الصحفيون الفلسطينيون والرقابة الذاتية

الرقابة الذاتية تعني أن يتحكم الصحفي بما يقوله أو يكتبه كي يتجنب المحاكمات أو المضايقات، دون أن يخبره أحد بضرورة القيام بذلك (تصوير: أندرو بورتون - غيتي).

الصحفيون الفلسطينيون والرقابة الذاتية

"الجبن الفكريّ في هذا البلد هو أسوأ عدو يواجهه الكاتب أو الصحفي، ولا يبدو لي أنّ هذه الحقيقة قد حصلت على النقاش الذي تستحقّه". 

كانت هذه المقولة جزءا من مقدمة كتبها "جورج أورويل" لكتابه "مزرعة الحيوان" العام 1945. لم تُطبع تلك المقدمة، وظلت مجهولة حتى نشرتها مجلة "نيويورك تايمز" العام 1972 بعنوان "حرية الصحافة". في هذه المقدمة، ينتقد "أورويل" ما أسماه بالجبن الفكري في بلده بريطانيا، ويعُدّه أسوأ عدو يواجه الصحفي أو الكاتب. أما السبب الحقيقي لهذا الانتقاد فكان بسبب رفض العديد من دور النشر طباعة كتاب "مزرعة الحيوان" الذي ينتقد فيه الاتحاد السوفياتي والشيوعية بطريقة ساخرة. 

ويُشير "أورويل" إلى أن الامتناع عن النشر لم يكن نتيجة خوف دور النشر من الحكومة، بل من الرأي العام. ما واجهه الكاتب البريطاني من رقابة آنذاك، يذكَرُنا بمعضلة الرقابة الذاتية التي تواجه الكثير من المجتمعات في عالمنا اليوم، وتشكل سيفا مسلطا على رقاب الصحفيين والمؤسسات الإعلامية.

لا تمثل حرية التعبير عن الآراء والأفكار مجرد حق من حقوق الأفراد الأساسية، بل تُعد وسيلةً لتبادل الآراء بين الناس، ولإثارة النقاش حول القضايا المختلفة، ما يسمح بالتدفق الحر للمعلومات وإعلام الناس بالأحداث والقضايا التي تهمهم. 

على هذا الأساس، تشكل الرقابة الذاتية في العمل الصحفي تهديدا لحرية الرأي والتعبير وتقيد وصول المعرفة للآخرين؛ فتتحول الصحافة إلى علاقات عامة ودعاية للنظام السياسي، بدلا من أن تمارس دورها بصفتها سلطة رابعة في المجتمع. وإذا كانت السلطة هي من تمارس الضغوطات، فإن الصحفيين في فلسطين يخضعون لضغوطات من جهات عديدة تفرض عليهم الرقابة الذاتية.

 

2
تمارس النيابة العامة والقضاء رقابة خفية على الصحفيين عبر اللجوء إلى "تأويل" فصول القانون لمعاقبة المزعجين (تصوير - أختار سومرو - رويترز). 

 

رقابة عالية وحريات ضعيفة

إذا درسنا الوضع في فلسطين، سنجد أن مقياس الرقابة الذاتية في أعلى مستوياته؛ ففي دراسة أجراها المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية "مدى" في السنوات الأخيرة، تبين أن 80% من الصحفيين الفلسطينيين يمارسون الرقابة الذاتية على أنفسهم، وهو مستوى يُنذر بالخطر؛ لما تشكله الرقابة من مساس بحرية التعبير وحق الجمهور في المعرفة، بالإضافة إلى تأثيرها على دور الصحافة المُنتظر نحو المجتمع. وفي تقرير "مراسلون بلا حدود" 2021 احتلت فلسطين المرتبة الـ 138 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، فيما احتلت دولة الاحتلال الإسرائيلي المرتبة الـ 86.

من ناحية الشكل، تظهر الصحافة الفلسطينية على أنها تتمتع بقدر عال من الاستقلالية والحرية؛ ففي الضفة الغربية وقطاع غزة ثمة ما يزيد عن 80 محطة إذاعة وتلفزيون.

وبالرغم من هذا الكم من وسائل الإعلام المحلية، إلا أنها تفتقد للكثير من المهنية أو التميز والتفرد، خاصة حينما يتعلق الأمر بطرح قضايا سياسية واجتماعية حساسة؛ مثل ملفات الفساد والمحسوبية وقمع الحريات. بالإضافة إلى ذلك، لا تمثل وسائل الإعلام الفلسطينية مصدر المعلومات الأول للفلسطينيين، بل تعتمد قطاعات واسعة من المجتمع على وسائل الإعلام العربية لمتابعة قضيتهم الجوهرية.

أما المثير للاستغراب فهو أن الكثير من المؤسسات الإعلامية الفلسطينية نفسها، تعتمد على ما يصدر من الصحافة الإسرائيلية فيما يتعلق بالأحداث ذات العلاقة بالسلطة الفلسطينية وعلاقتها بالاحتلال الإسرائيلي. 

وأهم الأسباب وراء ضعف المحتوى الفلسطيني تكمن في الرقابة الذاتية التي يمارسها الصحفيون والمؤسسات الصحفية على أنفسهم أثناء ممارسة المهنة. فلماذا يلجأ الصحفيون إلى الرقابة الذاتية؟

 

3
في فلسطين لا يمكن أن تكتب لا عن السلطة ولا عن الاحتلال وكل ما يتبقى للصحفيين هو بعض القصص الاجتماعية التي لا تتمثل دور مراقبة السلطة (تصوير: نبيل منذر - إ ب أ). 

 

الرقابة الذاتية.. لعبة السلطات الذكية 

بداية، تمثل الرقابة الذاتية - Self-censorship - أحد أهم القيود على حرية التعبير. وهي تعني أن يتحكم الصحفي بما يقوله أو يكتبه كي يتجنب المحاكمات أو المضايقات، دون أن يخبره أحد بضرورة فرض هذه الرقابة على نفسه. ما يعني أن الرقابة الذاتية طوعية، يمارسها القائم بالعمل الصحفي بمحض إرادته بسبب الخوف، مما يمنع من ظهور قصص تنتمي إلى صميم مراقبة السلطة.

يُنظر إلى الرقابة الذاتية -في نطاق واسع- على أنها تهديد لحرية الإعلام، وتعد أكثر أشكال الرقابة تهديدا للصحفيين وخطرًا على مهنتهم. وتتحول الرقابة الذاتية إلى قضية إشكالية عندما يتم إخفاء معلومات مهمة يجب أن يعرفها الجمهور، لمساعدته على الاختيار واتخاذ القرار في بعض الأحداث المهمة؛ كالانتخابات مثلا. 

يمارس الصحفيون الرقابة الذاتية بسبب ضغوطات من جهات مختلفة؛ مثل الحكومات ووزارات الإعلام والمصالح المالية والأعراف الاجتماعية. ويُجادل نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد بأن ملكية الشركات لوسائل الإعلام تسبب الرقابة الذاتية في اختيار القصص الإخبارية وكيفية تأطيرها، من أجل أن تتناسب مع مصالح مالك الشركة.

في فلسطين، تمثل الرقابة الذاتية لعبة ذكية كما يعلق عمر نزال، عضو مجلس الأمانة العامة في نقابة الصحفيين. يقول نزال: "تلجأ السلطة إلى الرقابة الذاتية للهروب من الضغوط والانتقادات الدولية، من خلال التظاهر باحترام الحريات الصحفية وفق الدساتير والقوانين الدولية، لكنها في الوقت نفسه، تحدد سقف الحريات العامة بصورة غير مُعلنة، وتلاحق كل من لا يلتزم بها". 

 

4
كتاب "صحفيون خلف أسماء مستعارة" الصادر عن معهد الجزيرة للإعلام حرر  صحفيين من ضغوطات الرقابة الذاتية للكتابة عن محنتهم مع السلطة ورجال الأعمال والقضاء والأعراف الاجتماعية.

 

جهات ضغط متعددة

تعود أهم الأسباب التي تدفع الصحفي الفلسطيني لممارسة الرقابة الذاتية على نفسه إلى خوفه من المساءلة والملاحقة. وجِهات الرقابة في فلسطين متعددة: رقابة مؤسساتية تحريرية، تتعلق بفرض المؤسسات الإعلامية أو المشغل رقابة على ما ينشره الصحفيون العاملون لديهم؛ بحيث لا يخالف الصحفي السياسات التي تسير عليها المؤسسة التحريرية أو سياسة الممول الذي يقدم الدعم للمشغل. في هذه الحالة يصبح الصحفي مسلوب الإرادة، وخاضعا لإدارة المشغل وقواعده التحريرية. وفي حال فكر خارج السرب، فإنه إما أن يخسر عمله أو يواجه العقاب. 

أما الجهة الثانية فتتمثل بالسلطة التنفيذية بأذرعها المختلفة؛ فعلى الرغم من تصريحات السلطات التنفيذية الدائمة باحترام الحريات الإعلامية في فلسطين، إلا أن السلطة وأجهزتها، واقعيا، تفرض قيودا غير معلنة على الصحفيين؛ فإذا لم يتبعوها، يتعرضون للتهديد والملاحقة. وتتمثل الجهة الثالثة في القضاء والنيابة العامة اللتين تمارسان رقابة خفية على الصحفيين وتتخذان بحقهم إجراءات تعسفية؛ مثل الاستدعاء والتحقيق والتوقيف. 

مع ذلك؛ فإن شيوع ظاهرة الرقابة الذاتية لا يرتبط بالجهات الرسمية والمؤسسات التحريرية فقط، بل قد يكون نتيجة مخاوف مصدرها رجال الأعمال والممولين والنقابات، فضلا عن رقابة المجتمع ضمن ما يُعرف بـ "الأعراف الاجتماعية الضاغطة"، خاصة حينما يتعلق الأمر بـ "التابوهات" والمحرمات المجتمعية؛ فمن غير الممكن أن يتناول الصحفيون بعض القضايا المجتمعية الحساسة؛ مثل القتل على خلفية الشرف، والعنف المنزلي، والاغتصاب... إلخ. إن تناول مثل هذه القضايا قد يُعرّض الصحفيين لتهديدات تصل إلى حد الخطف أو القتل، أو المقاطعة المجتمعية للصحفي وعائلته. 

ويشكل الاحتلال الإسرائيلي جانبا مهما من جوانب الضغط على الصحفيين الفلسطينيين من خلال فرض رقابة أمنية عليهم؛ إذ لا يُسمح للصحفيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بدخول مدينة القدس والأراضي المحتلة العام 1948، كما لا تعترف ببطاقاتهم الصحفية في كثير من الأحيان. إلى جانب ذلك، يتعرض الصحفيون للقتل والضرب والاعتقال ومنع السفر ومصادرة معداتهم لمجرد تغطيتهم للأحداث المتعلقة بسياسات الاحتلال تجاه الفلسطينيين. في السنوات الأخيرة، أغلقت سلطات الاحتلال العديد من المكاتب الصحفية بقرارات عسكرية؛ منها مكتب "قناة القدس" ومكتب "قناة فلسطين اليوم" وشبكة "جي ميديا"، بمبرر التحريض على العنف ضد إسرائيل، فيما يقبع 25 صحفيا فلسطينيا في سجون الاحتلال الإسرائيلي.

 

رقابة قديمة متجددة

تعود جذور الرقابة على الصحافة الفلسطينية إلى زمن الانتداب البريطاني، حيث أغلقت السلطات البريطانية عددا من الصحف الفلسطينية ما بين الأعوام 1936 – 1939. وبعد قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي سنة 1948، تولت السلطات الأردنية الرقابة على الصحافة الفلسطينية في الضفة الغربية، فيما تحولت الصحافة في قطاع غزة إلى الرقابة المصرية. وبعد احتلال الضفة وغزة العام 1967، بلغ القمع للصحافة ذروته؛ إذ خضعت الصحافة الفلسطينية مباشرة للرقابة العسكرية الإسرائيلية، وصار الرقيب الإسرائيلي مسؤولًا عن كل ما يصدر عن الصحافة الفلسطينية، وبات ممنوعا طبع أي مادة يعتبرها الاحتلال الإسرائيلي تحريضية أو متنافية مع سياساته.

في النتيجة، اختار العديد من الصحفيين العمل بأسماء مستعارة، أو مع مؤسسات أجنبية خوفا من الملاحقة والعقاب؛ ففي تلك الفترة، سُجن كثير من الكتاب والأدباء وأصحاب المكتبات، وأصبح الكُتّاب بمثابة السلاح بالنسبة لإسرائيل. 

وأثناء إنشاء السلطة الفلسطينية في العام 1994، صدر قانون المطبوعات الفلسطيني، وتولت الأجهزة الأمنية الفلسطينية متابعة كُتّاب الرأي والمقالات. وعلى الرغم من أن المادة الثانية من قانون المطبوعات والنشر للعام 1995 تنص على أن حرية الرأي مكفولة للفلسطينيين، إلا أنها مقيدة ببعض القوانين للعمل الصحفي؛ مثل تجريم نشر كل ما يعرّض الأمن الوطني الفلسطيني للخطر.

ومن المفارقات، أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقّع في آب/أغسطس 2016 على إعلان دعم حرية الإعلام في العالم العربي، وأصدر قرارا باعتبار الأول من شهر آب يوما لحرية الرأي والتعبير في فلسطين، لكن هذا التوقيع ظل حبرا على ورق ولم يُغير من سلوك السلطة تجاه الصحفيين؛ ففي العام 2017 صادق الرئيس على قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية الذي رأت فيه المؤسسات الحقوقية محاولة لتكميم الأفواه؛ فبموجب القانون تم حجب عشرات المواقع الإخبارية، وجرى اعتقال خمسة صحفيين على خلفية منشوراتهم التي تعبر عن آرائهم السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي دفع  المؤسسات الحقوقية للقيام بحملة للإفراج عن الصحفيين، فيما تواجه السلطة الفلسطينية إلى اليوم انتقادات قانونية وحقوقية لمواصلة العمل بالقانون.

وفي مثال حديث على رقابة السلطة على الصحفيين ما جرى من اعتداءات وحشية على العشرات من الإعلاميين خلال تغطيتهم للتظاهرات التي خرجت للشوارع في الضفة الغربية، وذلك في أعقاب مقتل الناشط السياسي نزار بنات على أيدي الأجهزة الأمنية الفلسطينية في يونيو/حزيران 2021.

وعمق الانقسام السياسي الداخلي بين حركتي فتح وحماس عام 2007 -والمستمر إلى الآن- الرقابةَ الذاتية؛ من خلال زيادة الضغط على الإعلاميين، مع تحول المؤسسات الإعلامية التابعة لطرفي الانقسام إلى ساحة هجوم ضد بعضهما البعض من جهة، وإخضاع الإعلاميين أنفسهم للرقابة الذاتية من جهة أخرى، كي لا يتعرضوا للهجوم أو الترهيب من الطرف الآخر. 

ومن المفارقات أن الإعلام الرقمي فاقم من ظاهرة الرقابة الذاتية، إلى درجة أن الباحثين خلصوا إلى أن المنصات الرقمية تساعد في تنمية ظاهرة "دوامة الصمت"، وذلك عندما يقوم الأفراد بقمع آرائهم إذا اعتقدوا أنها تخالف توجهات الآخرين أو أن الحكومة تراقبهم. في الحالة الفلسطينية، يزيد الأمر تعقيدا ملاحقة السلطات الإسرائيلية للمحتوى الرقمي الفلسطيني بالتواطؤ مع شركات التكنولوجيا الكبرى مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام. لقد أدى ذلك إلى تقييد حسابات العشرات من الصحفيين والشبكات الإعلامية؛ مثل صفحة وكالة شهاب التي تحظى بنسب متابعة عالية، فضلا عن اعتقال عدد من الصحفيين، بذريعة نشر محتوى معاد للسامية، ومحرض على العنف ضد إسرائيل. 

 

مضمون هابط وإعلام دعائي

يرى عمر نزال أنّ الرقابة العسكرية الإسرائيلية التي خضع لها أثناء عمله الصحفي في منتصف ثمانينات القرن الماضي أخف وطأة من الرقابة الذاتية، يقول: "في الأولى يتولى الرقيب العسكري مسؤولية التغيير في المادة الصحفية التي كنا نقدمها له، فيترك منها ما يشاء ويشطب ما يراه غير مناسب لسياساته، لكن في الرقابة الذاتية، نمتنع نحن الصحفيين عن كتابة أي مادة لمجرد التفكير بأنها ستخلق لنا المتاعب".

في دراسة أعدها نشأت الأقطش، أستاذ العلاقات العامة في جامعة بيرزيت، حول الرقابة الذاتية للصحفيين الفلسطينيين في العام 2011، يقول: "إن الممارس لمهنة الصحافة في فلسطين يطور بالخبرة مهارات ذاتية في تغطية الأحداث، تساعده على تجنب الانتقاد والعقاب من السلطة والمجتمع". وبرأي الأقطش فإن الصحفيين يحسّنون من مهارة الكتابة لديهم دون اهتمام بالمضمون بسبب تحاشي المواضيع التي تثير غضب الآخرين. 

وهكذا تصبح الرقابة الذاتية قناعة مهنية لدى الصحفيين لا يمكن الخروج عن قواعدها؛ باعتبارها ضابطا مهنيا، فيتحول الصحفي إلى شخص نمطي لا يفكر خارج الصندوق. لذلك، يتعاظم أنموذج الصحفي "السحيج" (المداهن للسلطة) أو صحفي العلاقات العامة والمجاملات، وكلاهما لا يمتان بصلة لمهنة الصحافة ومعاييرها.

من ناحية أخرى، يتجنب الصحفيون الكتابة حول علاقة السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي؛ مثل قضية التنسيق الأمني، أو أي اجتماعات سرية بين الطرفين. في هذه الحالة، يكتفي الإعلام الفلسطيني بنقل الأخبار عن المصادر الإسرائيلية، خشية المراجعة والمحاسبة من السلطة التنفيذية. 

بمعنى آخر، أسهمت الرقابة الذاتية في تدني مستويات المهنية والتأثير على المنظومة الإعلامية الفلسطينية وإخراجها من مفهومها الأساسي والنظري كسلطة رابعة. في المقابل، قلما نجد تغطيات جريئة لقضايا حساسة، وإن وُجدت فإما أن يكون الصحفي عاملا مع مؤسسة أجنبية توفر له غطاء الحماية، أو أن ينشر أعماله بأسماء مستعارة. 

 

الجرأة تعني الملاحقة

تمنع الرقابة الذاتية الصحفيين والمؤسسات الصحفية من تغطية القضايا الحساسة؛ مثل الفساد والمحسوبية، أو انتقاد مؤسسة الرئاسة الفلسطينية والحكومة والأجهزة الأمنية. في هذا الشأن، يقول نزال: "تفرض السلطة خطوطا حمراء غير معلنة عند تناول هذه الملفات والقضايا الحساسة، وهو ما يؤثر على نوعية العمل الصحفي وجودته، خاصة إذا ما رُبط بغياب قانون حق الحصول على المعلومات والمصادر الموثوقة". 

فراس الطويل، محرر ومشرف تحقيقات استقصائية في شبكة أريج حاليا، كان ممن عانوا من الرقابة الذاتية خلال عمله الصحفي في فلسطين. ففي العام 2017 أنجز تحقيقا حول الإعفاءات الضريبية التي يمنحها الرئيس الفلسطيني لمتنفذين ومقربين منه، لكن المؤسسة المحلية التي كان يعمل معها آنذاك رفضت نشر التحقيق خوفا من تبعاته. يقول فراس: "المؤسسة تمارس الرقابة الذاتية على نفسها، وقد رفضت نشر التحقيق لإمكانية تشكيل خطورة عليها، فاضطررتُ لنشره في وسيلة إعلامية أخرى باسم مستعار، خوفا من الملاحقة". ويرى الطويل أن "هناك دائما حسابات ومقاييس علينا اتباعها عند العمل على أي قضية حساسة، علينا التخلص من الرقابة الذاتية، لكن هذا الأمر ليس سهلا بالمطلق". ولم يكشف فراس عن اسمه الحقيقي إلا بعد عام من نشر التحقيق، عندما فاز تحقيقه بجائزة النزاهة ومكافحة الفساد العام 2018.

 وفي العام 2020، نشر الطويل تحقيقا آخر باسمه حول الأموال غير القانونية التي يتلقاها المحامون في فلسطين، فشُن عليه هجوم حاد من نقابة المحامين. "لقد تعرضتُ لسيل من الشتائم والتهديدات والملاحقات على مواقع التواصل الاجتماعي، كان الأمر صعباً للغاية، وهذا الأمر دفعني للتفكير ألف مرة قبل بدء العمل على أي تحقيق جديد" يتذكر فراس معاناته مع الرقابة الذاتية.

على المستوى الشخصي، عملتُ مراسلة تلفزيونية لتسع سنوات في فلسطين، في بيئة حافلة بالاعتداء على الحريات الصحفية؛ فتعرضتُ للكثير من المضايقات من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وكذلك جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي استهدفني مرارا بالقنابل الصوتية والغازية والمياه العادمة، خلال تغطياتي المباشرة للمواجهات مع الفلسطينيين عند نقاط الاحتكاك.

 كان يصفني الكثيرون بالصحفية الجريئة التي لا تخاف، وفي الحقيقة أنني كنت مسكونة بالرعب. كثيرا ما كنتُ أشعر أن هناك كائنا بشريا يعرش في عقلي، يراقب كلماتي وكتاباتي وكل ما أنطق به على الهواء مباشرة. أعلم جيدا أن هذا الشعور الذي رافقني طيلة تلك السنوات كان نتيجة الخوف على سلامتي وحريتي، وهو ما دفعني، إلى جانب أسباب أخرى، إلى التخلي عن وظيفتي كمراسلة، والخروج من فلسطين بحثا عن تجربة مهنية أخرى.

أخيرا، في ضوء المضايقات التي تعزز ظاهرة الرقابة الذاتية، لا بد من البحث عن الوسائل التي توفر الحماية للصحفيين وتخفف من وطأة الرقابة الذاتية وتأثيرها على قصصهم. في هذا الإطار، يقع على عاتق الجسم الصحفي الفلسطيني الاتفاق على ميثاق إعلامي لحماية الصحفيين، وتوفير بيئة قانونية تصد الملاحقات الأمنية والتهديدات التي يتعرضون لها ارتباطا بعملهم الصحفي.  كما لا بد من تطوير القوانين والتشريعات المحلية ومواءمتها مع المعاهدات الدولية، لكفالة الحق في حرية الرأي والتعبير. لكن يبدو أن المهمة ليست سهلة إطلاقا، وتحتاج إلى نفَس ووقت طويلين.

المراجع

  1. نشأت الأقطش، ظاهرة استهداف الصحفيين وتأثيرها في الأداء المهني وممارسة الرقابة الذاتية (الصحفيون الفلسطينيون نموذجا)، 2011. 
  2. Orwell, G. (1972). The freedom of the press. New York Times Magazine, 8.‏
  3. Tapio Kujala: Media War in the Middle East – The Cross-Pressures of Journalism in the Israeli – Palestinian Conflict.
  4. Jonathan Day. What Is Self-Censorship? How Does It Kill Media Freedom? 2011. https://www.liberties.eu/en/stories/self-censorship/43569 
  5. https://rsf.org/ar/ranking?# 
  6. https://thenaturalfarmer.org/article/george-orwell-on-censorship/?print=print 

 

More Articles

Testimonies of the First Witness of the Sabra & Shatila Massacre

The Sabra and Shatila massacre in 1982 saw over 3,000 unarmed Palestinian refugees brutally killed by Phalangist militias under the facilitation of Israeli forces. As the first journalist to enter the camps, Japanese journalist Ryuichi Hirokawa provides a harrowing first-hand account of the atrocity amid a media blackout. His testimony highlights the power of bearing witness to a war crime and contrasts the past Israeli public outcry with today’s silence over the ongoing genocide in Gaza.

Mei Shigenobu مي شيغينوبو
Mei Shigenobu Published on: 18 Sep, 2024
Journalist Mothers in Gaza: Living the Ordeal Twice

Being a journalist, particularly a female journalist covering the genocide in Palestine without any form of protection, makes practicing journalism nearly impossible. When the journalist is also a mother haunted by the fear of losing her children, working in the field becomes an immense sacrifice.

Amani Shninu
Amani Shninu Published on: 15 Sep, 2024
The Gaza Journalist and the "Heart and Mind" Struggle

Inside the heart of a Palestinian journalist living in Gaza, there are two personas: one is a human who wants to protect his own life and that of his family, and the other is a journalist committed to safeguarding the lives of the people by holding on to the truth and staying in the field. Between these two extremes, or what journalist Maram Hamid describes as the struggle between the heart and the mind, the Palestinian journalist continues to share a narrative that the occupation intended to keep "away from the camera."

Maram
Maram Humaid Published on: 18 Aug, 2024
Challenges of Investigating Subculture Stories in Japan as a Foreign Correspondent

Japan's vibrant subcultures and feminist activists challenge the reductive narratives often portrayed in Western media. To understand this dynamic society authentically, journalists must approach their reporting with patience, commitment, and empathy, shedding preconceptions and engaging deeply with the nuances of Japanese culture.

Johann Fleuri
Johann Fleuri Published on: 24 Jun, 2024
The Privilege and Burden of Conflict Reporting in Nigeria: Navigating the Emotional Toll

The internal struggle and moral dilemmas faced by a conflict reporter, as they grapple with the overwhelming nature of the tragedies they witness and the sense of helplessness in the face of such immense suffering. It ultimately underscores the vital role of conflict journalism in preserving historical memory and giving a voice to the voiceless.

Hauwa Shaffii Nuhu
Hauwa Shaffii Nuhu Published on: 17 Apr, 2024
Targeting Truth: Assault on Female Journalists in Gaza

For female journalists in Palestine, celebrating international women's rights this year must take a backseat, as they continue facing the harsh realities of conflict. March 8th will carry little celebration for them, as they grapple with the severe risks of violence, mass displacement, and the vulnerability of abandonment amidst an ongoing humanitarian crisis. Their focus remains on bearing witness to human suffering and sharing stories of resilience from the frontlines, despite the personal dangers involved in their work.

Fatima Bashir
Fatima Bashir Published on: 14 Mar, 2024
A Woman's Journey Reporting on Pakistan's Thrilling Cholistan Desert Jeep Rally

A Woman's Voice in the Desert: Navigating the Spotlight

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 8 Mar, 2024
Through a Mexican lens: Navigating the intricacies of reporting in Palestine

A Mexican journalist's journey through the complexities of reporting on Palestine and gives tips on how to manage this kind of coverage.

Témoris Grecko
Témoris Grecko Published on: 10 Dec, 2023
The bombs raining down on Gaza from Israel are beyond scary, beyond crazy

REPORTER'S NOTEBOOK: As Israel bombarded Gaza for the third night, I found myself closer to a missile hit than I could have imagined

Maram
Maram Humaid Published on: 11 Oct, 2023
Reporter’s Notebook - what I learned from covering the Kalash people

As journalists, our fascination with Indigenous communities can blind us to our ethical obligations to respect privacy and dignity of those we document - we must reflect carefully

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 5 Oct, 2023
'Rebuilt memory by memory' - recreating a Palestinian village 75 years after the Nakba

REPORTER'S NOTEBOOK: How it took the collective memories of several generations, painstaking interviews and a determined search through tall grass and prickly plants to recreate a destroyed community

Amandas
Amandas Ong Published on: 4 Jun, 2023
Tear gas and internet blackouts - reporting on protests in Pakistan

REPORTER'S NOTEBOOK: Following the arrest of former Prime Minister Imran Khan, violence has erupted across Pakistan. For journalists, it is like reporting from the centre of a storm

Anam Hussain
Anam Hussain Published on: 14 May, 2023
Remembering Shireen; my colleague and a 'role model for professionalism'

On the eve of the first anniversary of the killing of Shireen Abu Akleh, Al Jazeera's Senior Correspondent in Palestine, her colleague commemorates the compassion, integrity and professionalism which made her the extraordinary journalist and human being that she was

Walid
Walid Omary Published on: 10 May, 2023
Investigating the assassination of my own father

As a journalist, reporting on the murder of my father meant answering questions about my own position as an objective observer

Diana Lopez
Diana Lopez Zuleta Published on: 3 Apr, 2023
Field notes from an earthquake - reporting on human misery

REPORTER'S NOTEBOOK: Where do you draw the line when covering human suffering? When does reporting on a devastating earthquake cross over from objective journalism to tasteless voyeurism?

Ilya
Ilya U Topper Published on: 20 Feb, 2023
Conflict, crisis and Colombia’s shifting media landscape

THE LONG READ: As political and commercial elites continue their stranglehold on mainstream media in Colombia, some independent minnows are starting to emerge

Mauricio
Mauricio Morales Published on: 5 Dec, 2022
Al Jazeera Investigations - the making of the Labour Files

An Al Jazeera investigation into the running of the UK’s Labour Party has revealed evidence of an ‘Orwellian’ smear campaign against its former leader, Jeremy Corbyn, a ‘hierarchy’ of racism within the party and even the hacking of journalists. Here’s how it came about 

Phil
Phil Rees Published on: 19 Oct, 2022
The devastating silencing of the ‘Voice of Palestine’

Al Jazeera English’s Senior Correspondent recalls the last time she saw Shireen Abu Akleh and what it has been like to cover the investigations into her killing by Israeli forces

Natasha Ghoneim
Natasha Ghoneim Published on: 21 Sep, 2022
Casualties of Partition - telling the story of Zainab and Boota

REPORTER'S NOTEBOOK: On the 75th anniversary of the Partition of Pakistan and India, a writer recalls his efforts to uncover the mystery of a family divided and asks if we always have the right to push for the ‘truth’

Haroon Khalid
Haroon Khalid Published on: 15 Aug, 2022
She showed me a picture of her dead son - moments later, she was back with the tea and cake

Listening to stories of trauma and loss - such as those of women in Pakistan-controlled Kashmir - is what many journalists must do to find and report the truth. The way in which we listen while setting aside preconceived notions of how victims ‘should’ behave is critical

Anam Z
Anam Zakaria Published on: 16 Jun, 2022
Reporter’s notebook - analysing the video of a brutal murder

I spent a week watching a sickening video of the Jordanian pilot, Muath al-Kasasbeh, being burned alive by ISIL. Here’s how I set about verifying its contents and how I coped

Jody Fish
Jody Fish Published on: 25 May, 2022
‘You will be silenced’ - investigating human traffickers in Nigeria

REPORTER'S NOTEBOOK: Philip Obaji Jr has devoted years to uncovering and reporting on the sexual abuse and human trafficking of displaced women and girls in Nigeria. This is his story

Philip Obaji Jr
Philip Obaji Jr Published on: 18 May, 2022
Beyond bystanders: Citizen journalism during the Egyptian revolution

A journalist looks back at the founding of RASSD News Network during the Egyptian revolution, which trained and supported ordinary citizens to become journalists

Khaled Faheem
Khaled Faheem Published on: 14 Apr, 2022
Telling the stories of brutality - reporting on political prisoners in Belarus

REPORTER’S NOTEBOOK: Constructing a long-form feature to document the narratives of Belarusians imprisoned for protesting after the 2020 presidential election was a pain-staking, months-long task fraught with danger

Olga
Olga Loginova, Ottavia Spaggiari Published on: 30 Mar, 2022