الدول التي تشهد أوضاعاً مضطربة وسياسات متأرجحة، تشكل بيئة خصبة لانتشار الشائعات والأخبار الكاذبة في أوساط المجتمع. كما تتيح فرصة للشائعات للمساهمة في صناعة وتوجيه الرأي العام.
يقول جان نويل كابفيرير في كتابه "الشائعات.. الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم" إن الشائعة هي، في المقام الأول، معلومة تضيف عناصرَ جديدة إلى شخص ما أو حدثٍ ما مرتبط بواقع الحال، يتم الترويج لها لغرض تصديقها (1). كما تستخدم لغرض التحريض والتعبئة والحشد والتأييد وإقناع الجمهور بمواقف معينة.
وحسب دراسة اقتصادية أجرتها شركة الأمن السيبراني (CHEQ) بالتعاون مع جامعة بالتيمور الأمريكية، فإن الأخبار الزائفة تكلف الاقتصاد العالمي أكثر من 78 مليار دولار سنويًا، منها 400 مليون دولار تصرف على الأخبار الكاذبة أثناء الحملات السياسية. وأشارت الدراسة إلى أن الخسائر الاقتصادية تؤكد صعود انتشار المعلومات المضللة والأخبار المزيفة كخطر عالمي كبير، مما يلحق الضرر بالقطاعات الرئيسية بما في ذلك قطاعات الرعاية الصحية، والتجارة الإلكترونية، والإعلام، والموارد المالية والسياسة (2).
وفي اليمن، التي تشهد حرباً منذ أكثر من سبع سنوات، أصبحت حرب الشائعات والأخبار الكاذبة لا تقل ضراوة عن القتال العسكري في الميدان، حيث تستخدم كنوع من "الحرب النفسية" التي تؤثر بلا شك على طريقة إدارة الحرب.
أصبحت الشائعات واحدة من أهم أسلحة الحرب وأكثرها توظيفا بين الأطراف المحلية والإقليمية الفاعلة في المشهد اليمني. فمن وقت إلى آخر تزداد حدة هذه المعركة إما بالتركيز على مواضيع محددة أو مناطق وأطراف مؤثرة في الصراع، بهدف إضعاف معنويات المستهدفين وإفقادهم المساندة الشعبية، أو تدمير سمعتهم وشيطنتهم. وفي ظل غياب المعلومة الصحيحة، تجد وسائل الإعلام ضالتها في "الشائعة" التي تعد "سوقاً سوداء" مفتوحة المصدر وجاهزة لتقديم خدماتها لمن أراد وبالمجان.
يؤكد كابفيرير أن الشائعات في كل حرب تستهدف الحلفاء أكثر مما تستهدف الخصوم. ولأن التقاتل بين الإخوة مستنكر، فلا بد للنزاعات والعداوات الداخلية من أن تستخدم سلاح الظل، أي الشائعة (3)، وهذا ما يحدث بالفعل في اليمن. فالمُتتبع للأخبار الكاذبة والشائعات في الإعلام يجد أنها أخذت حيزاً كبيراً من الاهتمام والمتابعة من قبل الجمهور المحلي والإقليمي خاصة إذا كانت تتحدث عن فساد مكونات سياسية تدّعي أنها تعمل في خندق واحد، أو تستهدف الرأي العام في مناطق خاضعة لسيطرة طرف واحد فقط. بمعنى آخر كانت الشائعات عبارة عن "نيران صديقة" أُطلقت من وعلى نفس الجسد الواحد.
خمس حملات مضللة في "تعز"
يرى الصحفي اليمني علي الفقيه، نائب رئيس تحرير موقع "المصدر أونلاين"، أنه خلال الحرب تسقط المواقع العسكرية والمناطق الجغرافية في الإعلام قبل أن تسقط في الواقع. ففي الوقت الذي تدار فيه الشائعات من قبل "مطابخ" مخصصة لهذا الغرض، فإن الصحفيين والمشتغلين بالشأن الإعلامي، الذين ليسوا جزءاً من هذه المطابخ، يصبحون ضحايا لتلك الشائعات مما يشكل عامل تشويش يؤثر بدرجة كبيرة على أدائهم المهني ويقلل من قدرتهم على فحص المعلومات وتبيُّن الصحيحة من الخاطئة.
وكجزء من هذا الواقع المتأثر بحرب الشائعات، يؤكد الفقيه أن موقع "المصدر أونلاين" يعمل بين الحين والآخر على رصد الشائعات الأكثر تداولاً خلال فترة زمنية معينة، أو الخاصة بمنطقة جغرافية محددة، ليقوم بإعداد تقارير تفندها بهدف توعية الجمهور وتعريفهم بكيفية التعاطي مع الأخبار الكاذبة، وإكسابهم مهارة التمييز بين المعلومة والشائعة.
كشف موقع "المصدر أونلاين" في تحقيق خاص (4)، نشر في أغسطس/آب 2021، خفايا خمس حملات إعلامية مضللة أثارت الرأي العام المحلي والإقليمي، عمدت إلى ضرب الوضع الأمني في محافظة "تعز" من الداخل، من خلال تسييس جرائم جنائية، وتبني قضايا مفبركة وروايات متناقضة من قبل صحف ومواقع محلية وأخرى إماراتية، وربطها بالجيش والأمن، وقوى سياسية في المحافظة.
بيّن الموقع في تحقيقه كيف استطاعت الأخبار الكاذبة أن تُوقع مسؤولين حكوميين وأحزاب سياسية في فخ التضامن مع الضحايا المزعومين بناءً على أكاذيب وشائعات نشرت على نطاق واسع. ومن تلك الشائعات أكذوبة مقتل أسرة "بيت الوصابي" في مارس/آذار 2019، التي قادت رئيس البرلمان سلطان البركاني، ومحافظ محافظة "تعز" نبيل شمسان، وحزبي الناصري والاشتراكي، لإبداء التضامن مع مطلوبين أمنيين متهمين بجرائم اغتيالات طالت ضباطاً في الجيش، وإثارة أعمال الفوضى في مدينة تعز.
في تلك الحملة التضليلية المنظمة، سعى مروجو الشائعات إلى إفشال الحملة الأمنية الحكومية التي سعت للقبض على مطلوبين للعدالة، من خلال تسييس مهمتها وإشاعة أنها تابعة لحزب سياسي، والحديث عن أرقام مهولة من القتلى والجرحى خلفتها الحملة الأمنية، واختلاق قصص مفبركة لإثارة الرأي العام. لكن بعد تكشف الحقائق، أصدرت شرطة المدينة بياناً أكدت فيه أنه "لا صحة لسقوط قذيفة على منزل "الوصابي" ومقتل أسرته بأكملها"، على عكس ما ورد في رسالة رئيس البرلمان التضامنية.
تمكن مروجو الشائعات، وخلال فترة قصيرة، من تشويه سمعة الرموز السياسية في المحافظة، وإثارة النزاعات بين الأحزاب السياسية تجاه القضايا المختلفة، وإشغال الجهات الأمنية عن مهمتها الأساسية بقضايا هامشية، وضرب مصداقية عدد كبير من وسائل الإعلام التي أعادت نشر الشائعات.
منصة "صدق" اليمنية
قد يكون استخدام التقنية من خلال خوارزميات تقلل من نسبة المعلومات المضللة التي يتم تناقلها عبر منصات التواصل الاجتماعي استراتيجية ناجحة، لكن إنشاء منصات خاصة ومبادرات إعلامية متخصصة في التحقق من صحّة المعلومات وتفنيد الأكاذيب هو الحل الأكثر نجاعة للحد من تلك الشائعات. وكمثال على ذلك تعد منصة "صدق" اليمنية الأولى والوحيدة المتخصصة في محاربة الشائعات والأخبار الكاذبة في اليمن.
فعلى الرغم من الإيجابيات التي تتميز بها شبكات التواصل الاجتماعي من خلال إتاحة مساحة أوسع للتعبير عن القناعات وتبادل الآراء والأفكار، إلا أن إشكالية المصداقية، ورهان الموثوقية، تبقى دوما حاضرة بقوة في النقاش الأخلاقي المهني، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالأخبار الزائفة التي تنتشر بسرعة أكبر من الأخبار الحقيقية. كما لم يعُد يخفى على أي متابع دور هذه الإشاعات في "تحريف" أو "تهجير" النقاش العمومي تجاه قضايا أقل أهمية ترقى أحيانا إلى وصف "التافهة" (5).
يقول مسؤول التواصل في منصة "صدق" أنور المسعودي، إن فكرة إنشاء المنصة بدأت عام 2019 كردة فعل لانتشار الشائعات بشكل كبير، وعدم وجود منصات متخصصة لمكافحتها. كما أن منصات عربية مشابهة كمنصة "فتبينوا" الأردنية ومنصة "التقنية من أجل السلام" العراقية ألهمت خمسة شباب يمنيين للتطوع في إنشاء منصة يمنية متخصصة في هذا المجال.
ويشير المسعودي إلى أن فريق العمل المكون حالياً من عشرين فرداً داخل اليمن وخارجها، يقومون بمراقبة الحسابات الكبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي (حسابات سياسيين، صحفيين، وناشطين، صفحات مجتمعية، وغير ذلك) لتحديد الإشاعات أولاً، ثم التحقق من كل ما يتم الشك بصحته، وفي حال ثبوت بطلانه يتم الكشف عنه في حسابات المنصة.
وبما أن الفضاء الرقمي غير آمن، وليس كل ما ينشر فيه صحيحاً؛ فقد أظهرت دراسة أمريكية أشرف عليها باحثون في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا نشرت في مجلة "ساينس" أن الأخبار الكاذبة تنتشر بوتيرة أسرع، وتصل إلى عدد أكبر من الأشخاص مقارنة بالأخبار الصحيحة. وخلص الباحثون إلى أن المحتويات الزائفة بأشكالها المختلفة؛ سواء النصوص، أو الصور، أو الفيديوهات لديها فرص انتشار بنسبة تتجاوز 70% مقارنة بالمحتوى الحقيقي. ومن بين العوامل المساعدة على هذا الانتشار الواسع إعادة إرسالها بين المستخدمين فيما بينهم خصوصا الأصدقاء والمعارف (6) على وسائل التواصل الاجتماعي.
تعرِّف منصة "صدق" نفسها بأنها "منصة مستقلة تقوم بكشف الإشاعات والأخبار المزيفة"، استطاعت خلال عامين منذ إطلاقها كسب قرابة ربع مليون متابع على فيسبوك، وثمانية آلاف على تويتر، وخمسة عشر ألفاً على تيليغرام، وأكثر من ستة آلاف متابع على إنستغرام.
تعمل المنصة بشكل شبه يومي لمواجهة أي شائعات جديدة تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي، مما ساهم في انتشار المنصة وارتفاع عدد متابعيها. كما أن اهتمام المنصة بذكر المصادر بشكل دائم زاد من مصداقيتها لدى المتابعين، حيث يتيح لهم ذلك التحقق بأنفسهم من صحة الأخبار. وإلى جانب الفريق المتخصص العامل في المنصة، يساهم الكثير من المتابعين والمتطوعين في إثراء محتوى المنصة.
وبالإضافة إلى جذب اهتمام المتابعين على مواقع التواصل الاجتماعي، تمكنت المنصة خلال فترة وجيزة من الاستحواذ على اهتمام وسائل إعلام محلية وعربية تقوم بإعادة نشر محتوى المنصة ومنها موقع مأرب برس (7)، اليمن الجمهوري (8)، المشهد اليمني (9)، الإصلاح نت (10)، والتغيير برس (11)، صحيفة الثورة (12)، وغيرها الكثير.
كما قامت منصات إخبارية عربية بإعادة نشر محتوى المنصة، أو الحديث عنه كمصدر للأخبار مثل قناة إم بي سي (13)، وموقع إرم نيوز (14)، ولبنان الآن (15). ويتابع المنصة العديد من الوزراء والصحفيين والناشطين، مثل وزير الإعلام معمر الإرياني، ونائب وزير الخارجية لدى الحوثيين حسين العزي، ووزير الخارجية اليمني عوض أحمد بن مبارك، وصحفيين من جميع الأطراف.
في كثير من الأحيان، وبعد نشر المنصة التوضيحات الخاصة بالشائعات، يقوم ناشرو الإشاعة بحذف المنشور الكاذب، أو الاعتذار عن نشرهم لمعلومات دون التأكد منها. وكمثال على ذلك مانشره الصحفي سام الغباري والناشطة سامية الأغبري حول ورقة امتحان للتربية الإسلامية (16) في مناطق سيطرة الحوثيين، بينت منصة "صدق" أنها مزيفة، فحُذِفت بعد ذلك.
يعزو المسعودي هذا النجاح إلى عدة أسباب منها الحياد وعدم الانحياز لأي طرف، وعدم انتماء المنصة لأي جهة حكومية أو سياسية داخل أو خارج اليمن، وتنوع مواضيع الشائعات التي تكافحها المنصة خاصة ما يتعلق بالشائعات السياسية وفيروس كورونا.
الوقاية خير من العلاج
على الرغم من استحالة القضاء على الشائعات في ظل الحرب، إلا أن هناك ما يمكن فعله إزاء هذا الأمر الذي يزداد سوءا يوماً بعد آخر. صحيح أن كليات الإعلام لا تدرس "التحقق"، إلا أنه يتوجب على الصحفيين المهنيين تعلم مهارات كشف الشائعات والتحقق من المعلومات، كما يتوجب عليهم الاستمرار في إلقاء المزيد من الضوء على هذه الشائعات في تغطياتهم الإخبارية اليومية بهدف إكساب المتابعين مهارة التمييز بين الشائعة والمعلومة الحقيقية، وتعليمهم وسائل الفحص والتدقيق فيما تنشره وسائل الإعلام قبل تصديقها.
ومع أن منصات التواصل الاجتماعي صعبت هذه المهمة ومنحت الشائعات والدعاية ومواقع الإثارة مساحة أكبر للوصول إلى الجمهور، فإن الفقيه يرى أن الحفاظ على مصداقية مجموعة من المنصات الإعلامية وإبقائها بعيداً عن الحرب الإعلامية، يجعلها بمثابة مرجعية للمتابع الباحث عن المعلومة الحقيقية، ومصدراً للتأكد من صحة كل ما ينشر. فالجمهور سينضج مع مرور الأيام، وستتراكم لديه مهارة التعامل مع الضخ الإعلامي في الفضاء المفتوح، وبالتالي فالرهان هنا على عامل الزمن.
الوقاية من تأثير الشائعات تكون من خلال سرعة الرد عليها وتفنيدها وكشف مصادرها. كما أن حرص وسائل الإعلام على ذكر مصادر أخبارها وجعلها في متناول الجميع سيزيد بلا شك من مصداقيتها واندفاع الجمهور نحوها. وعند ارتكاب الأخطاء فلا بد من الصدق مع الجمهور والاعتذار دون تهرب أو إلقاء اللوم على الآخرين.
وبالنسبة لإنشاء منصات متخصصة لتفنيد الشائعات، فهذه هي الاستراتيجية الناجحة لمواجهتها. حيث تقوم هذه المنصات بتوفير "لقاح" خاص تحقن به القراء، مما يجعلهم أكثر مناعة ضد الشائعات. كما أن تخصيص وسائل الإعلام المقروءة والمرئية زوايا خاصة لمناقشة وتحليل هذه الشائعات يعد دواء ناجعا أيضاً على المستوى البعيد من حيث إكساب الجمهور وعياً كافياً ضد الأخبار الكاذبة.
المراجع
1- جان نويل كابفيرير، الشائعات.. الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم، ترجمة تانيا ناجيا، منشورات دار الساقي، بيروت 2007، ط1. ص 15.
2- https://www.zdnet.com/article/online-fake-news-costing-us-78-billion-globally-each-year/
3- جان نويل كابفيرير، الشائعات.. الوسيلة الإعلامية الأقدم في العالم، ترجمة تانيا ناجيا، منشورات دار الساقي، بيروت 2007، ط1. ص 257.
4- https://almasdaronline.com/articles/233859
5- https://institute.aljazeera.net/ar/ajr/article/1098
7- https://marebnews.net/news/14134/
8- https://republicanyemen.net/archives/28203
9- https://www.almashhad-alyemeni.com/208520
10- https://alislah-ye.net/news_details.php?sid=8364
11- https://www.al-tagheerpress.com/news8813.html
12- https://althawra-news.net/news118017.html
13- https://youtu.be/AI_nSBwT0TE
14- https://www.eremnews.com/news/arab-world/yemen/2346202/amp
15- https://www.lebnow.com/?p=11746
16- https://www.facebook.com/SidqYem/posts/507896337250631