بدأت علاقتي بالإعلام عام 2006، بعد تخرجي في الجامعة. كنت، حينئذٍ، ربما من الخريجين المحظوظين الذين وجدوا في سوريا فرصة عمل ثابتة بدخل مقبول، ولكن ثمة شيء كان ينغص عليّ وعلى معظم زملائي هذه الفرحة؛ فالجريدة التي عملنا بها -التي كانت تحمل اسم بلدنا- ملك لمجد سليمان "ابن رجل المخابرات بهجت سليمان"، وكان ذلك مؤشرا كافيا يدل على أننا سنعمل في صحافة خفيفة لا تزعج أحدا، وتُدخل ربما السعادة والتسلية لقلوب الناس.
ولكن ثمة شيء كان ينغص عليّ وعلى معظم زملائي هذه الفرحة؛ فالجريدة التي عملنا بها -التي كانت تحمل اسم بلدنا- ملك لمجد سليمان "ابن رجل المخابرات بهجت سليمان"، وكان ذلك مؤشرا كافيا يدل على أننا سنعمل في صحافة خفيفة لا تزعج أحدا، وتُدخل ربما السعادة والتسلية لقلوب الناس.
كان الأمر، وقتئذٍ، مقبولا نوعا ما؛ فالجميع يعلم أن كل شيء بيد فئة من الناس هم المقربون من الدولة، كما أن سوريا في 2006، بدأت تقدم نفسها بشكل جديد، ذلك أن شركات التأمين والمصارف الخاصة افتتحت أبوابها، وبدأ المستثمرون يزورون البلاد، ويدرسون فرص الاستثمار، ومن ثَمّ كنا مشغولين بهذه الأمور. أما السياسة والحريات فكانت ثانوية في أحاديثنا عملا بمبدأ انعدام الثقة بأي أحد، وخوفا من كتابة تقرير أمني ضدك، قد يضعك خلف الشمس كما كان يقال.
كنا نعلم جميعا بوجود الفساد وبالجرائم المرتكبة بحق المساجين في تدمر وصيدنايا، وجميعنا بكينا حين سمعنا ما جرى في حماة، ومناطق أخرى حاولت رفع رأسها ضد الأسد، ولكن لم تكن باليد حيلة؛ لأن صورة السجان حاصرتني في مخيلتي ولم تفارقني يوما.
ربما كان عام 2010 نقطة فاصلة في تعزيز هذا الشعور بالخوف، حين شاركت في تدريب صحفي في لبنان مع عدد من الزملاء بتنظيم من منظمة دولية. لم نكن نعلم حينئذ أن التدريب كان تحت مراقبة الجهات الأمنية، التي بدا أنها انزعجت من هذا النشاط، على الرغم من أن مَن نقل لهم هذه المعلومات كان بإمكانه تأكيد أنها كانت دورة تدريبية إعلامية تهدف إلى تعليم تقنيات جديدة في التحرير الصحفي والتصوير. هذه القصة وحدها كانت كفيلة بإثارة القلق لدى الأجهزة الأمنية، ومن ثَمّ لم يكن مستغربا أن نشهد بعد اندلاع الثورة كمية الحقد التي وجهها النظام ضد الإعلاميين وحمَلة الكاميرات.
في ذلك العام، اتصل بي شخص من أحد الفروع الأمنية وطلب مني زيارتهم، ولم أكن أدرك، يومئذ، ما يريدون، ولا ماذا ينتظرني في هذا الموعد المرعب. بطبيعة الحال، لم يكن لدي من خيار سوى التنفيذ، فاتجهت بصحبة أخي (الذي بقي خارجًا) إلى الفرع الموجود في منطقة كفرسوسة، وأذكر تمامًا الآلام التي عانيتها في معدتي والرجفان الذي أصاب رجلي. واستفحل الأمر حين سلمتهم هاتفي وهويتي على الباب الخارجي، فعرفت أنه لو لُفّقت لي تهمة، فإنني لن أستطيع الخروج ولن يتمكن أهلي ومعارفي من رؤيتي مرة أخرى. لحسن الحظ، كان اللقاء (الجاف) مجرد تنبيه لي لعدم التعامل مع أي جهة أجنبية أخرى، وإبلاغهم بأي تواصل جديد معي من هذه الجهة أو غيرها من الجهات الإعلامية الدولية، ولحسن الحظ لم يتواصل بي أحد منهم.
اتجهت بصحبة أخي (الذي بقي خارجًا) إلى الفرع الموجود في منطقة كفرسوسة، وأذكر تمامًا الآلام التي عانيتها في معدتي والرجفان الذي أصاب رجلي. واستفحل الأمر حين سلمتهم هاتفي وهويتي على الباب الخارجي، فعرفت أنه لو لُفّقت لي تهمة، فإنني لن أستطيع الخروج ولن يتمكن أهلي ومعارفي من رؤيتي مرة أخرى.
والحقيقة، وقد سقط الأسد وفروع مخابراته، كان هذا اليوم مفصليا في حياتي؛ إذ أصبح أي تحرك لي مراقبا من قبل نفسي، لا من المخابرات، وأي عبور للحدود كان عبارة عن كابوس، خائفة من أن يكون اسمي مدرجا ضمن قوائم المغضوب عليهم، وبفضل الله لم يخطر على بال أحد أن يضع اسمي.
مع انطلاق شرارة الثورات في تونس ومن ثم مصر، عاد صوت المخابرات يهمس في أذني (لا تتدخلي)، فلم أجرؤ يوما على نشر أي شيء على الفيسبوك يمجد هاتين الثورتين مكتفية بالحديث عن الأمر ضمن مجموعتي المقربة من الأصدقاء. وحين اقترب الأمر من سوريا اختلطت علي المشاعر؛ فهل يمكن أن نتخلص فعلا من حكم آل الأسد ونستريح من الجبل الجاثي على قلوبنا؟ ولكن في الوقت نفسه كنت خائفة من اعتقالات وجرائم كانت ستعصف بالملايين من الأبرياء، وهذا ما حصل فعلا. كذلك كنت خائفة على نفسي وعلى أصدقائي، ولا سيما أنّ جزءا منهم تعرض للاعتقال فعلا، وأصبح مجرد الالتقاء بهم بعد فترة جريمة يمكن أن تدخل الإنسان للسجن. لم أجرؤ على كتابة أي موضوع سياسي أو إنجاز تغطية إعلامية لما يجري، وقررت الحياد والانشغال بالموضوعات العادية التي لا تزعج أحدا، وصار عملي الصحفي مقتصرا على أمور لا تشمّ "رائحة السياسة".
ولأن الشغف الصحفي لا يمكن أن يموت، كنت أحن بين الحين والآخر للكتابة والتواصل مع الناس. نشرت مواد صحفية عن قضايا اجتماعية ومنوعات، ولم يكن هينا بالنسبة إلي؛ فمعظم وسائل الإعلام التي أتعامل معها (باستثناء الأخبار اللبنانية) لها نفَس معارض ضد النظام السوري. وباعتقادي كان مجرد التواصل معهم يشكل تهمة بحد ذاته حتى لو كان موضوعا بسيطا.
كان التواصل مع الناس وإقناعهم بالحديث إلى وسيلة إعلامية معارضة يشكل تحديا بحد ذاته. كنت أطمئنهم أن الموضوع بسيط ولا يتضمن أي قلق، وأننا لا نتطرق إلى السياسة، ولكنني كنت في الواقع أشعر بالقلق. في العديد من الأحيان، كنت أطلب من إدارة التحرير عدم نشر اسمي، وفي بعض الحالات الأخرى، كنت أعتمد على استخدام اسم مستعار، خصوصا عندما عملت في مواقع سورية معارضة.
الغريب أنه حتى في حالة استخدام اسم آخر، لم نكن نجرؤ نحن الصحفيين الذين بقينا في سوريا، على كتابة مواد معارضة للنظام؛ لأننا على يقين بأن اسمنا سينكشف في أي لحظة، ولهذا من الأسلم الحديث عن يوميات الناس ومشكلات المغتربين وقليل من الاقتصاد، والموضوعات التي لا تزعج أحدا ولكن في الوقت نفسه تعكس حياة السوريين.
تأخر النصر والتحرير كثيرا، ومع الأيام تعايشنا مع الوضع المفروض وبتنا نشعر أن آل الأسد لن يتزحزحوا، وكبرت الغصة في حلقنا، ونحن محاطون بالفاسدين والمطبلين، وهنا وجدت في قضايا البيئة ملاذي الآمن وبدأت العمل على الموضوعات البيئية التي تهم سوريا. كنت أعرف أن البيئة لا تهم السوريين في ذاك الوقت، ولكن اعتبرت العملية بمثابة توثيق لما يجري من انتهاكات بيئية من صيد جائر وتدمير للغابات والحيوانات وحتى الأسماك، وهي أمور ستفيد السوريين لاحقا حين يستعيدون حريتهم ويهبون لإصلاح بلدهم.
وكالعادة، بقي الصحفي المسجون داخلي يحاول بين الفينة والأخرى التحرك، فشاركت بتدريبات صحفية مع جهات غير مرضيّ عنها مثل شبكة أريج ووحدة سراج للصحافة الاستقصائية، وشبكة آوان ميديا، وكان الرعب رفيق كل جلسة من الجلسات التي حضرتها، خصوصًا مع وجود زملاء أعزاء من المناطق المحررة، وقد كانت كل مادة من المواد التي أنجزها مصحوبة بالقلق والتوتر.
لا أعرف صراحة كم عدد المرات التي تعبت فيها على مواد صحفية ونشرتها من دون اسم ولا تلك التي ذيلتها بأسماء وهمية نسيتها مع الأيام، ولا أعرف صراحة كيف تمكنت من النجاة من قبضة الفروع الأمنية والبقاء على قيد الحياة في بيتي، ولكن ما أعرفه أن الحياة منحتني ومنحت السوريين فرصة جديدة وولادة جديدة بعد يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وسنكون بالتأكيد مستحقين لهذه الفرصة ولن نضيعها مرة أخرى.
لا أعرف صراحة كم عدد المرات التي تعبت فيها على مواد صحفية ونشرتها من دون اسم ولا تلك التي ذيلتها بأسماء وهمية نسيتها مع الأيام، ولا أعرف صراحة كيف تمكنت من النجاة من قبضة الفروع الأمنية والبقاء على قيد الحياة في بيتي، ولكن ما أعرفه أن الحياة منحتني ومنحت السوريين فرصة جديدة وولادة جديدة بعد يوم 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، وسنكون بالتأكيد مستحقين لهذه الفرصة ولن نضيعها مرة أخرى.