يعيش ما يزيد عن 2.5 مليون وافد في سلطنة عمان، ويستثني هذا الرقم أولئك العاملين بصفة غير قانونية أو ما يعرف بالعمالة غير الشرعية في البلاد. في عام 2011 أعلنت الحكومة عن خطة لتوظيف 40 ألف مواطن عماني، تبعا لإصلاحات سياسية وإدارية تلت مظاهرات في مناطق البلاد الرئيسية، لكن ذلك لم يوقف تنامي أعداد العمالة الآسيوية، لاسيما في القطاعات الإنشائية والخدمية.
المؤشرات حول جنسيات هذه العمالة متفاوتة حتى لدى الرواية الرسمية نفسها، لكن المصادر مجتمعة تشير إلى أن الجنسيات البنغالية والهندية والباكستانية والفلبينية تتصدر معدلات الجنسيات الآسيوية العاملة في البلاد. ومع هذا كله، تعزز هذه المؤشرات من التصعيد لقضية جدلية بالغة الخطورة تتلخص في قدرة الدولة على استيعاب هذه الأعداد المتزايدة من الأفراد، محققة كافة احتياجاتهم ومآربهم طيلة مدة إقامتهم، في الوقت الذي تزداد فيه التحديات المختلفة ومخاطر عدم الاندماج في المجتمعات.
لماذا إعلام الأقليات الآسيوية؟
تشير الإحصائيات الرسمية العمانية إلى أن الأقليات الوافدة -بتنوعها وتشكلاتها المختلفة- تمثل ما نسبته 45% من إجمالي السكان. وفي هذه الحالة ينبغي أن نسأل أنفسنا حقا عمّا إذا كان يتناسب وصف هؤلاء بالأقليات، طالما أن أعدادهم تقارب نصف عدد سكان البلاد، لكن الأمر ينطوي على تعددية واضحة في ثقافات ونظم عيش كل مجموعة من مجموعات هذه الأقليات على حدة، مما يشكل مبررا لاستخدام هذا المصطلح، وإن كان من قبيل وصف الظاهرة إعلاميا.
لطالما شغلتني تلك العلاقة الفاصلة بين سكان منطقة ثرية اقتصاديا وبمستويات دخل ومعيشة مرتفعة، وبين أولئك المغتربين الذين تستقبلهم مطارات بلداننا كل يوم مدفوعين برغبة العيش في ظروف اقتصادية ملائمة، وبمستويات أجور تكفل لهم الحد الأدنى من الحياة، وعبر مختلف المهن الحيوية في البلاد، كالإنشاءات الجديدة والشركات الخدمية وشركات النقل والاتصالات والقطاعات البلدية وغيرها. تشكلت هواجسي الذاتية تجاه التمثيل المعرفي والإنساني المتراكم للعمالة الآسيوية في بلداننا الخليجية بصورة عامة وفي سلطنة عمان بصورة خاصة لحظة التفكير فيما يتصل بتزايد أعداد هذه العمالة من جهة، ثم تعمقهم في حياتنا وتأثرهم بأساليب الحياة الجديدة ومواجهتهم لإشكاليات تتصل باللغة ومعطيات الاندماج.
للوهلة الأولى، يعتقد الصحفي الراغب في معالجة قضية الاندماج الثقافي للأقليات الآسيوية في عُمان بأن الأمر سيكون مدفوعا بالشهادات والقصص المتداولة حول صعوبات التأقلم في المجتمعات الجديدة وظروف العيش التي تزداد تحديا، لاسيما مع تدني مستوى الأجور مقابل ارتفاع معدلات التضخم، ولكن ما إن تبدأ رحلة البحث عن أصوات تدعم مشاهداتك وقصص تعزز رؤيتك لهذه القضية وما تراه حقيقيا لا يقبل الشك، حتى تفاجأ بدوامات الصمت التي تسكن عددا من المغتربين في البلاد. الكثيرون منهم يرفضون الحديث عن القضية بوصفها هاجسا يوميا، أعني بذلك هاجس لغتهم التي لا يشاركهم بها أحد، وهموم الحياة التي لا تجد وسيطا للظهور والكشف.. إنهم يعدون ذلك أمرا طبيعيا ونتيجة حتمية لقضية الاغتراب التي تحقق في الجانب الآخر مستوى معيشيا جيدا يختلف عن تلك الظروف المأساوية التي يواجهونها في البلد الأم.
حتى أولئك الذين يعدون أن الأمر يخرج من سياق اللغة وأدوار الإعلام في نقل ومعالجة قضايا الاغتراب في مجتمعات جديدة، يلزمون أنفسهم بالتفكير في حتمية اللغات الحالية السائدة (الإنجليزية والعربية) كوسيطين لغويين مهمين في نقل الرسالة الإعلامية.
ولكن "ينبغي أن تحظى قضايا العمالة الآسيوية هنا بالاهتمام المستمر بغض النظر عن طبيعة ونوع اللغة المستخدمة.. إن ذلك يمنحنا التفكير في إعادة النظر في صفحات الأخبار العالمية المصاغة باللغة الإنجليزية مثلا، أو تلك التي تركز على عواصم عالمية معينة مثل واشنطن ولندن ونيويورك.. أعتقد أنه يجدر بنا أن نستبدل نطاقات الاهتمام في الصحافة هنا لتشمل على سبيل المثال كوالالمبور أو نيودلهي أو جاكرتا.. هذا أمر محتمل وقابل للتطبيق عبر الإعلام.. الأمر يتعلق بطبيعة الجمهور المستهدف وفهمنا لاحتياجاته أيضا".. هكذا يشير محمد سراج الذي يعمل في قطاع التسويق والإعلانات في سلطنة عمان منذ 8 سنوات.
يتشابه رأي سراج مع رأي أوليفر آلن الذي يعمل مديرا لتحرير النسخة الإنجليزية من صحيفة "أثير" الإلكترونية العمانية، حيث يعتقد آلن أن الإعلام العماني والخليجي -على حد سواء- لا ينبغي أن يضيف لغات آسيوية إلى مجموعة منصاته وقنواته. ويقول: تؤدي الحكومة بعض الأدوار الأساسية مثل توعية المستهلكين، وتستخدم اللغة الإنجليزية بصورة جيدة وهي لغة عالمية.. يجب أن نضع في اعتبارنا أن من يأتون إلى هذه البلاد كعمال بسطاء ولا يتقنون اللغتين العربية والإنجليزية، لا يستقرون بصفة مستمرة كأولئك الذين يحملون الشهادات الأكاديمية العليا من أبناء دولتهم. وعلى أية حال، ينبغي أن يتعلم الجميع العربية أو الإنجليزية حتى نحقق اندماجهم في المجتمع، بدلا من أن يسعى أحد لتوفير وسائل إعلامية تتحدث "بلغات دخيلة".
ولكن ماذا عن الحاجات الأساسية المتصلة بتوفير المعلومات حول البلد الجديد وجهود التوعية والتعريف بالقوانين والأنظمة؟
تتحدث المصادر الحكومية بصورة مستمرة عن الأدوار الخفية لهذه العمالة في رفع معدلات الجريمة، لا سيما حوادث السرقة والابتزاز المالي والجرائم من الدرجة الأولى كالقتل والاغتصاب. وتتوسع وسائل الإعلام المحلية في الحديث عن التبعات السلبية لسكن العمالة الوافدة في أحياء يقطنها "مواطنون"، وتأثيرات ذلك على جوانب من قبيل العادات والتقاليد والقيم الأصيلة لدى المجتمع العماني، ووضوح ذلك أيضا عند الكشف عن شبكات ممارسة الدعارة في البلاد.
يشير آلن إلى أنه في هذه الحالة فقط يجب أن نلجأ إلى استخدام لغات آسيوية بصفة عاجلة، فالعمال الذين يفدون إلى البلاد يوميا يحتاجون للتعرف على القوانين والأنظمة والمكاسب الاجتماعية والسياحية والثقافية للبلاد وآلية احترامها والحفاظ عليها والتعايش معها على أساس سلمي ومنظم. في ذات السياق، يتحدث جينيش كيجي –وهو هندي مقيم في عُمان منذ عامين ويعمل في قطاع التسويق- عن ضرورة التعريف بالحقوق العمالية في بيئات العمل المختلفة، وآلية التظلم عند وقوع الانتهاكات في العمل.
تختفي معاناة العديد من المغتربين الآسيويين في البلاد نتيجة ضعف إلمامهم بحقوقهم الأساسية، أو خوفهم من الإفصاح عن أي انتهاكات تُمارس ضدهم.. يقول كيجي "ينبغي أن تكون وسائل الإعلام أكثر قربا منهم طالما أنهم يشكلون مجتمعات جديدة.. ينبغي أن تؤدي الوسائل الإعلامية دورا في التوعية وتحديث المعلومات بشأن قرارات العمل والبيئة العمالية في البلاد". ويقترح "ماذا عن تأسيس مجموعات للمغتربين من أبناء بلداننا على منصات التواصل الاجتماعي، كمجموعة متخصصة لمناقشة القضايا التي تواجهنا في عُمان على الفيسبوك؟ سيقدم البعض نصحه وتوجيهاته للتأقلم مع الحياة الجديدة وممارسة النشاطات الاجتماعية والثقافية المختلفة، وسيكشف البعض الآخر عن مشكلاته وأزماته الوظيفية.. قد نجد في هذه المنصات حلا جيدا لمعالجة التحديات التي يواجهها المغتربون هنا، وبديلا عن الدور الإعلامي المنتظر من قبل الحكومة".
الصحفيون لا يدعمون خيار الإعلام الآسيوي
بعد بحث طويل، وجدت أن قلة فقط من الصحفيين هم الذين يدعمون الأصوات المؤيدة لتشكيل إعلام آسيوي في عُمان، بينهم ديسموند بريانكا –وهو سريلانكي مقيم في عُمان منذ 3 سنوات- حيث يقول "إن تجاربنا الاجتماعية مكنتنا من التعرف على أحياء سكنية كاملة لا تتحدث سوى اللغات الآسيوية كالهندية والبلوشية في عُمان"، معتقدا أن ذلك يستدعي التفكير في وسائل إعلامية متعددة اللغات تشمل الإذاعات ومحطات التلفزة والصحف.
وحول التحديات التي يمكن أن تواجه هذا الإعلام، يعتقد بريانكا أن نقص العاملين في قطاعات العمل الإعلامي من هذه الجنسيات قد يشكل تحديا، إضافة إلى عدم تأسيس الدولة بنية تحتية تكفل الاستثمار الإعلامي بصورة عامة.
"قد تشمل اهتمامات الإعلام الآسيوي في عُمان التركيز على القضايا العمالية بوصفها قضايا مستمرة وجدلية، وينطوي على ذلك مشكلات عاملات المنازل المستمرة وحقوق العمال في المهن البسيطة، وفقدان الوظائف، وتأخير استلام الأجور، إضافة إلى معالجة القضايا الاجتماعية والدينية الناتجة عن التباين الثقافي، مثل تأسيس أماكن العبادة للديانات المختلفة، وتشريع العلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، وحرية ممارسة الطقوس الدينية" يضيف بريانكا.
يعارض أوليفر آلن هذا التصور الرامي إلى "اختراق الهوية الثقافية في المجتمع" حسب وصفه، قائلا "سوف تسمح وسائل الإعلام بتحقيق تطلعات أكبر لهذه العمالة تستهدف بناء المجتمع وتحقيق ظروف أفضل للحياة عبر تحسين العلاقة مع البلد الجديد، لكن قد يشكل ذلك خطرا على الهوية الثقافية للمجتمع، وقد يسبب انتشارا للغات دخيلة وسلوكيات قد لا يقبلها الأفراد هنا.. على سبيل المثال، قد يتعلم الأطفال هذه اللغات ويكتسبون عادات وسلوكيات غير مقبولة".
يتفق عدد من الصحفيين والعاملين في عُمان على ضرورة أن ترتبط المعالجة الإعلامية لقضايا العمالة الآسيوية بتلبية الاحتياجات الأساسية لها، بدءا من التزويد المستمر بأخبار البلاد، وحالة الطقس وحركة المرور وسوق المال والاقتصاد والتطورات اليومية، امتدادا لتشكيل مناخات جيدة للتعبير عن تطلعات هذه العمالة واحتياجاتها وإشكاليات الحياة والعمل، مما يضمن آفاقا جديدة للاتصال في المجتمع الجديد الذي يعيشونه.
إن العزلة الاجتماعية التي تشكلها هذه الفئة المتزايدة من السكان جديرة بأن تعزز القلق العام بعيدا عن إشكالية تخفي اللغات التي يتحدثون بها وسط تجمعات بشرية فقط دون بروزها على وسائل الإعلام. يقول بريانكا "تصلنا الأخبار حول بلداننا يوميا عبر الإنترنت.. ولكن ماذا عن المكان الذي نعيش فيه؟ لا مشكلة في أن تحظى الوسائل الإعلامية الآسيوية برقابة مستمرة من الحكومة، كما ينبغي أن تفرض عليها جميع ضوابط النشر لتعزيز تشكيلها كمنصات إعلامية لآلاف الآسيويين العاملين في البلاد".