"حماس تقطع رؤوس الأطفال"... "رأينا طفلا صغيرا وضعوه في الفرن لبضع ساعات"... "حماس تستغل المستشفيات داخل قطاع غزة في بناء أنفاق سرية لها وتحصينها"... "المقاومة هي التي قصفت المستشفى المعمداني عن طريق الخطأ"... "حماس نشرت مقطع فيديو لدمية على أنها من الإصابات الناجمة عن هجوم جيش الدفاع الإسرائيلي"... "صور لاستسلام أكثر من 70 ناشطا حمساويا مع أسلحتهم لقوات الجيش الإسرائيلي".
6 ادعاءات تلخص الرواية السياسية الإسرائيلية ضمن حملة البروباغندا التي مثلت غطاء لجرائم الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة عقب هجوم حماس على مستوطنات الغلاف يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023. ولكن كيف نقرأ السردية الإسرائيلية؟ وكيف تورطت فيها الحكومة الإسرائيلية على نحو رسمي؟ وكيف كُشِف زيفُها؟ وكيف تحولت غرف تدقيق المعلومات إلى سلاح مضاد للبروباغندا العسكرية الإسرائيلية؟ هذا ما نحاول أن نجيب عنه في هذا المقال.
من أطلق السردية الإسرائيلية؟ وكيف انتشرت؟
كان يجب في البداية البحث عن مطلقي هذه الادعاءات لتحليل الجهة التي ترسم تلك السردية؛ هل هو الجمهور الإسرائيلي الغاضب؟ هل هي لجان إلكترونية تبحث عن حصد المشاهدات؟ أم أنها حملة تمثل الرواية السياسية الرسمية لإسرائيل؟
بالبحث عن تلك الادعاءات، نجد أن أول من نشرها هم: الناطق باسم الجيش الإسرائيلي "أفيخاي أدرعي"، والناطق باسم جيش الاحتلال "دانيال هاجاري"، والحسابان الرسميان لدولة الاحتلال الإسرائيلي على منصة X (تويتر سابقا) باللغتين العربية والإنجليزية، ونائب قائد الوحدة 71 من جيش الاحتلال الإسرائيلي ديفيد بن صهيون، وإيلي بير رئيس منظمة "United Hatzalah" الإسرائيلية.
مع تزايد العنف في حق المدنيين بغزة، وبدء منصات تدقيق المعلومات في كشف زيف الروايات الإسرائيلية، تراجع تأييد الرأي العام الدولي لإسرائيل.
تبع إطلاق تلك الادعاءات نشر مكثف من حسابات إسرائيلية وصحفيين وإعلاميين غربيين، دون أن يعمل أي منهم على تقديم أدلة تؤكدها أو حتى إتاحة المجال للجانب الآخر من الرواية التي يدافع عنها الفلسطينيون بشأن الأحداث نفسها. ثم تسارعت تلك الادعاءات في الانتشار بالإعلام الدولي والغربي لتشكيل رأي عام داعم لحق إسرائيل في تدمير قطاع غزة، ويشرعِن موقف الحكومات الغربية الداعم لإسرائيل في حربها. ونجحت تلك الادعاءات في دفع الرئيس الأمريكي جو بايدن لتبنيها، ليخرج يوم 12 أكتوبر/تشرين الأول ويتبنى رواية قطع حماس لرؤوس الأطفال الإسرائيليين.
كيف تمكنت السردية الإسرائيلية من حشد التأييد الدولي في بداية الحرب؟
أعقب هجوم حركة حماس على مستوطنات غلاف غزة هجوم عنيف من جيش الاحتلال الإسرائيلي على القطاع؛ إذ لم تكتف إسرائيل برد مكافئ لهجوم حماس أو أعنف قليلا، ولكنها شنت هجوما هدم مناطق كاملة داخل القطاع، وقتل فيه آلاف النساء والأطفال، وأجبر سكان شمال القطاع على النزوح إلى الجنوب، وسط تسريبات دولية بأن تل أبيب تسعى إلى تنفيذ مخطط تهجير أهالي غزة إلى سيناء، إلا أن هجوم حماس المحدود لم يكن مسوغا كافيا لشرعنة حجم القتل والتدمير الذي قررته إسرائيل. فكانت إسرائيل في حاجة إلى سردية إعلامية تصور فيها هجوم حماس على أنه هجوم بربري لتحظى بتأييد دولي لرد فعل أكثر عنفا.
من ضمن عشرات الادعاءات الزائفة التي أنتجتها الآلة الإعلامية والسياسية الإسرائيلية، يمكن لستة ادعاءات فقط أن تشرح خريطة الصورة الذهنية التي عملت إسرائيل على رسمها.
يمكننا أن نقول إن ما اضطلعت به - وما تزال - منصات تدقيق المعلومات في هذه الحرب يُعد تحولا ملحوظا في إستراتيجيات مواجهة البروباغندا السياسية والعسكرية.
بدأت السردية من المتطرف الإسرائيلي ديفيد بن صهيون، نائب قائد الوحدة 71 من جيش الاحتلال الإسرائيلي وأحد زعماء المستوطنين بغلاف غزة، الذي زعم أن حماس قطعت رؤوس 40 طفلا إسرائيليا، وتبعه إيلي بير، رئيس منظمة "United Hatzalah"، وهي منظمة طبية تطوعية تدعم جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي ادعى أنه شاهد وضع جنود حماس لأحد الأطفال الإسرائيليين في الفرن قبل اغتصاب أمه.
يهدف الادعاءان اللذان تبنتهما قناة i24 الإسرائيلية الإخبارية ونشرتهما على نطاق واسع إلى وصف هجوم حماس بالبربري وغير الإنساني، وتصويرها بأنها قتلت الأطفال وقطعت رؤوسهم، وأحرقت الأطفال في الأفران كما فعل النازيون. لذلك؛ فإن حماس تستحق القتل والقضاء عليها بشكل تام كما قُضِيَ على النازيين.
يظهر هنا بوضوح رفض الجيش الإسرائيلي الإدلاء بحقيقة تلك المزاعم، ورغم تواصل وسائل إعلام عديدة مع إدارة الإعلام بجيش الاحتلال، فقد حرصوا على عدم النفي، واكتفوا بالقول إن تلك المعلومات لم يتم تأكيدها أو نفيها ليتيحوا الفرصة الكاملة لهذه الشائعات بالانتشار.
الرأي العام الدولي الذي تبنى تلك الروايات دفع جيش الاحتلال نحو مزيد من المجازر، التي وصلت إلى قصف المستشفيات في انتهاك للقانون الدولي الإنساني، فكان لا بد للاحتلال من أن يبرر هذه الجرائم؛ فخرج الحساب الرسمي لدولة الاحتلال على موقع إكس متهما حركة الجهاد بأنها تقف وراء قصف المستشفى المعمداني، ثم يعرض الناطق باسم جيش الاحتلال دانيال هاجاري خلال بث مباشر عبر صفحة جيش الاحتلال على فيسبوك بتاريخ 5 نوفمبر/تشرين الثاني مقطع فيديو وصورا ادعى أنها لنفق سري لحماس أسفل أحد المستشفيات، ليبرر استهداف الاحتلال للمستشفيات بالقصف والاقتحام.
ومع تزايد العنف في حق المدنيين بغزة، وبدء منصات تدقيق المعلومات في كشف زيف الروايات الإسرائيلية، تراجع تأييد الرأي العام الدولي لإسرائيل؛ فبدأت الآلة الإعلامية والسياسية الإسرائيلية في ترويج نوع جديد من الادعاءات التي تهدف إلى التشكيك في السردية الفلسطينية بشأن المجازر في غزة، ليخرج الحساب الرسمي لدولة الاحتلال على تويتر باللغة الإنجليزية بفيديو يشكك في وفاة طفل فلسطيني، ويزعم أنه دمية وليس حقيقيا، قبل أن ينشر الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي فيديو يزعم أنه لاستسلام 70 من عناصر حماس أمام القوات الإسرائيلية؛ سعيا لرسم صورة للانتصار العسكري بعد توجيه اللوم لإسرائيل على استهداف المدنيين من الأطفال والنساء، دون القدرة على تحقيق إنجاز عسكري ملموس بالقضاء على حماس أو اغتيال قياداتها.
غرف تدقيق المعلومات في مواجهة السردية الإسرائيلية
بعد ساعات من اندلاع الحرب، بدأت الشبكات الإقليمية لمدققي المعلومات في تنظيم الجهود لرصد الروايات المختلفة والتحقق منها، ومع تسارع انتشار الروايات الزائفة التي يطلقها الاحتلال الإسرائيلي، نظمت الشبكة العربية لمدققي المعلومات بالتعاون مع شبكات إقليمية أخرى غرفة مشتركة بين منصات تدقيق المعلومات العربية، ضمت نحو 57 منصة تدقيق معلومات تنتمي إلى 42 دولة من مختلف أنحاء العالم، وقد وفرت الغرفة فرصة لتوحيد الجهود بشكل كبير لتفنيد الروايات الزائفة بشأن الحرب.
أسهمت تلك الغرفة في كسر الحواجز بين الإعلام الغربي وحقيقة الأوضاع في غزة، وكسر حالة التعتيم التي تفرضها إسرائيل والشبكات الإعلامية المتحالفة معها بشأن حقيقة الأوضاع في الميدان، وأصبح مدققو المعلومات العرب رأس الحربة في مواجهة الروايات المضللة التي يطلقها الاحتلال لكسب شرعية دولية تغطي على جرائم الحرب التي يرتكبها.
الروايات الإسرائيلية تتهاوى
كشفت منصة تيقن، وهي منصة تدقيق معلومات فلسطينية، يوم 11 أكتوبر/تشرين الأول، أن القصة المتداولة على نطاق واسع بشأن قطع حماس رؤوس الأطفال هي قصة مختلَقة ولا أدلة عليها، وأن جيش الاحتلال لم يتمكن من إثبات تلك الواقعة، قبل أن تخرج منصة Politifact التابعة لمعهد Poynter لتدقيق المعلومات، يوم 24 أكتوبر بتحقق مثير أكد ما ذهبت إليه منصة تيقن، وكشف كذب الرواية التي تبناها الرئيس الأمريكي حول قطع حماس لرؤوس الأطفال، وكشف أن أول من أطلقها هو ديفيد بن صهيون، نائب قائد الوحدة 71 من جيش الاحتلال الإسرائيلي، وأحد زعماء المستوطنين المتطرفين في غلاف غزة، ولا يوجد أي دليل على تلك الواقعة.
كما تمكنت منصة "صواب"، وهي منصة تدقيق معلومات لبنانية، من كشف زيف ادعاء وضع حماس لطفل بالفرن، وكشفت أن أول من أطلق الادعاء هو إيلي بير رئيس منظمة "United Hatzalah" الإسرائيلية، خلال مؤتمر لليهود في الحزب الجمهوري الأمريكي في لاس فيغاس، زاعما أن دليله الوحيد على ذلك فيديوهات صورتها حركة حماس نفسها، ثم كشفت المنصة أن الادعاء كاذب، ولا يوجد أي دليل يدعم تلك الرواية، قبل أن تتبعها عدة وسائل إعلام غربية لنشر حقيقة الرواية.
تكتسب المواد المضللة قدرة أعلى على الانتشار الفيروسي، ولا سيما في حال تبني أنظمة أو دول لها، بينما تظل منصات تدقيق المعلومات تعاني قلة الموارد وعزوف الجمهور بشكل كبير عن إعادة نشر الروايات الصحيحة عوضا عن تلك المضللة.
كما تعاونت منصات كثيرة في تفنيد بقية الروايات الإسرائيلية، كان أبرزها منصة تحقق، وهي منصة تدقيق معلومات فلسطينية، وقد كشفت أن المستشفى المعمداني استُهدِف من الاحتلال الإسرائيلي ولا علاقة لحركة الجهاد باستهدافه. كذلك كشفت منصة "مسبار" زيف ادعاء استخدام دمية للترويج بأنها لطفل فلسطيني مقتول، وأن الفيديو الأصلي يعود إلى طفل صغير من عائلة البنا، توفي إثر استهداف طائرات إسرائيلية لمنزله بحي الزيتون شمالي قطاع غزة.
مستقبل البروباغندا الإسرائيلية في الحرب
لم تكن إسرائيل تتوقع أن تتهاوى روايتها بهذه السرعة؛ فقد كانت تُعول كثيرا -على ما يبدو- على استمرار حشد الرأي العام العالمي لحملتها العسكرية لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة. إلا أن ما اضطلعت به غرف تدقيق المعلومات المحلية والشبكات الإقليمية من تنسيق مستمر على مدار الساعة أسهم بشكل كبير في دحض الروايات الإسرائيلية، وهو ما أدى إلى تكوين رأي عام دولي مضاد، ليس فقط بسبب المجازر الدامية في حق النساء والأطفال، ولكن أيضا شعر العالم بأن إسرائيل تمارس التضليل وتستخدمه لشرعنة جرائم الحرب، وهو ما أدى إلى خروج ما يمكن وصفه بأكبر تظاهرات مناهضة لإسرائيل في الغرب؛ وخاصة في لندن التي شهدت تحولا كبيرا في موقف الشارع هناك أدى إلى الإطاحة بوزيرة الداخلية المساندة لإسرائيل.
يمكننا أن نقول إن ما اضطلعت به - وما تزال - منصات تدقيق المعلومات في هذه الحرب يُعد تحولا ملحوظا في إستراتيجيات مواجهة البروباغندا السياسية والعسكرية؛ فلم يعد من المقبول أن يتبنى السياسيون والمنصات الإعلامية روايات غير مدعومة بأدلة، أو صادرة من جانب واحد في النزاعات، وهو ما يجعل مهمة إسرائيل في الحصول على تأييد عالمي لمد أمد الحرب مهمة صعبة للغاية، كما يجعل مهامها القادمة في التلاعب بالرأي العام الدولي فيما يخص القضية الفلسطينية أكثر صعوبة، ولكن هل ستقف إسرائيل عاجزة أمام منصات تدقيق المعلومات التي تحولت إلى ما يشبه القبة الحديدية ضد رشقاتها من التضليل؟
في ظل تقديرنا للجهود المبذولة من منصات تدقيق المعلومات، يجب علينا العمل من الآن على تعزيز الجهود مقابل ما ستبذله إسرائيل وغيرها من المنظمات والجهات التي تعتمد على التضليل لشرعنة تحركاتها غير الأخلاقية وغير الإنسانية.
لقد ظهر جليا في هذه الحرب كيف تدعم أغلب منصات التواصل الاجتماعي الرواية الإسرائيلية وتقمع الروايات المضادة، بما في ذلك جهود منصات تدقيق المعلومات التي تعمل بشكل حيادي، وتسعى إلى مجابهة حملات التضليل، وهو السلوك الذي قد يتعاظم مستقبلًا، لتُحَجَّم منصات تدقيق المعلومات بشكل كبير، في ظل الانتشار غير المتكافئ بين الروايات المضللة ومواد التحقق؛ إذ تكتسب المواد المضللة قدرة أعلى على الانتشار الفيروسي، ولا سيما في حال تبني أنظمة أو دول لها، بينما تظل منصات تدقيق المعلومات تعاني قلة الموارد وعزوف الجمهور بشكل كبير عن إعادة نشر الروايات الصحيحة عوضا عن تلك المضللة، فضلًا عن محاولات وسائل الإعلام المنحازة التشكيك في عمل منصات تدقيق المعلومات.
لذا؛ فإن الأثر الواضح لعمل منصات تدقيق المعلومات في هذه الحرب يدفعنا بقوة للعمل في ثلاثة اتجاهات:
- التكاتف لتعظيم الاستفادة من الشبكات الإقليمية لمدققي المعلومات؛ إذ كان للتعاون الذي رعته الشبكة العربية لمدققي المعلومات لربط مدققي المعلومات العرب مع المنصات الأجنبية أثر عظيم في دحض الروايات الإسرائيلية، وهو ما يؤهل تلك الشبكات لتؤدي دورا أكبر في ترسيخ ثقافة تدقيق المعلومات في المنطقة العربية والمناطق المتاخمة للصراعات بالشرق الأوسط، ودعم جهود المنصات المحلية لتعظيم أثرها، وتشكيل جبهات إقليمية قوية لمنصات تدقيق المعلومات تدافع عنها وتمثلها أمام منصات التواصل الاجتماعي وتقدم لها الدعم المطلوب في مواجهة تحالف الشبكات الإعلامية المنحازة.
- بدء مشروعات بحثية تعمل على تحليل هذه الجولة من المواجهة بين منصات تدقيق المعلومات والجهات الراعية للبروباغندا السياسية والعسكرية؛ للوقوف على نقاط القوة والضعف، ومعرفة كيفية تطوير العمل مستقبلا في مواجهة الجهود المحتملة من شبكات التضليل التي تضررت أثناء الحرب في سمعتها ومدى تأثيرها.
- تنظيم الجهود الهادفة لتقييم عمل وسائل الإعلام الكبرى خلال الحرب، وكشف الانحيازات غير الأخلاقية التي مارستها بعض الشبكات الإعلامية لدعم الروايات الإسرائيلية المضللة، ونشرها لتقارير تحريضية للرأي العام الدولي ضد الفلسطينيين، لتبرير الحملة العسكرية الإسرائيلية على القطاع.
هذه التجربة التي خاضتها منصات تدقيق المعلومات في الحرب تفتح آفاقا جديدة لمستقبل عمل تدقيق المعلومات بالمنطقة العربية، وتبرز أهمية هذا الحقل في العمل الإعلامي، كما أنها تجعلها هدفا للنفوذ الإسرائيلي الذي قد يؤدي إلى تضييق الخناق عليها واستهدافها، بدءا من التضييق القانوني على منصات تدقيق المعلومات في الدول ذات العلاقات الجيدة مع حكومة الاحتلال، ومرورًا بمزيد من التضييق على محتوى تدقيق المعلومات في منصات التواصل الاجتماعي، ولن تنتهي بالعمل على تقليص المنح الدولية الموجهة لمنصات تدقيق المعلومات العربية. يعني ذلك أن مجال تدقيق المعلومات بالمنطقة قد يكون في مفترق طرق؛ بين تنسيق العمل والتكاتف في مواجهة التحديات ليصبح قوة حقيقية في مواجهة حملات التضليل والبروباغندا السياسية والعسكرية، أو أن يتمكن النفوذ الإسرائيلي من تحجيم هذا العمل بالمنطقة.