في الرابع من مارس/ آذار الجاري، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) تقريراً يوضح أسباب سحب فيلم I lost trust' in Gaza film, says BBC boss Tim Davi مسوغة قرارها بعدم إجراء المؤسسة البحث الكافي للتأكد من هوية الأطفال المشاركين فيه. واستند قرار سحب الفيلم - الذي صور على مدار عام ويروي معاناة أطفال غزة من منظورهم الشخصي – على أساس أن واحدا من الأطفال، وهو عبد الله البالغ من العمر 13 عامًا، ابن مسؤول في حكومة حماس.
عبد الله هو ابن نائب وزير الزراعة في حكومة غزة التي تديرها حماس. وعلى الرغم من أن هذا المنصب قد يكون أقل إثارة لشكوك الأدلجة؛ لأن وزارة الزراعة ليست فصيلا مسلّحا أو ليست كوزارة الداخلية مثلاً، ودور الأب نائباً لوزير الزراعة يتمثل في إنتاج الغذاء المتعلق بالمحاصيل وصيد الأسماك وإدارة الثروة الحيوانية فضلا عن أنّ الحكومة التي ينتمي إليها مدنية، فإن هذه التفاصيل لم تُغيِّر شيئًا من موقف بي بي سي تجاه مشاركة طفل يروي معاناته من منظوره الخاص.
نحن لسنا بصدد مناقشة مدى قُرب صلة الطفل عبد الله بحماس، بل إن جوهر القضية يمكن صياغة إشكاليته على النحو التالي: هل يجب علينا فحص هوية أقارب الأطفال وتوجهاتهم السياسية حتى نستمع إلى رواياتهم؟
يتعلق الأمر بفيلم صُور على مدار عام. كصانعة أفلام أعرف تماماً حجم المعاناة التي يمكن تكثيفها في ساعة لمادة فيلمية جرى تصويرها خلال هذه المدة خاصة إذا كان مرتبطا بمنظور الأطفال لأنه مختلف وأكثر تأثيرا، وأغلب اللقطات تصور من زاويتهم المنخفضة.
نحن لسنا بصدد مناقشة مدى قُرب صلة الطفل عبد الله بحماس، بل إن جوهر القضية يمكن صياغة إشكاليته على النحو التالي: هل يجب علينا فحص هوية أقارب الأطفال وتوجهاتهم السياسية حتى نستمع إلى رواياتهم؟
واحدة من شخصيات الفيلم إلى جانب عبد الله هي ريناد، أتابعها منذ بداية الحرب، تطبخ بأدوات متواضعة من أمام خيمتها، وتبث فيديوهاتها لملايين من الناس الذين أحبوها وشعروا بأن هذه الطفلة الفاتنة تعنيهم بشكل شخصي. تحاول بي بي سي النأي بنفسها عن تهم الخضوع للضغوطات، لكنها تبدو مذعورة في التقرير المنشور الذي يقول رئيس التحرير عنه: "إن القرار لا علاقة له بأي طرف من الأطراف في الصراع بين إسرائيل وغزة والمؤسسة لا تخضع للضغوط أو اللوبيات".
تلقت بي بي سي نحو 500 شكوى تفيد بأن الفيلم كان متحيزًا ضد إسرائيل، بالإضافة إلى 1800 شكوى أخرى تطلب إزالته من منصة iPlayer. إحدى هذه الشكاوى أتت من ليو بيرلمان، المدير التنفيذي لشركة الإنتاج البريطانية الكبرى فولويل 73 الذي قال في حديثه على راديو 4 إن هيئة الإذاعة البريطانية لم تُبالِ بمشاعر الجالية اليهودية في الأشهر الستة عشر التي تلت السابع من أكتوبر، وإن هذا الفيلم الوثائقي ردد "دعاية حماس". وتحت هذه الضغوط، قامت بي بي سي بمراجعة إضافية برئاسة مدير شكاوى القراء وتقييمات التحرير، بيتر جونستون. يقول جونستون بأنه سيقوم بمراجعة ما إذا كانت إرشادات التحرير تعرضت لانتهاك قد يفضي للعقاب.
التحقق من خلفيات المشاركين مهم لضمان واقعية شهاداتهم وللتثبت من أنها حقيقية وغير مُختلقة، هل كون الطفل ابن نائب وزير الزراعة في حكومة حماس يجعله مرشحًا طبيعيًا لاتهامه باختلاق أحداث لم تقع؟ هل قام هذا الطفل بـ "اختراع" شيء من لا شيء؟ ذلك أن كل ما صوره هو واقع مرير نشاهده يومياً وبشكل مباشر في التغطيات المفتوحة ووثقته منظمات أممية، ويحاكم بسببها المسؤولون الإسرائيليون في المحكمة الجنائية الدولية.
إرشادات التحرير!
إن التحقق من خلفيات المشاركين أثناء صناعة فيلم وثائقي مهم للأسباب التالية:
1- لضمان مصداقية شهاداتهم، والتأكد من أنها غير نابعة من مصلحة ذاتية تحقق لهم منفعة خاصة، لكن أي منفعة شخصية حققها الطفل من المشاركة في الفيلم؟
2- التحقق من خلفيات المشاركين مهم لضمان واقعية شهاداتهم وللتثبت من أنها حقيقية وغير مُختلقة، هل كون الطفل ابن نائب وزير الزراعة في حكومة حماس يجعله مرشحًا طبيعيًا لاتهامه باختلاق أحداث لم تقع؟ هل قام هذا الطفل بـ "اختراع" شيء من لا شيء؟ ذلك أن كل ما صوره هو واقع مرير نشاهده يومياً وبشكل مباشر في التغطيات المفتوحة ووثقته منظمات أممية، ويحاكم بسببها المسؤولون الإسرائيليون في المحكمة الجنائية الدولية.
3- إن التحقق من خلفيات المشاركين مهم لضمان أن المنظور الذي سيعكسه الوثائقي ليس مقتصراً على رواية جهة واحدة، وإذا تخيلنا أن القصة - أياً كانت - مثل مكعب روبيك فينبغي على الفيلم ألا يرينا جهة واحدة فقط من حقيقة الأشياء المركبة؛ وبالتالي ضمان أن الرواية لا تجتزئ الواقع. هل المنظور الذي شاهدناه في هذا الفيلم هو الذي تسمح حماس لنا برؤيته فقط؟ ما المنظور الذي كان مطلوباً من فيلم أبطاله أطفال ويقدم نفسه على أنه فيلم من وجهة نظر الأطفال؟ الفيلم وفقاً لدوروثي بيرن، رئيسة سابقة لقسم الأخبار في Channel 4 ليس "مؤيدًا لحماس". وها هي تقول في مقابلة مع بي بي سي: "لفتت انتباهي الجهود المبذولة لتحقيق التوازن، إذ يحتوي الفيلم على أصوات تلعن قادة غزة". لقد استطاع الفيلم إذن تحقيق نوع من الشمولية في الرواية وعكس مشهد النسيج الاجتماعي الغزّي المتضرر من الحرب بمجمله، من خلال الاعتماد على شخصيات أخرى بآراء وخلفيات مختلفة، وهو ليس قائماً على رواية عبد الله فقط، وهناك طفلان آخران، واحد منهم هي ريناد المحبوبة والآخر زكريا، الطفل الجبار الذي يساعد المسعفين في أحد مستشفيات غزة.
إذا كان الفيلم شاملاً بالقدر الممكن، وما ينقله غير مختلق، ولا ينطوي على مصلحة يمكن أن يحققها الطفل من ورائه، فما هي إرشادات التحرير التي خرقها الفيلم؟ تفيد القناة أن الشركة المنتجة لم تذكر بشكل واضح الصلة بين والد الطفل عبد الله وحماس، إذ ينبغي التنبيه دائما إلى التحقق من الشخصيات المشاركة حتى لا تكون هناك صلات بينها و "بين منظمات إرهابية"، وهي من إرشادات التحرير المتعارف عليها عالمياً، ولكن الفيلم يتعلق بالأطفال مما يدفعنا إلى السؤال: هل ثمة إرشادات للتحرير تمنعنا من سماع شهادات الأطفال إن كانوا أبناء لحركات مصنفة أنها "إرهابية" أو ممنوعة؟
إذا كان سحب الفيلم مستندا على انتماء الطفل إلى عائلة تنتمي إلى منظمة تصنفها بريطانيا"منظمة إرهابية"، فهل من المنطقي وصم طفل بأنه إرهابي لأن والده تصنّفه حكومة بريطانيا على هذا الأساس؟ إنه اتهام خطير بحق طفل ومستقبله ومصلحته الفضلى؛ فصفة البراءة أزيلت عن عبد الله على اعتباره يتحمّل وزر انتماء والده السياسي، وأصبح شريكاً معه في المسؤولية، لأن والده جزء من منظومة حكم غزّة قبل 7 أكتوبر. هذه إعادة صياغة للمعايير بشكل كامل أو حتى اختراع لمعايير جديدة بالكامل. والأكثر من ذلك، لقد شاهدنا كيف يتعامل الإعلام الغربي بلمسة إنسانية مع قصص أطفال ولدوا لمقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية وانتهى بهم المطاف في مخيّمات صحراوية معزولة، ولعلنا نطرح السؤال لم غاب هذا البعد الإنساني عن قضية عبد الله وأطفال غزة؟
هل من المنطقي وصم طفل بأنه إرهابي لأن والده تصنّفه حكومة بريطانيا على هذا الأساس؟ إنه اتهام خطير بحق طفل ومستقبله ومصلحته الفضلى؛ فصفة البراءة أزيلت عن عبد الله على اعتباره يتحمّل وزر انتماء والده السياسي، وأصبح شريكاً معه في المسؤولية، لأن والده جزء من منظومة حكم غزّة قبل 7 أكتوبر.
هل هي ازدواجية معايير؟
تستند الأفلام الوثائقية إلى الرواية الفردية للأشخاص، مما يجعلها تتمتع بقدر أعلى من الفردانية مقارنة بالمادة الصحفية، كما أنها ليست مهووسة بالموضوعية، بل تفتح مجالاً للرواية الشخصية التي عادة ما تكون محملة بالآراء الشخصية، ولكن هذا لا ينطبق على حالة عبد الله، حيث لا تسري عليه اتفاقية حقوق الطفل التي تنص على حقّه في تكوين آرائه الخاصة والتعبير عنها بحرية في جميع المسائل التي تمسه، وصار وصمه ثم نفيه ومن ثم إلغاء روايته مقبولاً، بل ويجب الاعتذار عنه.
شخصيًا، سبق لي أن أنتجت فيلمًا ضمن ورشة مع بي بي سي، وقد عُرض على شاشتهم الناطقة بالعربية، تناول في إحدى طبقاته موضوع الأطفال الذين تعرضوا لـ "غسيل دماغ". كان من بين الشخصيات طفلة سورية لاجئة تأثرت بالكنيسة الحاضنة، وترفض العودة إلى الإسلام. حظي الفيلم بالاحتفاء، وأُتيح للطفلة أن تروي قصتها بطريقتها، دون أي توجيه مني أو إصدار أحكام. غالباً، يتمتع المشاهد بقدر من الذكاء يمكنه من فهم الأمور وتكوين انطباعه الخاص. يعي المشاهد، أيضا، تعقيدات الأوضاع في منطقة حرب وربما نجده على وعي كاف لمعرفة أن أي من هؤلاء الأطفال مرتبط بشخص من حماس أو متأثر بفكر حماس المسيطر. ولو افترضنا أن الطفل متأثر بتوجّهات سياسية ما، فهل يمنعنا ذلك من سماع قصته؟ من وضع هذا المعيار؟ ألا يعتبر الكثير من أبطال الأفلام الأخرى على منصة بي بي سي مؤدلجين أيضاً؟
هل أصبح ممنوعا تقديم أفلام عن أطفال مؤيدين لكيم جونغ أون، رئيس كوريا الشمالية أو حتى لفلاديمير بوتين، رئيس روسيا أو حتى عرض قصصهم؟ هل يمنعنا ذلك من توثيق تجربة أطفال في تنظيمات سياسية أو عسكرية معينة أو في ظروف حرب معينة؟ أم إنه يجب أن تعرض ضمن إطار أجيال الشر المُطلق المستقبلي الذي يهدد البشرية؟ لن يُسمح لنا برؤية قصص أطفال روس متطوعين لمساندة بلادهم، عالقين في حرب لا يعرفون عنها شيئاً، يمثلون أدواراً أكبر من أعمارهم؟ لو كان الفيلم في قرية صغيرة عالقة ما بين روسيا وأوكرانيا، فهل من المقبول مهنيا أن يقوم التلفزيون الكوري الشمالي بحذفه لأن والد أحد الأطفال جندي روسي؟ ألن ننظر إلى ذلك على أنه محاولة لتحديد الروايات التي تصلنا وفرض أطر محددة على القصص؟ وكأن كل القصص يجب أن تؤطر من منظور وزاوية معالجة متشابهة لا تعكس تنوع التجارب الإنسانية حتى تلك المثيرة للجدل.
يعي المشاهد تعقيدات الأوضاع في منطقة حرب وربما نجده على وعي كاف لمعرفة أن أي من هؤلاء الأطفال مرتبط بشخص من حماس أو متأثر بفكر حماس المسيطر. ولو افترضنا أن الطفل متأثر بتوجّهات سياسية ما، فهل يمنعنا ذلك من سماع قصته؟ من وضع هذا المعيار؟ ألا يعتبر الكثير من أبطال الأفلام الأخرى على منصة بي بي سي مؤدلجين أيضاً؟
بالنسبة لإسرائيل، يعد الطفل عبد الله من الأهداف الشرعية التي يمكن استهدافها في قطاع غزّة، مثله مثل عشرات الأطفال الذين قتلوا قد يكون جزء منهم على ارتباط بعائلات تنتمي إلى حماس، مما يعني قتلا عشوائيا للمدنيين، وهذه الرؤية تتوافق تماما مع قرار سحب بي بي سي للفيلم.
لقد اختارت بي بي سي صناعة فيلم عن حرب غزة من خلال صوت الأطفال؛ لأنها الطريقة الأكثر أمانا من الوقوع في المطبات الشائكة، ولكن السماح بوجود طفل ابن مسؤول في حكومة حماس يُفسد كونه "ضحيّة مثالية". أما السؤال المطروح الآن بعد سحبه، هل سُحب الفيلم لأنه يتضمن شهادة عبد الله أم لأنه صادم وقاس ونجح في تحريك مشاعر الجمهور تجاه أطفال غزة، وقد يتسبب في إلحاق الضرر بصورة إسرائيل؟