يبدو أن "جريمة حجب المواقع" باتت تنخرط بقوّة بين الأنظمة العربية حتى وصلت إلى فلسطين المحتلّة. حدث ذلك بشكل رسمي في الخامس عشر من يونيو/حزيران، حين أعلن النائب العام الفلسطيني أنه وجّه قراراً للشركات الفلسطينية المزودة بخدمة الإنترنت، ينص على حجب عدد من المواقع الإلكترونية، بحجة أنها "تنشر الأكاذيب والافتراءات بحق النخب الفلسطينية، وكذلك تعكر صفو الأمة"، بحسب التعميم الصادر عن مكتب النائب العام للشركات المزودة بخدمات الإنترنت.
ومن أبرز المواقع التي تم حجبها "وكالة الصحافة الفلسطينيّة صفا، المركز الفلسطيني للإعلام، ووكالة فلسطين الآن، ووكالة شهاب الإخبارية وموقع أجناد وصوت فتح الإخباري وموقع فلسطين أون لاين، فلسطين برس وفراس برس، شفا نيوز وأمامة الإخباري وموقع أمد الإخباري وشبكة قدس الإخبارية"، دون أسباب معلنة إلا ما تم تداوله أنها "مقربة من دحلان وحماس".
في السياق؛ ما حقيقة أن الإعلام الاجتماعي صار يمثّل بديلًا عن الإعلام التقليدي؟ وما مدى التزام السلطة بالقوانين والمعاهدات الدولية؟ وهل فعلًا منح الحجب فرصة للمواقع لحشد جمهور مضاعف؟ ثمّة أسئلة تفرض نفسها إزاء نتائج الحجب..
"صفا" تخسر 27% من جمهورها
بدأت القصّة بحسب ياسر أبو هين، رئيس تحرير وكالة صفا، في الرّابع عشر من يونيو/حزيران الجاري، بعد اتصالات من الجمهور تخبر بوجود إشكالية في تصفّح الموقع بالضفّة الغربية، ما دعا إلى التواصل مع شركات الإنترنت التي أفادت بأن الموقع تم حظره ضمن مجموعة مواقع، بأمر من النائب العام الذي لم يجب بدوره على اتصالاتهم للاستفسار عن السبب.
ومنذ الحجب، تظهر رسالة لمتصفحي موقع الوكالة فور دخولهم إلى عنوانها الإلكتروني أن "الموقع محجوب بموجب قرار من الجهات المختصة" وفي خلفيتها إشارة "ممنوع" باللون الأحمر.
صورة الحجب
"انخفضت نسبة المتابعة لوكالة الصحافة الفلسطينيّة صفا بنسبة 27% منذ قرار الحجب"، يقول أبو هين. ويضيف أن مواقع التواصل الاجتماعي قد تمثّل بديلًا لكنها لا توفّر جميع خدمات الموقع الإلكتروني الذي يبقى الواجهة الرئيسية للمؤسّسة الإعلاميّة، فهو محكوم بضوابط فنية وتقنية وإخراجية خاصّة به، بيد أننا صرنا نعزّز تواجدنا أكثر عبر منصات الإعلام الاجتماعي.
وعن الخطوات القادمة، يقول إنهم يسعون إلى التغلب على أزمة الحظر، من خلال إجراءات فنية تمكن جمهور الضفة من تجاوزه، بالإضافة إلى اتخاذ مواقف احتجاج من قبل الوكالة ضد القرار وتحركات إعلامية وقانونية، كالتوجه إلى مؤسسات حقوقية وتقديم شكاوى أبرزها إلى المرصد الأورومتوسطي الذي قدم بدوره شكوى عاجلة لمقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحرية الرأي والتعبير.
تنصّ المادة (27) من القانون الأساسي الفلسطيني على أن "تأسيس الصحف وسائر وسائل الإعلام حق للجميع يكفله هذا القانون، وحرية وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة وحرية الطباعة والنشر والتوزيع والبث وحرية العاملين فيها مكفولة وفقاً لهذا القانون الأساسي والقوانين ذات العلاقة، كما تحظر الرقابة على وسائل الإعلام، ولا يجوز إنذارها أو وقفها أو مصادرتها أو إلغاؤها أو فرض قيود عليها إلا وفقاً للقانون وبموجب حكم قضائي".
ويعتبر أبو هين أن القيمة الفعلية لقرار الحجب، غير مجدية في ظل الانفتاح التكنولوجي.. "فمن الاستحالة أن يتم حجب رأي أو موقف، أو معلومة. وقد يتم اتخاذ إجراء، لكنه بالنهاية لا يؤدي غرض الحجب الكامل" يشير ويؤكد على أن "وكالة صفا تركّز في تغطيتها للأحداث على الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين، ومحاولة الدفع باتجاه إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، إلا أن قرار الحظر أثبت أن السلطة الفلسطينية لا تلتزم بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي تكفل حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير، وحرية الوصول إلى المعلومة".
"قدس الإخبارية" تفقد نصف جمهورها
في الخامس عشر من حزيران/يونيو مرّت جريمة حجب المواقع على "شبكة قدس الإخباريّة" في طريقها إلى مواقع أخرى. "الغريب في موضوع حجب شبكة قدس الإخبارية أن المواد التي تخرج بها وظهورها الإعلامي يؤكّدون على الانحياز الكامل لفلسطين وللمقاومة الفلسطينيّة والاستقلالية حيث أننا لا نتبع ولا يمكن أن نتبع لأي فصيل، حتى أن أعضاء من اللجنة القيادية لحركة فتح تواصلوا معنا، مستغربين من الحظر"، هكذا يعقب إياد الرفاعي الناطق باسم شبكة قدس الإخبارية.
تؤكّد المادة (44) في قانون الاتصالات أنه لا يجوز حجب خدمة الإنترنت إلا بموجب حكم قضائي من المحكمة وبعد إنذار خطي، كما أكّد حقوقيون وخبراء عدم وجود أي نص قانوني يتيح للنائب العام حجب أي موقع إلكتروني بدون قرار قضائي، ما يعني أن حجب المواقع الإلكترونية يمثّل انتهاكا واضحا للقانون الفلسطيني.
ويرى الرفاعي أن "قرار الحجب فاقد لقيمته"، حيث تعامل معه القائمون على الشبكة بطرق تقنية تتحايل على الحجب، إلا أن مبدأ الحظر وسياسة تكميم الأفواه ومنع الوصول إلى المعلومة مرفوض جملةً وتفصيلا، سيّما وأن القوانين والمعاهدات التي وقّعت عليها السلطة الفلسطينيّة تلزمها باحترام حرية الصحافة وحرية الرأي والتعبير.
يبلغ عدد متابعي الشبكة عبر منصات التواصل الاجتماعي 10 ملايين متابع، وانطلق الموقع الإلكتروني للصفحة الأساسية التي أسست على فيسبوك قبل أربع سنوات تقريبا، إذ يبلغ متوسط الزيارات اليومية للموقع حوالي 70 ألف زيارة، وبحسب الرفاعي فإن عملية الحجب أفقدتها أكثر من النصف في الوقت الجاري.
ويوضح "صحيح أن الناس تستخدم مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير، ويمكن أن تحل جزءا من الأزمة، إلا أن الثابت أن للمواقع مكانتها، خصوصا في المواد الطويلة التي لا غنى عنها، كالمقالات والتقارير والتحقيقات، كما أن الجميع لا يتفاعلون مع الأمور التقنية بشكل واحد، وإذا نشرنا هذه المواد كاملة عبر صفحاتنا، سيملُّ منها القارئ، خصوصا إن كان يتصفح من الهاتف المحمول".
يتواصل صحافيو الشبكة منذ اليوم الأول للحجب مع المؤسسات الحقوقية، التي غالبا ما تقوم بعملية التوثيق، إلا المرصد الأورومتوسطي الذي تحرّك على الأرض بشكواه ضد القرار. ويفيد الرفاعي أن الفترة اللاحقة ستشهد تحرّكات فعلية على الأرض كتنظيم وقفات احتجاجية، ورفع قضايا للمحكمة العليا والدستورية.
ويشكو التفاعل الضعيف لنقابة الصحافيين الفلسطينيّين قائلًا: "نواجه قصورا من نقابة الصحفيين وتعاملها مع أمر الحجب، حيث اقتصر على إصدار البيانات. ومع أنها اجتمعت مع النائب العام إلا أنها لم تخرج لنا بأي توضيح حول الموضوع".
النائب العام للنقابة: القرار سياسي ولا دخل لي به
يقول عمر نزّال، عضو الأمانة العامة في نقابة الصحفيين في رام الله، إنهم تابعوا قضية حجب المواقع منذ اليوم الأول، كما أنهم أصدروا موقفا وأدانوا القرار غير القانوني، داعين النائب العام إلى ضرورة التراجع عنه.
في السّادس عشر من حزيران/يونيو، أصدرت النقابة بيانًا تدين فيه حجب قرار النيابة العامة في رام الله والقاضي بحجب 12 موقعاً إعلامياً محليا، قائلة إنها ترى في ذلك انتهاكاً واضحاً للقانون الأساسي وجملة القوانين الناظمة للعمل الإعلامي، وإضرارا بحق المواطن بالوصول إلى مصادر المعلومات والاطلاع على الآراء المختلفة.
وأضافت النقابة أن "مثل هذه القرارات، ليس لها أي قيمة عملية في ظل التطورات التكنولوجية التي تتيح الوصول إلى المواقع المحجوبة بطرق عديدة، وهي فقط تشوه صورة الحريات الإعلامية في فلسطين".
وبحسب نزّال، فقد بلغ عدد المواقع المحجوبة بالضفّة الغربية 26 موقعا، حيث بدأ بـ11 موقعا موزعة على أكثر من قرار وصلوا تباعاً للشركات المزودة لخدمات الإنترنت، بعضها مواقع عربية غير فلسطينية. وهذا يؤشر إلى احتمال صدور قرارات تطال مواقع أخرى، مؤكّدا أن ثمة تحركات سياسية قائمة بالتزامن مع الحراك القانوني والتوجه إلى القضاء الفلسطيني.
ويرد على اتهام النقابة بالتقصير "وكلت النقابة محاميا منذ اليوم الأول للحجب، وطالبت المواقع المحظورة بالتوقيع على كتاب تفويض كي يسلَّم إلى المحامي، إلا أن شبكة قدس لم ترسله حتى الآن".
وخلال الاجتماع الذي عقد بين النقابة والنائب للبحث في المسألة بتاريخ التاسع عشر من حزيران/يونيو، كان رد النائب العام، وفق نزال، "لم يكن القرار مني، بل من جهة ما تلقت شكاوى من مواطنين ومن مسؤولين أن هذه المواقع غير مهنية وتعمل على تشويه الحقائق، والقرار صدر من جهات سياسية وبإمكانكم اللجوء إلى القضاء".