نشأت الصحافة الاستقصائية في الولايات المتحدة الأميركية في بداية القرن العشرين وتدعمت بعد قضية ووترغيت التي كشفت فيها صحيفة الواشنطن بوست الأميركية سنة 1972تورط الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون في التجسس على المقر الانتخابي للحزب الديمقراطي المنافس وانتهت الحملة الصحفية باستقالة الرئيس.
ومنذ تلك اللحظة، بدأت تتطور فكرة الصحافة الاستقصائية إلى أن أصبحت عملا له أصوله وهويته ومبادؤه حتى أن أغلب الصحف الأميركية. خصصت قسما خاصا بهذا النوع الصحفي دعمته بفريق من المحررين المعروفين بمهنيتهم الذين أصبحوا اليوم مرجعا يقتدى به في العمل الاستقصائي .
الصحافة الاستقصائية عربيا.. تقليد أم ضرورة؟
قد يسعى البعض لترويج فكرة أن الصحافة الاستقصائية نموذج مقلد من الدول الغربية، وكما يقال إن من شأن المقلد أن يبقى أقل شأنا، بل صار المنتقدون ينذرون بحتمية فشلها في الدول العربية حتى قبل بدايتها الفعلية، وفسروا ذلك بأن هذا النوع من الصحافة مبني على خاصية التمرد على الأنظمة، بالإضافة إلى تدعيم الحكم الديمقراطي من خلال دور الرقيب على الحكومة والكشف عن الانحرافات. كل ذلك يحمل على الإقرار بأن الاستقصاء عمل شاق في الدول العربية التي ما زالت تتأرجح بين خطى الحكومات وسمعة الأفراد وهشاشة القوانين.
فهناك قوانين قمعية وجائرة تعرض الصحفيين للسجن مما يخلق جوا من الخوف لا يشجع على ممارسة الاستقصاء الصحفي، والحكم بأن الأمد بعيد جدا بين واقعنا العملي وبلوغ رتبة جيدة تُضاف في تاريخ الصحافة الاستقصائية القصير.
الرهان في تونس
تونس كغيرها من الدول العربية تعج بالقضايا والمشاكل التي يمكن أن تصور وتنقل فتحدث انقلابا في المعايير الصحفية التقليدية وتغييرا في المفاهيم التقليدية الراكدة وعلى مسببات الفساد ومصادر الغش والتلاعب بمصالح الجماهير.
وقد تفطّنت الجماهير إلى أن ثورة الـ14 يناير هي الفرصة الأبرز للإسراع بتبني النموذج الغربي، وهكذا افتتح تخصص ماجستير جديد داخل أسوار معهد الصحافة معني بالصحافة الاستقصائية.
يرد بعض الصحفيين نجاح بعض التجارب الاستقصائية إلى أنها محاولات فردية وتمويل ذاتي من باب الإصرار على خوض غمار هذه التجربة الجديدة، نظرا لقلة اهتمام المؤسسات الإعلامية التي تبحث عن المادة الجاهزة ويهمها الكم غالبا على حساب الجودة، والأكثر من ذلك ارتباط المؤسسات الإعلامية جلها بالحكومة وابتعادها عن المواضيع التي يمكن أن تستفز الحكومات وتثير بعض حقائق الأمور.
سنوات ما بعد الثورة غير كافية
ترى حنان زبيس، الصحفية والمدربة في الصحافة الاستقصائية، أن المنظمات في تونس والعالم العربي ساهمت بشكل كبير في نشر ثقافة الاستقصاء، لكن السنوات التي أعقبت الثورة لا يمكن أن تكون كافية لتحقيق رصيد كبير للصحافة الاستقصائية.. " هناك تحقيقات ناجحة حصدت جوائز عالمية ومجهود يذكر للصحفيين العرب، ولا ينقصنا شيء عن صحافة الغرب التي سبقتنا فقط في النشأة والمولد، ما ينقصنا خاصية وحيدة ومهمة فقط يفوقنا فيها المجتمع الفرنكفوني والأنجلوسكسوني هي أن البيئة هناك تستثمر ما توصل إليه الصحفي الاستقصائي، ففي الدول المتقدمة تؤخذ نتائج التحقيقات الاستقصائية بعين الاعتبار وتقود إلى حملات ضغط و تغيير قوانين يتخذها المجتمع ورجل القانون أداة توعية وتطوير برامج وإصلاح، أما نحن فلم نبلغ بعد هذه الخاصية المرجوة.
وتتساءل زبيس عن الفائدة التي سيجنيها صحفيون أكفاء يعرِّضون أنفسهم للمخاطر للوصول للمعلومة وكشف المخبوء، إذا لم تؤخذ نتائج تحقيقاتهم بعين الاعتبار لتكتمل بذلك بصمة الصحافة الاستقصائية الحقة وهي التغيير.
بين القوانين الموضوعة والتطبيق هوة كبيرة
وعن تجربته في الصحافة الاستقصائية، يقول معز الباي، وهو صحفي استقصائي نشرت له العديد من الأعمال الاستقصائية في موقع آخر خبر أون لاين "لم تكن البيئة وردية أمام المولود الجديد -الصحافة الاستقصائية- بل كانت تحيط بها هالة من المشاكل والخلط في المفاهيم، خاصة أن الخيط يعد رفيعا جدا بين الصحافة الاستقصائية وصحافة الفضائح، والفيصل هنا طبعا هو أخلاقيات المهنة الصحفية".
وقف الباي أمام القضاء بسبب تحقيقاته لذلك فهو وإن أشار إلى وجود قوانين جديدة تسهّل من عمل الصحفيين التونسيين، إلا أنه غير معمول بها كما يجب. ويختم بقوله "ما زلنا في تونس نعيش الحرب الباردة على الفساد، وهذه الحرب طويلة المدى ومن يراهن على محاربتها بإنجاح الصحافة الاستقصائية في تونس سيفوز".
هجرة العمل الاستقصائي
تحدثت بهيرة عوجي عن سبب تركها العمل الاستقصائي بالرغم من حماسها في أول عمل استقصائي، تروي بهيرة أن غياب مصادر التمويل الذاتي وعدم فتح المؤسسات الإعلامية المجال لممارسة العمل الاستقصائي أولى الأسباب التي تسهم في إطفاء حماس الصحفي الاستقصائي فيخور عزمه بسرعة.. "بعد الثورة، أدركنا كم أن التسوية المهنية في الصحافة متاحة لحد كبير، ونزلت الصحافة الإستقصائية بثقلها في تونس لتعكس الدور الأصل للسلطة الرابعة، وهي خدمة الصالح العام و مراقبة ما يضر بمصالح العامة، لكن سرعان ما ارتطم حماسي كصحفية ورغبتي بمواصلة العمل الاستقصائي بجدار واقع تغيب فيه القوانين والضمانات التي تحافظ حتى على سلامة الصحفي.. ولاشك أن القاعدة التي تدرس في الاستقصاء لا تترك الموضوع إلا إذا تعلق الأمر بحياتك".
وتروي بهيرة كيف تعرّضت للصد والتهديد حينما عرضت أول تحقيق استقصائي لها مدعوم بأدلة فيه بينت إلى حد كبير أن الشركات البترولية تقتل الثورة البحرية. وقد نصحها زملاؤها بترك هذا الموضوع كي لا تخسر وظيفتها وعملا بالقاعدة التي تقول إن على الصحفي ترك كل شيء إذا شعر أن حياته مهددة، مع هذا تجد بهيرة نفسها مسكونة بوسوسة الاستقصاء.. وتضيف "هذا هو حاضر الصحافة الاستقصائية، أما المستقبل فمرهون بتغير القوانين والتشريعات وتعزيز الضمانات".
التدريب.. نصف القصيد
تحدث كمال الشارني، وهو أكاديمي ومدرب استقصائي، عن تجربته في الصحافة الاستقصائية منذ العام 1989، وعن واقع الاستقصاء في تونس الذي شهد طفرة بعد دخول مؤسسات ومنظمات دولية على الخط تعنى بتدريب وإعادة تأصيل الفكرة الصحيحة حول مفهوم الاستقصاء وبيئة ممارسته.. "بالرغم من معرفتنا للصحافة الاستقصائية، إلا أننا لم نتبن في تونس هذا الاختراع الجديد إلا بعد الثورة، فمؤكد أن حجم حرية الصحافة والموروث المهني للصحافة في تونس لم يتضمن صورة واضحة المعالم للصحافة الاستقصائية. ففي البداية كانت المنظومة السياسية منظومة الزعيم الأوحد الذي فرض الحزب الأوحد وكذلك الفكر الأوحد. لذلك كان مفهوم الصحافة تقليديا وواحد. وبعد سياسة بورقيبة، جاء نظام بن علي الذي أصبحت فيه حرية الصحافة ملفا في درج وزارة الداخلية وحصلت العلاقة السلبية بين الصحافة والتعامل الأمني إلى حين بدأت المرحلة الجديدة، من رد الحريات وإعادة حرية الصحافة. حاولنا آنذاك إعادة اختراع الصحافة من جديد في البيئة الجديدة بعيدا عن التضييقات، لكن للأسف اكتشفنا عقبة أخرى وهي أن المؤسسات الإعلامية ما زالت لم تستوعب بعد، ولم تكن لها الحماسة حد اللحظة لممارسة العمل الاستقصائي. وربما يعود ذلك طبعا لما خلفه الموروث المفهوماتي للعمل الصحفي باحتكار الصحافة التقليدية البيئية أو المصالح التي تربط هذه الأطراف برؤوس الأموال والخوف من خسارة الممول. والمعادلة هنا صعبة، فإن كانت المؤسسات خاصة فلا شك أن لمالكيها مصالح وتحالفات ربما مع المال الفاسد. وإن كانت مؤسسات عمومية طبعا سترفض لأنها لا تقبل الدخول تحت سقف يمكن أن يضرب مصالح الدولة مباشرة أو يكشف شيئا يمكن أن يؤثر على الأنظمة القائمة التي تظللها".
وكمدرب يحمل رسالة واضحة يخاطب بها أجيال الصحفيين القادمة التي ستختار نهج منهج العمل الاستقصائي، يقول الشارني.. "في تونس وبالرغم من أننا لم نبلغ منتهى النجاح، إلا أننا قطعنا أشواطا جيدة من خلال دخول منظمات دولية على الخط للتعريف بقيمة الصحافة الاستقصائية ودورها في التغيير، بالإضافة أيضا إلى المبادرات الفردية والوحدة الاستقصائية في وكالة تونس أفريقيا للأنباء، منطمة أنا يقظ، وموقع نواة التونسي. بالنسبة للعالم العربي، هناك دول مثل ليبيا أو اليمن ما زالت بعيدة حتى عن حرية الصحافة والطريق أمامها طويلة لتكريس الصحافة الاستقصائية لذلك بالنسبة لنا كمدربين نقول إن التدريب هو نصف المقصد، لكن الممارسة هي الأهم، فإذا لم يجد الصحفي الذي يتدرب بيئة لترجمة شغفه وقدراته فهذا نصف العمل وليس كله".
ورغم كل هذه العوائق الكثيرة، تظل الصحافة الاستقصائية من أهم الفئات المهنية الإعلامية وأكثرها تحديا، فهي التي تحدد قوة ومكانة الإعلام في أي مجتمع، كما تجسد ما وصلت إليه ديمقراطية ذاك البلد. فإن كان حاضرها في العالم العربي يعكس عدم بلوغ المستوى المطلوب الذي بلغته الدول الغربية التي أسقطت أنظمة وأقالت وزراء وساندت قضايا عدة، فأين يمكن أن ترسي قافلة مستقبلها في بلادنا العربية؟