"الجبن الفكريّ في هذا البلد هو أسوأ عدو يواجهه الكاتب أو الصحفي، ولا يبدو لي أنّ هذه الحقيقة قد حصلت على النقاش الذي تستحقّه".
كانت هذه المقولة جزءا من مقدمة كتبها "جورج أورويل" لكتابه "مزرعة الحيوان" العام 1945. لم تُطبع تلك المقدمة، وظلت مجهولة حتى نشرتها مجلة "نيويورك تايمز" العام 1972 بعنوان "حرية الصحافة". في هذه المقدمة، ينتقد "أورويل" ما أسماه بالجبن الفكري في بلده بريطانيا، ويعُدّه أسوأ عدو يواجه الصحفي أو الكاتب. أما السبب الحقيقي لهذا الانتقاد فكان بسبب رفض العديد من دور النشر طباعة كتاب "مزرعة الحيوان" الذي ينتقد فيه الاتحاد السوفياتي والشيوعية بطريقة ساخرة.
ويُشير "أورويل" إلى أن الامتناع عن النشر لم يكن نتيجة خوف دور النشر من الحكومة، بل من الرأي العام. ما واجهه الكاتب البريطاني من رقابة آنذاك، يذكَرُنا بمعضلة الرقابة الذاتية التي تواجه الكثير من المجتمعات في عالمنا اليوم، وتشكل سيفا مسلطا على رقاب الصحفيين والمؤسسات الإعلامية.
لا تمثل حرية التعبير عن الآراء والأفكار مجرد حق من حقوق الأفراد الأساسية، بل تُعد وسيلةً لتبادل الآراء بين الناس، ولإثارة النقاش حول القضايا المختلفة، ما يسمح بالتدفق الحر للمعلومات وإعلام الناس بالأحداث والقضايا التي تهمهم.
على هذا الأساس، تشكل الرقابة الذاتية في العمل الصحفي تهديدا لحرية الرأي والتعبير وتقيد وصول المعرفة للآخرين؛ فتتحول الصحافة إلى علاقات عامة ودعاية للنظام السياسي، بدلا من أن تمارس دورها بصفتها سلطة رابعة في المجتمع. وإذا كانت السلطة هي من تمارس الضغوطات، فإن الصحفيين في فلسطين يخضعون لضغوطات من جهات عديدة تفرض عليهم الرقابة الذاتية.
رقابة عالية وحريات ضعيفة
إذا درسنا الوضع في فلسطين، سنجد أن مقياس الرقابة الذاتية في أعلى مستوياته؛ ففي دراسة أجراها المركز الفلسطيني للتنمية والحريات الإعلامية "مدى" في السنوات الأخيرة، تبين أن 80% من الصحفيين الفلسطينيين يمارسون الرقابة الذاتية على أنفسهم، وهو مستوى يُنذر بالخطر؛ لما تشكله الرقابة من مساس بحرية التعبير وحق الجمهور في المعرفة، بالإضافة إلى تأثيرها على دور الصحافة المُنتظر نحو المجتمع. وفي تقرير "مراسلون بلا حدود" 2021 احتلت فلسطين المرتبة الـ 138 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، فيما احتلت دولة الاحتلال الإسرائيلي المرتبة الـ 86.
من ناحية الشكل، تظهر الصحافة الفلسطينية على أنها تتمتع بقدر عال من الاستقلالية والحرية؛ ففي الضفة الغربية وقطاع غزة ثمة ما يزيد عن 80 محطة إذاعة وتلفزيون.
وبالرغم من هذا الكم من وسائل الإعلام المحلية، إلا أنها تفتقد للكثير من المهنية أو التميز والتفرد، خاصة حينما يتعلق الأمر بطرح قضايا سياسية واجتماعية حساسة؛ مثل ملفات الفساد والمحسوبية وقمع الحريات. بالإضافة إلى ذلك، لا تمثل وسائل الإعلام الفلسطينية مصدر المعلومات الأول للفلسطينيين، بل تعتمد قطاعات واسعة من المجتمع على وسائل الإعلام العربية لمتابعة قضيتهم الجوهرية.
أما المثير للاستغراب فهو أن الكثير من المؤسسات الإعلامية الفلسطينية نفسها، تعتمد على ما يصدر من الصحافة الإسرائيلية فيما يتعلق بالأحداث ذات العلاقة بالسلطة الفلسطينية وعلاقتها بالاحتلال الإسرائيلي.
وأهم الأسباب وراء ضعف المحتوى الفلسطيني تكمن في الرقابة الذاتية التي يمارسها الصحفيون والمؤسسات الصحفية على أنفسهم أثناء ممارسة المهنة. فلماذا يلجأ الصحفيون إلى الرقابة الذاتية؟
الرقابة الذاتية.. لعبة السلطات الذكية
بداية، تمثل الرقابة الذاتية - Self-censorship - أحد أهم القيود على حرية التعبير. وهي تعني أن يتحكم الصحفي بما يقوله أو يكتبه كي يتجنب المحاكمات أو المضايقات، دون أن يخبره أحد بضرورة فرض هذه الرقابة على نفسه. ما يعني أن الرقابة الذاتية طوعية، يمارسها القائم بالعمل الصحفي بمحض إرادته بسبب الخوف، مما يمنع من ظهور قصص تنتمي إلى صميم مراقبة السلطة.
يُنظر إلى الرقابة الذاتية -في نطاق واسع- على أنها تهديد لحرية الإعلام، وتعد أكثر أشكال الرقابة تهديدا للصحفيين وخطرًا على مهنتهم. وتتحول الرقابة الذاتية إلى قضية إشكالية عندما يتم إخفاء معلومات مهمة يجب أن يعرفها الجمهور، لمساعدته على الاختيار واتخاذ القرار في بعض الأحداث المهمة؛ كالانتخابات مثلا.
يمارس الصحفيون الرقابة الذاتية بسبب ضغوطات من جهات مختلفة؛ مثل الحكومات ووزارات الإعلام والمصالح المالية والأعراف الاجتماعية. ويُجادل نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد بأن ملكية الشركات لوسائل الإعلام تسبب الرقابة الذاتية في اختيار القصص الإخبارية وكيفية تأطيرها، من أجل أن تتناسب مع مصالح مالك الشركة.
في فلسطين، تمثل الرقابة الذاتية لعبة ذكية كما يعلق عمر نزال، عضو مجلس الأمانة العامة في نقابة الصحفيين. يقول نزال: "تلجأ السلطة إلى الرقابة الذاتية للهروب من الضغوط والانتقادات الدولية، من خلال التظاهر باحترام الحريات الصحفية وفق الدساتير والقوانين الدولية، لكنها في الوقت نفسه، تحدد سقف الحريات العامة بصورة غير مُعلنة، وتلاحق كل من لا يلتزم بها".
جهات ضغط متعددة
تعود أهم الأسباب التي تدفع الصحفي الفلسطيني لممارسة الرقابة الذاتية على نفسه إلى خوفه من المساءلة والملاحقة. وجِهات الرقابة في فلسطين متعددة: رقابة مؤسساتية تحريرية، تتعلق بفرض المؤسسات الإعلامية أو المشغل رقابة على ما ينشره الصحفيون العاملون لديهم؛ بحيث لا يخالف الصحفي السياسات التي تسير عليها المؤسسة التحريرية أو سياسة الممول الذي يقدم الدعم للمشغل. في هذه الحالة يصبح الصحفي مسلوب الإرادة، وخاضعا لإدارة المشغل وقواعده التحريرية. وفي حال فكر خارج السرب، فإنه إما أن يخسر عمله أو يواجه العقاب.
أما الجهة الثانية فتتمثل بالسلطة التنفيذية بأذرعها المختلفة؛ فعلى الرغم من تصريحات السلطات التنفيذية الدائمة باحترام الحريات الإعلامية في فلسطين، إلا أن السلطة وأجهزتها، واقعيا، تفرض قيودا غير معلنة على الصحفيين؛ فإذا لم يتبعوها، يتعرضون للتهديد والملاحقة. وتتمثل الجهة الثالثة في القضاء والنيابة العامة اللتين تمارسان رقابة خفية على الصحفيين وتتخذان بحقهم إجراءات تعسفية؛ مثل الاستدعاء والتحقيق والتوقيف.
مع ذلك؛ فإن شيوع ظاهرة الرقابة الذاتية لا يرتبط بالجهات الرسمية والمؤسسات التحريرية فقط، بل قد يكون نتيجة مخاوف مصدرها رجال الأعمال والممولين والنقابات، فضلا عن رقابة المجتمع ضمن ما يُعرف بـ "الأعراف الاجتماعية الضاغطة"، خاصة حينما يتعلق الأمر بـ "التابوهات" والمحرمات المجتمعية؛ فمن غير الممكن أن يتناول الصحفيون بعض القضايا المجتمعية الحساسة؛ مثل القتل على خلفية الشرف، والعنف المنزلي، والاغتصاب... إلخ. إن تناول مثل هذه القضايا قد يُعرّض الصحفيين لتهديدات تصل إلى حد الخطف أو القتل، أو المقاطعة المجتمعية للصحفي وعائلته.
ويشكل الاحتلال الإسرائيلي جانبا مهما من جوانب الضغط على الصحفيين الفلسطينيين من خلال فرض رقابة أمنية عليهم؛ إذ لا يُسمح للصحفيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بدخول مدينة القدس والأراضي المحتلة العام 1948، كما لا تعترف ببطاقاتهم الصحفية في كثير من الأحيان. إلى جانب ذلك، يتعرض الصحفيون للقتل والضرب والاعتقال ومنع السفر ومصادرة معداتهم لمجرد تغطيتهم للأحداث المتعلقة بسياسات الاحتلال تجاه الفلسطينيين. في السنوات الأخيرة، أغلقت سلطات الاحتلال العديد من المكاتب الصحفية بقرارات عسكرية؛ منها مكتب "قناة القدس" ومكتب "قناة فلسطين اليوم" وشبكة "جي ميديا"، بمبرر التحريض على العنف ضد إسرائيل، فيما يقبع 25 صحفيا فلسطينيا في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
رقابة قديمة متجددة
تعود جذور الرقابة على الصحافة الفلسطينية إلى زمن الانتداب البريطاني، حيث أغلقت السلطات البريطانية عددا من الصحف الفلسطينية ما بين الأعوام 1936 – 1939. وبعد قيام دولة الاحتلال الإسرائيلي سنة 1948، تولت السلطات الأردنية الرقابة على الصحافة الفلسطينية في الضفة الغربية، فيما تحولت الصحافة في قطاع غزة إلى الرقابة المصرية. وبعد احتلال الضفة وغزة العام 1967، بلغ القمع للصحافة ذروته؛ إذ خضعت الصحافة الفلسطينية مباشرة للرقابة العسكرية الإسرائيلية، وصار الرقيب الإسرائيلي مسؤولًا عن كل ما يصدر عن الصحافة الفلسطينية، وبات ممنوعا طبع أي مادة يعتبرها الاحتلال الإسرائيلي تحريضية أو متنافية مع سياساته.
في النتيجة، اختار العديد من الصحفيين العمل بأسماء مستعارة، أو مع مؤسسات أجنبية خوفا من الملاحقة والعقاب؛ ففي تلك الفترة، سُجن كثير من الكتاب والأدباء وأصحاب المكتبات، وأصبح الكُتّاب بمثابة السلاح بالنسبة لإسرائيل.
وأثناء إنشاء السلطة الفلسطينية في العام 1994، صدر قانون المطبوعات الفلسطيني، وتولت الأجهزة الأمنية الفلسطينية متابعة كُتّاب الرأي والمقالات. وعلى الرغم من أن المادة الثانية من قانون المطبوعات والنشر للعام 1995 تنص على أن حرية الرأي مكفولة للفلسطينيين، إلا أنها مقيدة ببعض القوانين للعمل الصحفي؛ مثل تجريم نشر كل ما يعرّض الأمن الوطني الفلسطيني للخطر.
ومن المفارقات، أن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقّع في آب/أغسطس 2016 على إعلان دعم حرية الإعلام في العالم العربي، وأصدر قرارا باعتبار الأول من شهر آب يوما لحرية الرأي والتعبير في فلسطين، لكن هذا التوقيع ظل حبرا على ورق ولم يُغير من سلوك السلطة تجاه الصحفيين؛ ففي العام 2017 صادق الرئيس على قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية الذي رأت فيه المؤسسات الحقوقية محاولة لتكميم الأفواه؛ فبموجب القانون تم حجب عشرات المواقع الإخبارية، وجرى اعتقال خمسة صحفيين على خلفية منشوراتهم التي تعبر عن آرائهم السياسية على مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي دفع المؤسسات الحقوقية للقيام بحملة للإفراج عن الصحفيين، فيما تواجه السلطة الفلسطينية إلى اليوم انتقادات قانونية وحقوقية لمواصلة العمل بالقانون.
وفي مثال حديث على رقابة السلطة على الصحفيين ما جرى من اعتداءات وحشية على العشرات من الإعلاميين خلال تغطيتهم للتظاهرات التي خرجت للشوارع في الضفة الغربية، وذلك في أعقاب مقتل الناشط السياسي نزار بنات على أيدي الأجهزة الأمنية الفلسطينية في يونيو/حزيران 2021.
وعمق الانقسام السياسي الداخلي بين حركتي فتح وحماس عام 2007 -والمستمر إلى الآن- الرقابةَ الذاتية؛ من خلال زيادة الضغط على الإعلاميين، مع تحول المؤسسات الإعلامية التابعة لطرفي الانقسام إلى ساحة هجوم ضد بعضهما البعض من جهة، وإخضاع الإعلاميين أنفسهم للرقابة الذاتية من جهة أخرى، كي لا يتعرضوا للهجوم أو الترهيب من الطرف الآخر.
ومن المفارقات أن الإعلام الرقمي فاقم من ظاهرة الرقابة الذاتية، إلى درجة أن الباحثين خلصوا إلى أن المنصات الرقمية تساعد في تنمية ظاهرة "دوامة الصمت"، وذلك عندما يقوم الأفراد بقمع آرائهم إذا اعتقدوا أنها تخالف توجهات الآخرين أو أن الحكومة تراقبهم. في الحالة الفلسطينية، يزيد الأمر تعقيدا ملاحقة السلطات الإسرائيلية للمحتوى الرقمي الفلسطيني بالتواطؤ مع شركات التكنولوجيا الكبرى مثل فيسبوك وتويتر وإنستغرام. لقد أدى ذلك إلى تقييد حسابات العشرات من الصحفيين والشبكات الإعلامية؛ مثل صفحة وكالة شهاب التي تحظى بنسب متابعة عالية، فضلا عن اعتقال عدد من الصحفيين، بذريعة نشر محتوى معاد للسامية، ومحرض على العنف ضد إسرائيل.
مضمون هابط وإعلام دعائي
يرى عمر نزال أنّ الرقابة العسكرية الإسرائيلية التي خضع لها أثناء عمله الصحفي في منتصف ثمانينات القرن الماضي أخف وطأة من الرقابة الذاتية، يقول: "في الأولى يتولى الرقيب العسكري مسؤولية التغيير في المادة الصحفية التي كنا نقدمها له، فيترك منها ما يشاء ويشطب ما يراه غير مناسب لسياساته، لكن في الرقابة الذاتية، نمتنع نحن الصحفيين عن كتابة أي مادة لمجرد التفكير بأنها ستخلق لنا المتاعب".
في دراسة أعدها نشأت الأقطش، أستاذ العلاقات العامة في جامعة بيرزيت، حول الرقابة الذاتية للصحفيين الفلسطينيين في العام 2011، يقول: "إن الممارس لمهنة الصحافة في فلسطين يطور بالخبرة مهارات ذاتية في تغطية الأحداث، تساعده على تجنب الانتقاد والعقاب من السلطة والمجتمع". وبرأي الأقطش فإن الصحفيين يحسّنون من مهارة الكتابة لديهم دون اهتمام بالمضمون بسبب تحاشي المواضيع التي تثير غضب الآخرين.
وهكذا تصبح الرقابة الذاتية قناعة مهنية لدى الصحفيين لا يمكن الخروج عن قواعدها؛ باعتبارها ضابطا مهنيا، فيتحول الصحفي إلى شخص نمطي لا يفكر خارج الصندوق. لذلك، يتعاظم أنموذج الصحفي "السحيج" (المداهن للسلطة) أو صحفي العلاقات العامة والمجاملات، وكلاهما لا يمتان بصلة لمهنة الصحافة ومعاييرها.
من ناحية أخرى، يتجنب الصحفيون الكتابة حول علاقة السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال الإسرائيلي؛ مثل قضية التنسيق الأمني، أو أي اجتماعات سرية بين الطرفين. في هذه الحالة، يكتفي الإعلام الفلسطيني بنقل الأخبار عن المصادر الإسرائيلية، خشية المراجعة والمحاسبة من السلطة التنفيذية.
بمعنى آخر، أسهمت الرقابة الذاتية في تدني مستويات المهنية والتأثير على المنظومة الإعلامية الفلسطينية وإخراجها من مفهومها الأساسي والنظري كسلطة رابعة. في المقابل، قلما نجد تغطيات جريئة لقضايا حساسة، وإن وُجدت فإما أن يكون الصحفي عاملا مع مؤسسة أجنبية توفر له غطاء الحماية، أو أن ينشر أعماله بأسماء مستعارة.
الجرأة تعني الملاحقة
تمنع الرقابة الذاتية الصحفيين والمؤسسات الصحفية من تغطية القضايا الحساسة؛ مثل الفساد والمحسوبية، أو انتقاد مؤسسة الرئاسة الفلسطينية والحكومة والأجهزة الأمنية. في هذا الشأن، يقول نزال: "تفرض السلطة خطوطا حمراء غير معلنة عند تناول هذه الملفات والقضايا الحساسة، وهو ما يؤثر على نوعية العمل الصحفي وجودته، خاصة إذا ما رُبط بغياب قانون حق الحصول على المعلومات والمصادر الموثوقة".
فراس الطويل، محرر ومشرف تحقيقات استقصائية في شبكة أريج حاليا، كان ممن عانوا من الرقابة الذاتية خلال عمله الصحفي في فلسطين. ففي العام 2017 أنجز تحقيقا حول الإعفاءات الضريبية التي يمنحها الرئيس الفلسطيني لمتنفذين ومقربين منه، لكن المؤسسة المحلية التي كان يعمل معها آنذاك رفضت نشر التحقيق خوفا من تبعاته. يقول فراس: "المؤسسة تمارس الرقابة الذاتية على نفسها، وقد رفضت نشر التحقيق لإمكانية تشكيل خطورة عليها، فاضطررتُ لنشره في وسيلة إعلامية أخرى باسم مستعار، خوفا من الملاحقة". ويرى الطويل أن "هناك دائما حسابات ومقاييس علينا اتباعها عند العمل على أي قضية حساسة، علينا التخلص من الرقابة الذاتية، لكن هذا الأمر ليس سهلا بالمطلق". ولم يكشف فراس عن اسمه الحقيقي إلا بعد عام من نشر التحقيق، عندما فاز تحقيقه بجائزة النزاهة ومكافحة الفساد العام 2018.
وفي العام 2020، نشر الطويل تحقيقا آخر باسمه حول الأموال غير القانونية التي يتلقاها المحامون في فلسطين، فشُن عليه هجوم حاد من نقابة المحامين. "لقد تعرضتُ لسيل من الشتائم والتهديدات والملاحقات على مواقع التواصل الاجتماعي، كان الأمر صعباً للغاية، وهذا الأمر دفعني للتفكير ألف مرة قبل بدء العمل على أي تحقيق جديد" يتذكر فراس معاناته مع الرقابة الذاتية.
على المستوى الشخصي، عملتُ مراسلة تلفزيونية لتسع سنوات في فلسطين، في بيئة حافلة بالاعتداء على الحريات الصحفية؛ فتعرضتُ للكثير من المضايقات من قبل الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وكذلك جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي استهدفني مرارا بالقنابل الصوتية والغازية والمياه العادمة، خلال تغطياتي المباشرة للمواجهات مع الفلسطينيين عند نقاط الاحتكاك.
كان يصفني الكثيرون بالصحفية الجريئة التي لا تخاف، وفي الحقيقة أنني كنت مسكونة بالرعب. كثيرا ما كنتُ أشعر أن هناك كائنا بشريا يعرش في عقلي، يراقب كلماتي وكتاباتي وكل ما أنطق به على الهواء مباشرة. أعلم جيدا أن هذا الشعور الذي رافقني طيلة تلك السنوات كان نتيجة الخوف على سلامتي وحريتي، وهو ما دفعني، إلى جانب أسباب أخرى، إلى التخلي عن وظيفتي كمراسلة، والخروج من فلسطين بحثا عن تجربة مهنية أخرى.
أخيرا، في ضوء المضايقات التي تعزز ظاهرة الرقابة الذاتية، لا بد من البحث عن الوسائل التي توفر الحماية للصحفيين وتخفف من وطأة الرقابة الذاتية وتأثيرها على قصصهم. في هذا الإطار، يقع على عاتق الجسم الصحفي الفلسطيني الاتفاق على ميثاق إعلامي لحماية الصحفيين، وتوفير بيئة قانونية تصد الملاحقات الأمنية والتهديدات التي يتعرضون لها ارتباطا بعملهم الصحفي. كما لا بد من تطوير القوانين والتشريعات المحلية ومواءمتها مع المعاهدات الدولية، لكفالة الحق في حرية الرأي والتعبير. لكن يبدو أن المهمة ليست سهلة إطلاقا، وتحتاج إلى نفَس ووقت طويلين.
المراجع
- نشأت الأقطش، ظاهرة استهداف الصحفيين وتأثيرها في الأداء المهني وممارسة الرقابة الذاتية (الصحفيون الفلسطينيون نموذجا)، 2011.
- Orwell, G. (1972). The freedom of the press. New York Times Magazine, 8.
- Tapio Kujala: Media War in the Middle East – The Cross-Pressures of Journalism in the Israeli – Palestinian Conflict.
- Jonathan Day. What Is Self-Censorship? How Does It Kill Media Freedom? 2011. https://www.liberties.eu/en/stories/self-censorship/43569
- https://rsf.org/ar/ranking?#
- https://thenaturalfarmer.org/article/george-orwell-on-censorship/?print=print