالي عاصي بكل ما يحدث، لكن ما يحدث مأزق بالنسبة إليه "فهم يروننا ضيوف في بلادهم، وكأننا لسنا أصحاب البلاد، ويجب أن نشكرهم لأننا هنا".
إفساد كل توجه إسرائيلي
"إذا لم أسرقه أنا، سيسرقه غيري"، جملة شهيرة على لسان مستوطن يهودي يدعى يعقوب فاوتشي، وجهها لصاحبة المنزل الذي سرقه منها، كانت الجملة كفيلة بشرح قضية كاملة تخص أبناء حي الشيخ جراح. يحاول الاحتلال تضليل الرأي العام عبر إقناعه أن الحي يمتلكه "إسرائيليون" بشكل قانوني، وأن على سكانه الحاليين من الفلسطينيين الرحيل منه بأسرع وقت.
انتشر مقطع الفيديو بشكل كبير، عقب تصويره من قبل طاقم قناة "تي أر تي عربي" في 19 آذار /مارس 2021، وعلى رأس الطاقم كان الصحفي الفلسطيني محمد خيري.
"عندما يصبح الأمر موثقا بالأدلة لا يمكن لأشد وسائل الإعلام مناصرة لإسرائيل أن تتجاوز الحقيقة"، هكذا وصف خير المقطع المصور، قبل أن يضيف: "ولتكذيب الدعاية الإسرائيلية، عليك أن تسكن في المناطق التي يسيطر عليها الاحتلال بشكل كامل، عندها، ترى الأمور على حقيقتها بعيداً عما تشيعه وسائل الإعلام الخارجية". يريد خيري من خلال هذه المشاهد أن يقول إنها أدلة على أرض الواقع "تشير إلى انتهاكات احتلال واستيطان واعتداءات، وأننا مستهدفون بالكثير من السيناريوهات الإسرائيلية التي تحيط بعرب الداخل من كل جانب، لذا نحن أقدر على إفساد كل توجيه إسرائيلي يستهدفنا بأي شكل".
بحسب خيري، فإن مواطني الداخل المحتل الذين اعتادوا التعامل مع الدعاية الإسرائيلية بندية، يدركون أن الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي في إسرائيل موجهة بشكل روتيني ضد العرب لخدمة السياسة الإسرائيلية، كما أن الإسرائيليين أنفسهم - باعتراف المواقع المتخصصة في رصد مواقع التواصل الاجتماعي والتسويق الإسرائيلي - لن يستطيعوا هذه المرة مجاراة التسويق الفلسطيني للأحداث.
"هذه المرة كان التحدي كبيرا جدا على الإسرائيليين في مجاراة الحقيقة الفلسطينية، حيث كان هناك صعوبة في إثبات ادعاءاته كما كان يجري في السابق، خاصة أن انضمام المؤثرين إلى هذه العملية ساهم برفعها وإحباط المساعي الإسرائيلية لترويج الدعاية الصهيونية المعتادة".
أصوات من داخل إسرائيل
لدى الفلسطينيين في الداخل نوع من العزوف الكبير عن الاستماع للصحافة الإسرائيلية وهم يركزون على ما تقوله وسائل الإعلام المحلية العربية في الداخل، وذلك لأن الصحافة الاسرائيلية لا تشوه فقط الحقائق حول ما يجري في قطاع غزة أو حي الشيخ جراح أو لدورها في حملة القمع ضد فلسطيني الداخل، بل لأنها تأخذ ما يفيد روايتها و تصطف خلف العسكرة.
إن قوة الدعاية الإسرائيلية ترتكز على أن إسرائيل تتجند كدولة بالكامل لنشر فكرة ما، هذا ما تؤكده النّاشطة والصّحفيّة منى عمري، التي ترى أن إسرائيل تسخّر كل ما هو عسكري، سياسي، أمني، وقضائي للضخ الإعلامي ولترويج فكرة معينة، سواء للجمهور الإسرائيلي أو الخارج.
وتستدل عمري بما جرى مع مراسلة قناة الجزيرة جيفارا البديري. يومها، روّجت الصحافة الإسرائيلية لرواية مفادها أن البديري ضربت جندية إسرائيلية، وهذا لم يحدث في الحقيقة.
برأي عمري، فإن قدرة الفلسطيني في الداخل على دحض الرواية الإسرائيلية، تبدو أكثر سهولة لتواجده في عين المكان ما يسهّل عملية التوثيق، مشيرة إلى أن "اعتقال الناشطة منى الكرد سببه أنها كانت توثق وتفضح جرائم الاحتلال، فالتوثيق الدائم المبني على معلومة دقيقة وموثوقة يزعجهم".
تقيم عمري في مدينة حيفا المحتلة، وبرأيها فإن إتقان اللغة العبرية مهم جداً لفهم المشهد وتوجيه رسائل معاكسة للاحتلال وتغيير قناعات بعض الإسرائيليين، وهو ما تراه عمري محرجاً جداً لحكومة الاحتلال خاصة خلال فترة الانتخابات.
وفيما يتعلق بعناصر قوة دعاية الإسرائيلية، ومن خلال الحكم على ما جرى في العدوان الأخير على غزة، ترى عمري أن الدعاية الإسرائيلية فقدت عناصر قوتها باستثناء عنصر واحد هو قوة الدعاية باستخدام القوة السياسية كذراع من أجل تنفيذ هذه الدعاية قسرا وليس عن طريق الإقناع. فعلى سبيل المثال عندما خرجت الخارجية الألمانية تناصر الاحتلال في عدوانه على غزة ولم تتطرق لما يتعرض له الفلسطينيون في غزة، كان هذا ناجماً عن عمل سياسي بالدرجة الأولى وليس دعائي".
واجه النشطاء الفلسطينيون الدعاية الإسرائيلية في العدوان الأخير خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي، لكن الأهم اليوم أن يستمر هذا الزخم بشكل أكثر تنظيما ومنهجية.