تواجه الصحفيات أثناء ممارستهن للعمل الصحفي العديد من التحديات، كما أنهن عرضة لكثير من الضغوطات على المستويين المهني والاجتماعي، وخاصة الصحفيات اللواتي يتخصصن في كتابة التقارير المعمقة والصحافة الاستقصائية أو العاملات في المجال الإعلامي المرئي أو المسموع. ومع تطور عالم الاتصال والإعلام وظهور الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي التي غيرت من شكل التواصل والتفاعل ما بين القائم بالاتصال والجمهور، تفاقمت التحديات أمام الصحفيات وزادت حدتها، وبِتْنَ عرضة للعنف الرقمي الذي يهدف بمختلف أشكاله إلى تقويض سمعة الصحفيات وإرهابهن ومنعهن من ممارسة عملهن الصحفي والحد من دورهن.
تشير بيانات دراسة أجرتها شبكة مناهضة العنف الرقمي ضد الصحفيات في الأردن -دراسة لم تنشر بعد- إلى أن 54.7% من الصحفيات الأردنيات تعرضن للعنف الرقمي، وتعددت أشكال هذا العنف ما بين إرسال تعليقات أو رسائل تحتوي على شتم أو إهانة، أو إرسال صور تحمل رموزا أو دلالات جنسية.
ولا يقف الأمر عند ذلك فحسب، بل يتعدى إلى إرسال روابط تحتوي على برامج خبيثة لسرقة الحسابات، أو إرسال صور أو رموز عنيفة أو مهينة للنساء، أو عرض علاقة جنسية، أو مواصلة الاتصال عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها.
ويؤثر هذا العنف على الصحفيات بأشكال مختلفة، منها ما يقع تأثيره على الحالة النفسية للصحفية، ومنها ما يتعلق بممارستهن للمهنة؛ إذ تبيِّن عدة صحفيات أن العنف الرقمي يحد من حرية التعبير لديهن في المقام الأول، وفي بعض الأحيان يدفعهن إلى ترك العمل الصحفي.
تشير بيانات دراسة أجرتها شبكة مناهضة العنف الرقمي ضد الصحفيات في الأردن إلى أن 54.7% من الصحفيات الأردنيات تعرضن للعنف الرقمي.
يوثق هذا التقرير تعرُّضَ عدة صحفيات لأشكال متعددة من العنف الرقمي والصعوبات التي واجهنها على الصعيدين المهني والنفسي نتيجة غياب منظومة تشريعية ونقابية ومؤسسية تحميهن من هذا العنف وتحفظ سلامتهن المهنية.
العنف الجسدي والنفسي
تقول مؤسِّسة شبكة مناهضة العنف الرقمي ضد الصحفيات في الأردن، الصحفية رانيا الصرايرة، إن الصحفيات في الأردن يتعرضن للعنف الرقمي بسبب دورهن الحيوي في نقل الأخبار والتواصل مع الجمهور، إضافة إلى وجود عدة عوامل جندرية في المجتمع الأردني. وتتعدد أشكال هذا العنف ما بين تهديدات بالعنف الجسدي والجنسي والتحرش الجنسي عبر الإنترنت، عدا عن الهجمات الرقمية التي تستهدف تقويض سمعة الصحفيات وترويج الخوف والترهيب بهدف إسكاتهن ومنعهن من ممارسة دورهن الصحفي.
ويرى خالد القضاة، عضو بنقابة الصحفيين وصحفي بجريدة الرأي، أن ثمّة ضبابية في توضيح مشهد العنف الرقمي ضد الصحفيات في الأردن؛ إذ لا توجد حدود فاصلة لتعريف العنف الرقمي ضد الصحفية والعنف ضد المرأة، ويختلط المفهومان مما يحول دون تحديد حجم المشكلة بشكل دقيق والعمل على معالجتها. ويبين القضاة أن غياب الحدود الفاصلة بين التعريفات يؤدي إلى تهويل المشكلة أو غياب بيئة مناصرة لها أو استغلالها في تمويل بعض الجهات من أجل تدريب الصحفيات.
ويعرّف القضاة العنف الرقمي ضد الصحفيات على أنه "تنمر أو تقليل من شأن صحفية بسبب المحتوى الصحفي الذي تقدمه والانتقاص من قيمتها لكونها صحفية أنثى، على ألا يوجه هذا النقد لصحفي آخر نشَرَ المحتوى ذاته لكونه رجلا".
تبيِّن عدة صحفيات أن العنف الرقمي يحد من حرية التعبير لديهن في المقام الأول، وفي بعض الأحيان يدفعهن إلى ترك العمل الصحفي.
وعلى الصعيد القانوني يوضح الخبير القانوني في التشريعات الإعلامية، صخر الخصاونة، ألا فرق بين التنمر الذي يقع على الصحفيات أو الذي يقع على السيدات أو الأشخاص في القانون، موضحا أن العنف الرقمي ضد الصحفيات هو استخدام الإنترنت أو مواقع التواصل الاجتماعي في تنفيذ الجريمة المتمثلة بالسب أو القدح أو التحقير أو التنمر بشكل عام واستخدام الصور في البيئة الرقمية، ويعود ذلك إما لظهورهن الإعلامي -ولا سيما الصحفيات اللواتي يعملن في القنوات التلفزيونية- أو لنقلهن أخبارا أو موضوعات تُشعِر بعض الأشخاص أنها تمس المجتمع، ما يجعلهن عرضة للتهديد والابتزاز واستخدام الصور والاعتداء على حياتهن الخاصة.
الجرأة في التناول والتهديد بالقتل
تقول حنان، التي تعمل في مجال التحقيقات الاستقصائية المكتوبة والمصورة منذ أكثر من 10 سنوات، إنها تتلقى تهديدات بشكل دائم تتنوع بين ما تتلقاه عبر هاتفها أثناء إعداد المادة أو قبل النشر أو بعده.
تروي حنان قصة جانبية تطرقت لها أثناء تناولها ملف مياه المصانع في منطقة سحاب وتأثيراتها البيئية والصحية: "أثناء عملي على التحقيق لاحظت سحب مياه للشرب من آبار اتضح فيما بعد أنها آبار زراعية، وعندما توجهت إلى الشخص المسؤول عنها لطلب حق الرد هدّدني بالقتل والتعرض لي ولمؤسستي قائلا: "بحييكي على شجاعتك أنا مش عارف كيف في صحفيين بالبلد عندهم الجرأة يفتحوا هيك مواضيع، والله لأجيلك على القناة"، وعلى خلفية هذا التهديد اضطرت حنان إلى حذف هذه الجزئية من فيلمها الاستقصائي خوفا على حياتها وحياة عائلتها.
لا توجد حدود فاصلة لتعريف العنف الرقمي ضد الصحفية والعنف ضد المرأة، ويختلط المفهومان مما يحول دون تحديد حجم المشكلة بشكل دقيق والعمل على معالجتها.
ترى الصرايرة أن الصحفيات في الأردن يتعرضن للعنف الرقمي على أساس النوع الاجتماعي ولكونهن نساء فقط يمارسن حقهن في التعبير عن المواقف السياسية أو الاجتماعية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مشيرة إلى أن الصحفيات الأردنيات المُطلَّقات هن أكثر عرضة للعنف الرقمي بشكل ملحوظ.
لا يختلف حال حنان عن هالة الصحفية المستقلة والمتخصصة في تغطية الشؤون الدينية والناشرة باستمرار لمواد تعرِّف الجماهير بالطوائف والأقليات الدينية المنتشرة في الشرق الأوسط التي ربما لم نسمع عنها من قبل. تحكي هالة: "حينما كنت أكتب عن ملف الأديان، كانت تحدث أشياء كثيرة تضايقني وتصلني اتهامات بأني شيعية أو رسائل تكفير على مواقع التواصل الاجتماعي، وأن "اللي بكتبه حرام".
فقدت هالة شغفها في تغطية القضايا الدينية؛ إذ تعرضت عبر موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك للعديد من الرسائل التي تكفِّرها وتدعوها إلى التوقف عن الكتابة بمثل هذه الموضوعات، وتشرح أنها فقدت الأمل بهذا المجتمع، وأصابها الإحباط جراء نظرة المجتمع للآخر. وقد دفعها ذلك إلى التوقف عن تناول الموضوعات الدينية، رغم حبها لهذا النوع من الصحافة، لتنتقل إلى تغطية قضايا الفساد واللاجئين.
"تتمثل أشكال العنف ضد الصحفيات في المقايضة بالمعلومات مقابل دوام التواصل المستمر، والإلحاح بذلك على شبكات التواصل الاجتماعي، والتهديد بعدم التواصل والتزويد بالمعلومات إذا لم ترق التغطية الصحفية للمسؤول".
يشير القضاة إلى أن العنف ضد الصحفيات لا يقف عند ذلك الحد فقط، وإنما يتخذ أشكالا أخرى؛ مثل المقايضة بالمعلومات مقابل دوام التواصل المستمر، والإلحاح بذلك على شبكات التواصل الاجتماعي، والتهديد بعدم التواصل والتزويد بالمعلومات إذا لم ترق التغطية الصحفية للمسؤول، ومنعهن من استلام المناصب القيادية رغم الكفاءة والأحقية، ومحاولة منعهن من مرافقة الوفود في المناسبات الخارجية والحد من أحقيتهن بالسفر، وتواصل المسؤولين مع أقاربهن عوضا عن المسؤولين عنهن لإبداء الملحوظات على عملهن أو ثنيهن عن مواقفهن المهنية، ومحاولة حل أي خلاف بشكل عشائري بعيدا عن المهنة.
"وحيدة أمام القضاء.."
على الرغم من معرفة نسبة كبيرة من الصحفيات الأردنيات بالعقوبات المترتبة على التنمر الإلكتروني وفقا للقانون، والجهات التي يمكن التوجه إليها في حال تعرضهن للعنف الإلكتروني وفق ما أظهرته دراسة شبكة مناهضة العنف الرقمي، فإن بعض ممارسات العنف تقع بين الصحفيين أنفسهم، وهو أمر قد لا يكون مألوفا أو متوقعا. وتفسر الصحفية زينة التي عانت من التنمر الإلكتروني ذلك بالشعور بالغبطة والغيرة من تميز بعض الأشخاص ونجاحهم.
تعمل زينة مذيعة في إحدى المؤسسات الإعلامية منذ أكثر من 15 عاما، وهي عضو في إحدى اللجان المعنية بالمرأة التي تقدم دراسات للمشاريع وتنفذها بإشراف وزاري. تختصر زينة هذه التجربة بالقول إن التعامل مع المشاريع يجري بشكل مهني وموضوعي، وقبول الأفراد في اللجان الإعلامية مبني على أسس أكاديمية ومهنية معينة وشروط واضحة لا مجال فيها للشخصنة، ولم تعلم أن رفض قبول أحد المشاريع لمتقدّمتين لعدم انطباق الشروط عليه وعدم توافقه وأهداف اللجنة واعتراضها على وجود إحداهن في اللجنة الإعلامية، سوف يعرضها للعنف والتنمر الرقمي.
تقول زينة: "لقد وصلتني اتصالات عديدة من زملاء يخبرونني بوجود منشور على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك تمت مشاركته مع شخصيات إعلامية مختلفة، ينعتني بأبشع الصفات، متنمرين على صوتي وطريقة طرحي للموضوعات ومحاورتي للضيوف، وتوصيف كل من يعمل في المؤسسة بأنه "مزبلة ومهزلة".
توجهت زينة إلى مدير المؤسسة لإبلاغه بحالة العنف الرقمي الذي تعرضت له، إلا أنه عدّ الأمر قضية شخصية ولم يتم اتخاذ أي إجراء بالخصوص، بينما تقدمت زينة بشكوى لدى وحدة الجرائم الإلكترونية، أعقبتها تهديدات مبطنة عبر اتصالات هاتفية من شخصيات مختلفة، تطالبها بسحب الشكوى كي لا تتعرض حياتها وحياة عائلتها للخطر وكذلك مسيرتها المهنية.
تنازلت زينة فيما بعد عن الشكوى لخوفها من تعرض حياة أبنائها للخطر وليأسها وإحباطها من تخلي مؤسستها عنها وعدم تقديم نقابة الصحفيين لأي دعم يذكر. تؤكد زينة أن هذه القضية "لم تؤثر على ممارستي لمهنتي، لكن كان لها تأثير على حجم الشغف والعطاء في العمل والحذر من التعامل مع الزملاء والأفراد بشكل عام".
يبين الخصاونة أن قانون الجرائم الإلكترونية جاء بصيغة عامة ولم يميز أشخاصا بعينهم، إذ إن كل من أساء أو ارتكب فعل القدح أو السب أو التحقير أو الابتزاز أوالاعتداء على الحياة الخاصة يعاقب وفق القانون، ويتم التعامل مع الشكاوى بشكل فردي لا مؤسسي حسب نوع الجريمة.
تأثيرات دائمة
تقول حنان إن الضغوطات المختلفة التي تتعرض لها الصحفية قد تحد من رغبتها في العمل والتطرق إلى الموضوعات الحساسة في المجتمع، وقد تنتج عن ذلك حالة من الخوف والقلق، وقد تخلق لدى بعضهن نوعا من الرقابة الذاتية نتيجة الخوف على الحياة الشخصية.
صحفيات أعضاء في شبكة مناهضة العنف الرقمي ضد الصحفيات في الأردن يعترفن أن كثيرا منهن يلجأن إلى العزوف عن المهنة أو تجاهل الحقائق التي توصلن إليها ويكتفين بتقديم محتوى ضعيف بعيد عن الشفافية، عدا عن آثار ذلك النفسية وزعزعة ثقتهن بأنفسهن ودورهن في المجتمع.
-الأسماء المستخدمة في التقرير هي أسماء مستعارة