منذ السابع من أكتوبر 2023، تغير كل شيء.
لم يكن في حسباني أبدًا أن كلمة "صحافة" أو "PRESS" المطبوعة بوضوح على سترتي الواقية وسترات زملائي يمكن أن تتحوّل إلى وهم كبير. كنت أعتقد أن تلك السترة الواقية التي أنهكت ظهري ورقبتي ومعها الخوذة الثقيلة ستحميني من أي هجوم مباشر، قد تضمن لي نوعًا من الأمان. غير أني كنت مخطئة تمامًا.
كنت أحبّ أن أنظف معدّاتي الصحفية بعد كل موجة تصعيد، وأُبقيها لامعة جاهزة للجولة التالية. كنت أحب ارتداءها رغم الألم الذي كانت تسببه لي من ثقلها، كنت أشعر بالفخر والاعتداد وكثيرًا ما بدا لي أن أطفالي يشاركونني ذلك الشعور.
لكن كل شيء تغيّر في هذه الحرب.
أتذكر ذلك اليوم جيدًا، وكل يوم تبعه. مرّ الوقت ببطء خانق. كل لحظة تحمل ثقلًا لا يُحتمل. لم تكن المعاناة في الإرهاق الشديد أو الصدمة أو القلق أو حتى خطر الموت الذي لاحقني كل يوم، كنت قادرة على تحمّل كل ذلك. ما لم أستطع احتماله هو الخطر الذي كان يحيط بأحبّتي: زوجي وأطفالي. لم أسمح لنفسي يومًا أن أتخيل خسارة أحدهم، فضلًا عن أكون أنا سببًا في ذلك. كنت أُدعو كل يوم ألا أشهد تلك اللحظة.
قدمت تغطية متواصلة لوقائع الإبادة في القطاع: منازل تُقصف، أحياء تُباد، آلاف يُهجّرون قسرًا. تحدثت عن الجوع الذي يفتك بالكبار والصغار، عن العطش، عن محاولة شحن البطارية ليلاً من أجل ضوء صغير يبدد ظلام الخوف لأطفالي. كتبت عن الأمراض المنتشرة وعن الإصابات التي تمزق القلب خصوصًا لدى الأطفال.
ثم فجأة أدركت أنني لم أعد أُغطي قصص الآخرين فقط… بل صرت أُغطي معاناة عائلتي، خوفي بصفتي أُمّا، ألمي ككل الأمهات من حولي.
لكن أطفالي لم يكونوا "محظوظين" كغيرهم؛ ذلك لأني لم أستطع أن أكون بجانبهم. لطالما سيطرتْ علي رغبة بالصراخ: أنا عاجزة أمام أطفالي! لا أستطيع أن أُطعمهم ولا أن أحميهم، ولا أن أروي عطشهم! أكثر من ذلك، أنا لم أكن هناك لأحتضنهم والصواريخ تتساقط من حولهم!
لكن لم يكن بوسعي التوقف، لأنني الصحفية! لا ينبغي أن أكون أنا القصّة. فقط هذه المرة… كانت القصة عني وعن كل واحد فينا.
كنت أخرج يوميًا إلى الميدان لأُغطي الأحداث، وأُودّع أولادي وكأنها المرة الأخيرة. وكل دقيقة في اليوم كنت أرجو الله أن أعود وأجدهم أحياء سالمين.
نجوت من الموت مرات عديدة. أدركت أن سترتي الصحفية لم تعد درعًا للحماية بل علامة على أنني هدف مشروع للجيش الإسرائيلي. رأيت زملائي يُقتلون، يلاحقون، يُصابون، ويُهددون. كنا بحاجة لمعجزة يومية لنظل على قيد الحياة. تملكني الخوف ليس فقط على نفسي، فقد كان خوفي الأكبر أن أكون سببًا في إيذاء عائلتي. لم أكن لأغفر لنفسي أبدًا إن استُهدفوا بسببي. كانت الأيام ثقيلة… مُثقلة بالخوف والإرهاق والصدمات والألم والحزن. كنت أُذكّر نفسي كلما أوشكت على الانهيار أنني أؤدي واجبًا أخلاقيًا يتجاوز المهمة الوظيفية.
ليس العمل المهني هو ما دفعني للاستمرار بل ذلك الشعور بالخذلان من العالم. إحساسي العميق بأننا تُركنا وحدنا بينما العالم كله يتفرّج. رأيت العالم يتابع مسلسل حرقنا في صمت. سألت نفسي مرارًا: إن توقفت من سيتحدث؟ من سيحمل وجع الناس ويوثق حكاياتهم؟ في المقابل، لم أطلب الكثير للمساهمة في أداء ذلك، كلّ ما رجوته هو أن أشعر بشيء من الأمان، أن أوقن أن أطفالي في المنزل غير مستهدفين بسبب ما أقوم به.
نجوت من الموت مرات عديدة. أدركت أن سترتي الصحفية لم تعد درعًا للحماية بل علامة على أنني هدف مشروع للجيش الإسرائيلي. رأيت زملائي يُقتلون، يلاحقون، يُصابون، ويُهددون. كنا بحاجة لمعجزة يومية لنظل على قيد الحياة. تملكني الخوف ليس فقط على نفسي، فقد كان خوفي الأكبر أن أكون سببًا في إيذاء عائلتي.
غطيت حروبًا عديدة في غزة لكن ما نعيشه اليوم ليس حربًا… إنّها إبادة. أنا صحفية، نعم، لكني فوق ذلك وقبله أمّ وامرأة. لم يكن من السهل أبدًا التوفيق بين كوني صحفية وكوني أمًا لأطفال مذعورين، مهددين، يحتاجون فقط حضنَ أمهم كي يشعروا بالأمان. ورغم ساعات البث الطويلة شعرت دومًا أن ما أفعله غير كافٍ. ولم يكن العمل يسمح لي بالانفصال عن إحساسي بالرعب؛ فقد كنت أرى أطفالًا يُشبهون أطفالي يتعذّبون والعالم يتجاهلهم ويصمت. إنه مصير محتّم واحد.
أرهقني الوقوف أمام الكاميرا، غير أني شعرت بأن علينا الاستمرار في توثيق الإبادة، وأن على العالم أن يرى ما يحصل. أردت أن يعرفوا ماذا يعني أن يُصاب طفل أو يقتل تحت الركام، أن يفقد حياته ببطء دون قدرة على إنقاذه. أردت أن يعرفوا أن الآلاف فقدوا كل شيء وآلاف الأطفال فقدوا عائلاتهم بالكامل وأصبحوا الناجين الوحيدين.أصبحوا وحدهم وسط كل هذا الرعب الذي لا يبدو أنّ له نهاية.
كان أكثر ما تخشاه طفلتي سيرين ابنة الثمانية أعوام أن تصبح هي "ناجية وحيدة". راحت تسألني كل ليلة:
"ماما، ماذا أفعل لو سقط صاروخ عليكم جميعًا ومِتُّم وبقيت أنا أو بقيت أنا وأختي الصغيرة جوجو وحدنا؟".
أصرّت أن ننام ملتصقين من دون أي فراغات بيننا حتى إذا سقط الصاروخ نموت معًا.
لم يكن في وسعي أن أُشارك العالم مخاوف أطفالي، ولا أن أبوح بكسرة قلبي أمام الكاميرا، رغمَ أننا أيضًا قصّة ضمن القصص العديدة في واقع هذه الإبادة.
أتذكر قصة عملت عليها عن طفلة تُدعى شام. كانت الناجية الوحيدة من قصف دمّر منزلهم بالكامل. تعرضت لحروق من الدرجة الثالثة غطت معظم جسدها.
لكنها لم تطلب سوى أمر واحد: أن تعود والدتها للحياة أو أن تموت وتلتحق بهم. قالت لي وهي تبكي: "كنت نائمة في حضن أمي… غطّتني بجسدها لتحميني…"
لازمتني كلمات جوري ذات الخمس سنوات وظلت تتكرر في ذهني: "لا أريدك أن تموتي وتتركيني يا ماما".
كان أكثر ما تخشاه طفلتي سيرين ابنة الثمانية أعوام أن تصبح هي "ناجية وحيدة". راحت تسألني كل ليلة:"ماما، ماذا أفعل لو سقط صاروخ عليكم جميعًا ومِتُّم وبقيت أنا أو بقيت أنا وأختي الصغيرة جوجو وحدنا؟". أصرّت أن ننام ملتصقين من دون أي فراغات بيننا حتى إذا سقط الصاروخ نموت معًا.
كل القصص التي غطيتها لم تنفصل عن هاجسي بأسرتي وأولادي. كل القصص في غزة تتقاطع مع بعضها. كلنا محاصرون تحت الإبادة نواجه مصيرًا واحدًا.
أردت أن أصرخ: "أنا عاجزة أمام أطفالي! لم أستطع أن أحتضنهم حين سقطت الصواريخ من حولهم". لكنني لم أستطع التراجع. رحت أذكّر نفسي: حين تكونين الصحفية تكون القصة عن الآخرين لا عنك. لكن هذه المرة كانت القصة عن الجميع، عن كل واحد منا.
أغادر كل يوم نحو الميدان يلهج لساني بالدعاء: فقط أن أعود هذا اليوم لأجد أطفالي أحياء. في كل مرة شعرت أن الوداع هو الوداع الأخير. ليس ممكنًا أن أقول هذه التفاصيل الثقيلة على الهواء، ولم أستطع أن أُفصح عن وجعي مهما كان عميقًا. لكن وجع أولادي كان وجع كل أطفال غزة.
نجوت من الموت مرات عديدة. أدركت مبكرًا - وبقية الصحفيين في غزّة - أن السترة الصحفية لم تعد درعًا للحماية بل علامة على أننا أهداف للجيش الإسرائيلي. رأيت زملائي يُقتلون ويُصابون ويُهددون. كنا بحاجة لمعجزة يومية لنظل على قيد الحياة. وكنت خائفة ليس فقط على نفسي بل على من أحبهم، خائفة أن يكون وجودي بينهم سببًا في استهدافهم.
مرت علينا ثلاثة أشهر من التنقل القسري من منطقة إلى أخرى، ننتقل مذعورين وجائعين تحت النار. نزحنا ست مرات، في كل مرة نعاني نفس الرعب والذهول ولا نعتاد عليه. نقاسي نفس الفقد ونفس الألم ولا نعتاد عليه. حتى الخبز والماء لم يكن لدي "رفاهية" الوقوف في الطوابير للحصول عليهما.
رأيت ووثقت مشاهد يستحيل وصفها. بيوتا سويت بالأرض فوق ساكنيها، أطفالا يُنشلون من تحت الركام بأيدٍ عارية. رأيت أمهات يبحثن عن فلذات أكبادهن بلا صوت، بلا دمع، بلا حياة. صارت تلك المشاهد نمطًا "عاديًا" في سيرة الإبادة في غزة لكن رعب الموتِ العام لم يتغيّر. هذا الموت مرعب ولا نريده. كان مرعبًا في الأمس، في الحروب السابقة، وفي بداية الحرب وسيظل مرعبًا أبدًا.
في كل تغطية لاستهداف منزل فوق رؤوس ساكنيه أتخيل أنني أقف على نوع من المقابر لا تجده إلا في غزة، مقابر للأحياء والأموات معًا، كلهم دفنوا تحت الركام! كنت أحتفظ بكل هذا داخلي، ولم أستطع التحدث عنه لأحد. كنت أسارع لاحتضان أطفالي كل مساء، وأبحث عن قبلة من زوجي تُعيد إليّ شعور أنني ما زلت على قيد الحياة.
ووسط كل هذا الدمار والحزن والحسرة، حلّ ظلام تلك الليلة في أواخر نوفمبر/ تشرين الثاني: قصف جوي استهدف منزلًا في خانيونس. تدفّقت الجثث والمصابين إلى مجمع ناصر الطبي. حلت الفوضى، هلع عمّ النساء والأطفال، مشاهد لا تنتهي من الجروح والإصابات والدماء، تلاشى الفرق بين الأحياء والأموات.
لكن، وفي غمرة تلك المعمعة الدموية، كان هناك طفل واحد فقط تملّك كل انتباهي، كان بعمر ابني محمد الذي يبلغ من العمر أحد عشر عاماً. نزل ذلك الفتى الصغير من سيارة الإسعاف وحده يحمل حقيبة على صدره. عيناه مليئتان بالصدمة ووجهه مغطى بالغبار والجراح. تركت كل شي وركّزت نظري عليه وعلى حقيبته التي كان الدم يتسرّب منها. انتبه إلي كأنه اكتشف ما يدور في ذهني من أفكار ومشاعر. رأيته يقترب مني، وسألني بهدوء صادم: "بتعرفي شو في بها الشنطة؟" لم أستطع الرد. أحسست بقلبي يكاد يتوقف.
وضع يده على السحاب ليفتحها، فأمسكت يده بسرعة، حاولت ثنيه عن ذلك، لم أحتمل رؤية ما ظل ذهني يرفض افتراض رؤيته في الحقيبة المدماة تلك اللحظة..
قال لي بصوت خافت وهدوء مرعب: "هاد أخوي أحمد، عمره خمس سنين."
انهار كل شيء بداخلي لحظتها. وددت لو أفقد وعيي وأغيب عن الوجود، أردت أن تنشق الأرض وتبلعني أنا أيضًا.. ما هذا العالم؟! للحظات، شعرت وكأني فعلًا قد غبت عن الوعي. لم يعد بوسعي احتمال رؤية أي شيء أو الاستماع إلى أي شيء. وقفت بلا حراك. لا أعلم تمامًا كم استمرت تلك الحالة. أكانت بضع ثوان؟ أكانت دقائق كاملة؟ لا أدري.
مر من جانبي طبيب فسحبته من يده بلا وعي مني، قلت له وكأني آمره: ساعده! وأشرت الى حقيبة الصبي. فتح الطبيب الحقيبة مستعجلًا ثم صرخ مصعوقًا: "يا الله!". طلب الطبيب من بعض الأشخاص أن يُؤخذ الطفل إلى المشرحة.. حمل الأخ الصغير شقيقه ومشى بعيدًا… وأنا ما زلت متسمّرة في مكاني لا أستطيع تحويل عيني عن المشهد. لاحظته يمشي باتجاه المشرحة ثم التفت إليّ مرة أخيرة. لم أره بعدها ولم أعرف مصيره.
لم أستطع اللحاق به ولا تصويره ولا الحديث معه وسؤاله عن اسمه وعائلته. في تلك اللحظة المشؤومة لم أستجمع قواي لأكون صحفية لحظتها. أي صحافة؟ ما الذي تستطيعه الصحافة وكل المعايير المهنية والتدريبات المكثفة أمام كل هذه القسوة؟
خرجتُ من المستشفى تلك الليلة إنسانة أخرى. لم أستطع الكلام. لم أستطع الأكل لأيام، كنت أرى وجه الصبي ذاك كلّما أغمض عيني لأنام. فقدت وزني بسرعة في غضون أيام، وكدت أنسى طعم النوم منذ تلك الليلة. فقدت القدرة حتى على الابتسام مع أطفالي.. فقدت نفسي لم أعد أعرفها عجزت عن متابعة العمل، تغيبت يومين كاملين، ظللت فيهما جالسة في تلك الغرفة.. مع شعوري بالذنب الفظيع.
لمتُ نفسي أنني لم أقوَ على توثيق تلك الجريمة وقصة ذلك الصبي المفجوع.
قلت لنفسي: ربما لو أنني كنت أشجع بقليل وأنجزت تلك القصة ربما توقفت الإبادة، ربما كان سيتغير شيء ما لو رأى العالم المدى الذي وصلت إليه الجريمة الإسرائيلية. لم أتوقف عن لوم نفسي لحظة!
كانت عيناه مليئتان بالصدمة ووجهه مغطى بالغبار والجراح. تركت كل شي وركّزت نظري عليه وعلى حقيبته التي كان الدم يتسرّب منها. رأيته يقترب مني، وسألني بهدوء صادم: "بتعرفي شو في بها الشنطة؟" لم أستطع الرد. أحسست بقلبي يكاد يتوقف. وضع يده على السحاب ليفتحها، فأمسكت يده بسرعة، حاولت ثنيه عن ذلك، لم أحتمل رؤية ما ظل ذهني يرفض افتراض رؤيته في الحقيبة المدماة تلك اللحظة.. قال لي بصوت خافت وهدوء مرعب: "هاد أخوي أحمد، عمره خمس سنين".
بعد يومين فقط عدتُ للميدان من جديد. أُغطي الإبادة وكأن شيئًا لم يحدث. لم أقدر على شرح ما بداخلي. شعرت أن شيئًا فيَّ قد كُسر إلى الأبد. كنت مشلولة من الداخل، ولم أقدر على تفسير ذلك لأحد. انهارت حياتي الزوجية. وقررنا الانفصال بعد الحرب أو إذا تمكنا من المغادرة من هذا المكان أحياء.
قال لي زوجي: "أنا عارف إنك بتمرّي بشيء صعب، بس إحنا كمان!"
أردت أن أصرخ كثيرًا من شدة القهر. كنت أرى ذلك الوجه الصغير كلما نظرت في وجه أحد، ولكن لم أستطع أن أعثر على الكلمات الملائمة التي تسعفني في التعبير أو وصف ذلك المشهد.ومرت الأيام، بعضها نسرق فيه لحظات من الهدوء وأغلبها مرّ مليئا بهموم لا تنقضي ولا تنزاح عن القلب. في أواخر ديسمبر، كان والدي في القاهرة يحاول إخراجنا من غزة. كانت الإجراءات أسهل نسبيًا لي ولأولادي؛ لأننا نحمل جوازات سفر مصرية، وهو ما لم يتوفر لزوجي؛ كانت فرصة خروجه وسفره ضئيلة.
نصحني الجميع: "خذي أولادك واذهبي، أنقذيهم ولا تفكري بأحد سواهم، سيكون زوجك بخير." لكنني رفضت الفكرة تماماً! لم يكن ذلك خيارًا.. فقد تعاهدنا منذ اليوم الأول للحرب أن نموت معاً أو ننجو معاً.
بعد بضعة أيام، وصلتني رسالة من أبي: "عقدنا اتفاقاً! أسماؤكم على القائمة". بحثت… ووجدت أسماءنا. لكن اسم زوجي لم يكن موجودًا. اتصلت بأبي: "لن نسافر. لن أترك زوجي في هذا الجحيم وحده!" قال والدي: "لا تقلقي، سيسمحون له بالمرور رغم أنه ليس على القائمة". تلك الليلة كانت من أسوأ الليالي. ظل زوجي صلاح يقنعني أن أُخرج الأولاد. "فكري فيهم… مش فيّ".
جوجو ابنتي الصغيرة نامت وهي تبكي وتدعي: "يا رب، خلّي بابا ييجي معنا، ما بدي أتركه هون". وفي صباح اليوم التالي، توجّهنا إلى المعبر بخطوات ثقيلة وقلوب مفطورة. لم يكن فينا أحد سعيداً بتلك النجاة. كنا نسأل أنفسنا: هل ترانا نخون غزة؟ هل سنعود؟ هل نترك من نحب خلفنا؟
نصحني الجميع: "خذي أولادك واذهبي، أنقذيهم ولا تفكري بأحد سواهم، سيكون زوجك بخير." لكنني رفضت الفكرة تماماً! لم يكن ذلك خيارًا.. فقد تعاهدنا منذ اليوم الأول للحرب أن نموت معاً أو ننجو معاً.
تساؤلات كثيرة وشعور مثقل بالذنب والحزن والغضب من هذا العالم. لم نحمل شيئًا معنا سوى كيسين بلاستيكيين، هما كل ما تبقى من حياتنا السابقة في غزة.
في الساعة الثامنة مساء ناداني ضابط وسألني: "هل صلاح زوجك؟" أجبت بحذر: "نعم"
قال: "انتظري".
ثم بعد ساعة ناداني من جديد، وسلمني جوازاتنا المختومة.
لقد نجونا كلّنا!
خرجتُ من غزة تلك الليلة. خرجتُ مع زوجي وأطفالي الأربعة أحياء بلا إصابات. لكن غزة وما حصل فيها قبل تلك الليلة وبعدها لم يخرج منّا.
كنت أرجو أن ننجو كلّنا معًا. أن تنجو غزة وتتوقف المذبحة سريعًا. رجوت لو أنني أرجع إلى ذلك الفتى الذي كسرتني قصته. هل تراه نجا؟ أيمكن أن أعثر عليه بعد الحرب؟ أن أجلس معه وأستمع إليه؟
نحن بقينا على قيد الحياة، لكن هل ترانا نجونا حقًا؟