"أقوى شيء في الكون كله، أقوى من الجيوش، وأقوى من القوة المجتمعة للعالم بأسره، هي فكرة آن أوان خروجها إلى النور".
فيكتور هوجو
خلال عملية نقاش وفي "تواردِ خواطر"، طرح زميل لي فكرة كنت قد تحدثتُ بشأنها، كمقترحٍ لمشروع فيلم خاص ببرنامج "الصندوق الأسود"، إلا أن السؤال حينها كانَ يلحُّ: ما الجديد الذي يمكن أن نقدمهُ؟، فالشخصية التي سيتناولها الفيلم مشهورة، كُتبَ عنها الكثير في الصحافة، وألِّفَ بشأنها، وبشأن التنظيم الذي تزعمته الكثير أيضاً.
علاوة على ذلك؛ فقد قُتلت تلك الشخصية عام 2002 في ظروفٍ غامضة، ونحنُ طرحنا الفكرة في العام 2014، فثمة فارق زمني كبير قد يجعل من فتح هذا الملف مثاراً للتساؤل.. لماذا الآن؟
وفي ضوء هذه الأسئلة التي تستقصي عن الجديد وتبحثُ عن التوقيت لطرح هذه الفكرة، جاءت الإجابة، إذ اقترحتُ أن نقدِّمُ معالجةً لتطوير مسار الفكرة، تستندُ إلى سؤالٍ حول "مآل التنظيم الذي تزعمته هذه الشخصية الجدلية"؛ "هل ما زالَ قائماً أم اندثر؟". ويشتق من هذا السؤال تساؤلات أخرى: "أين ذهبت خبرات التنظيم في المجالين الحزبي، والأمني؟"، و"هل للتنظيم علاقة بجماعات العنف اليوم؟"، و"ما مصيرُ أموالهِ؟"، و"هل ثمةَ تقديرات لحجمها؟".
تعكسُ هذه الأسئلة، جدلية الفكرة، وكيف يمكن أن تتطور في ضوء الإجابات والبحث.
وفي المقابل، ثمةَ أفكار تمتلك الجاذبية، إلا أنها ترفضُ؛ إذ لا يكفي طرحها للقبول بها، وإنما هنالك حاجةٌ إلى تطويرها والوصول بها إلى مرحلةٍ من النضج والوضوح. ورغم ذلك فقد ترفضُ لأسبابٍ أخرى تتعلقُ بالتكلفةِ مثلاً، أو بطبيعة المعالجة الفنية.
حائط صدِّ للأفكار
لا يعني أن تمتلك فكرةً، وإن كانت رائدةً أو مبتكرةً أو غير مسبوقةٍ، أن الطريق أمامكَ مفروشةٌ بالورود، وأن تنفيذها إلى مشروع وثائقي "قابَ قوسينِ أو أدنى" من التحقق.
عام 2010 طرحتُ فكرة فيلم وثائقي عن "ظاهر العمر الزيداني.. شيخ الجليل"، على شركة عربية رائدةٍ في الإنتاج الإعلامي، وقد اعتذرت الشركة، وما زلتُ أحتفظُ بردها إلى اليوم.
وقد كانت أسباب الرفض تعود إلى أن هذه الفكرة تنتمي إلى نمط إنتاج مكلف (ديكودراما)، وتحتاج بالتالي "للكثير من التفاصيل والميزانيات".
بعدَ ذلك، طرحتُ فكرةً أخرى غير مطروقة على نفس الشركة واعتذرت لأن "التصوير سيكون في أكثر من بلد؛ في فلسطين ومصر ولبنان والأردن والكويت.. وهذا يمثل كلفة طائلة، وثمة مسألة أخرى تتعلق بحقوق "ملكية الأرشيف"، إذ "من الصعب جدا الحصول على حقوقها وعرض لقطات منها؛ أولا لعدم معرفة من صاحب هذه الحقوق كي نأخذ موافقته"، و"ثانيا بعض الحقوق قد تكون مكلفة في حال شرائها".
هذه بعض التحديات التي قد تواجه "صانع الأفكار" في تعاملهِ مع شركات الإنتاج، أو لنقل "حائط صد" قد يقف في طريقه، لكن رغمَ ذلك فالمهمة ليست مستحيلة. فالفكرة الأولى، تم إنتاجها من قبل "الجزيرة الوثائقية" عام 2013.. فكرة إياد برغوثي، وإخراج رامز قزموز. والفكرة الثانية، يتم العمل على إنتاجها منذ عام ونصف.. ولأنها لم تصل إلى مرحلة الإنتاج النهائي والتسليم ومن ثم العرض، فإني أفضِّل عدم ذكرها.
ما أود قوله انطلاقا من هذه التجربة، أن طرح الفكرة بعد بلورتها في مشروع، أو تقديمها في ملخص، يُفترض ألا يتوقف عند ردِّ شركةٍ واحدة؛ فلا بأس من المحاولة، كما أن الرفض الأول لها لا يعني أن هذا المشروع غير قابل للإنتاج، مهما كانت الأسباب، إلا في حالةٍ واحدةٍ، أن تكون الفكرة مستهلكةً ودارجةً.
جنة وجحيم الأفكار
ما كتب حول "الفكرة" و"تطويرها"، عربيا، يكاد أن يكون نادرا إن لم يكن معدوما، وكثيراً ما تذكر الفكرة بسطرٍ، أو أقل، باعتبار أنها "تحصيل حاصل"، أو كما قال الجاحظ فهي "ملقاةٌ على قارعة الطريق". ويحدثُ أحياناً، ومن باب النكايةِ، أن يلمزَ أحدهم ضدَّ مخرج أو منتج فيلمٍ، أن هذه الفكرة "موجودة"، وكأنهُ يقول: لم تأتِ بجديد!.
ورغم هذه الصورة النمطية، فإن "الأفكار هي الجنة، والجحيم هو إخراجها"، كما يرى الشاعر والكاتب المسرحي البلجيكي موريس مترلينك، وليس أدلُّ على أهمية الفكرة، ومشتقاتها، من ربطِ الفيلسوف رينيه ديكارت الوجود بها، حينما قال "أنا أفكر، إذاً أنا موجود"، لكن هذه القناعة ليست راسخةً بما يكفي لدى شركات الإنتاج التلفزيوني، فثمة حاجةٌ ملحةٌ لأن تكون هنالك "وحدةٌ لتطوير الأفكار"، لا أن تكون مجرد "تحصيل حاصل" لإنتاج أي فيلم وثائقي، أو عمل فني.
تولدُ الفكرةُ نتيجةَ انشغالٍ داخليٍّ حول قضيةٍ ما، أو عبر التقاطِ العين لملاحظةٍ ما، بيدَ أن هذه الولادة لا تكفي للإقرارِ بها، فثمةَ حاجةٌ إلى تطويرها، لاسيما إن كانت مطروقة من قبل في مدونة الأفلام الوثائقية.
تسبقُ الفكرةُ كلَّ شيء؛ فهي التكوين الأول الذي سيتوسعُ لاحقاً ضمن مجموعةِ عمليات، ستنتهي بطبيعة الحال إلى معالجةِ المحتوى وترجمته إلى تصور فني؛ الأمر الذي يعني أن فكرةً مبتورة أو ناقصة ستؤدي بطبيعة الحال إلى إنتاج ضعيف أو دونَ المستوى المأمول لأنه ارتكزَ على أساسٍ هش، والأصل أن تكون الفكرة منذُ اقتناصها قد تبلورت، وعولجت بشكل متقن وطُوِّرت بشكل يعكسُ تكاملها وصياغتها بإتقان.
ويتضح من واقع التجربة، أن الأفكار تنقسمُ إلى قسمين؛ فهي إما أن تكون مبتكرة، وغير مسبوقة، وهذا يتطلب في حال الوصول إليها، الإمساك بها جيِّداً، ومعالجتها برؤية تليقُ بتفردها، وتميُّزها، وإما أن تكون أفكارا سائدة، ومطروقة، ولهذه متطلبات مختلفة، وملخصات الأفكار تقع في ثلاث نماذج؛ موجزة، ومتوسطة، وطويلة.
وللفكرةِ هيكلٌ يُبنى عليه المشروع؛ العنوان الواضح المعبر عنها، والعناوين الفرعية الدالة، والمضمون الذي يكتبُ حولها يجب أن يتسم بالتسلسل والتناسق، وأن تكون عناصر القصة الرئيسية حاضرة، وغير منقوصةٍ، والأهم من ذلك.. قابليةُ التنفيذ بصريًّا، وإمكانية انتقال تلك "الخاطرة" من الذهن إلى التنفيذ عبر عين الكاميرا.
صائد الأفكار المبتكرة
ومن أجل الوصول إلى الأفكار المبتكرة، فمن الضروري، أن يكون لدى "صائد الأفكار" قدرةً بحثيةً عالية على التنقيب في مختلف المصادر عما هو مختلف عن السائد والمألوف وقوَّة ملاحظة، وعين تتقن قراءة ما بين السطور وما وراء الخبر، وتكرار القراءة لأكثر من مرة، لتفحص النص/الوثيقة عبر أكثر من زاوية. وينسحب ذلك أيضاً على متابعة ما توفرهُ الإذاعة والتلفزيون ووسائط الإعلام الجديد من مستجدات وأخبار وتقارير.
ومن المهم أن يتتبع "صائد الأفكار" تفاصيل الحياة اليومية في مجتمعهِ، أو المجتمعات المستهدفة بالبحث والدراسة من قبله، يضاف إلى ما سبق إلمامهِ بما أنتجَ في السوق من أفلام وثائقية، وحتى تقارير تلفزيونية كي لا يكرر القديم.
ولأن أي فكرة، تكون نتاج انشغال داخلي حول قضيةٍ ما، هي في الأصل محطَّ اهتمامِ الرأي العام أو التقاط العين لملاحظةٍ ما في المجتمع أو الحياة، فإن عرض الفكرة على المحيط الاجتماعي المُقَرَّب في العائلة أو الأصدقاء يكونُ مُهمًّا؛ لأنكَ في هذه الحالة تقيسُ مدى التجاوب معها أو الاهتمام بها آخذاً بعين الاعتبار أن "المجاملات" في هذه الحالة، تضرُّ ولا تنفع.
وفي حال لم نصل إلى فكرة مبتكرة كما نطمح، فما الذي يمكننا القيام به حيال السائد من الأفكار؟
معالجة الفكرة الدارجة أو السائدة برؤية جديدة ومبتكرة، يؤثثها بالضرورةِ لأن تكون نواةً لعمليةِ إنتاج فيلم وثائقيٍّ مختلفٍ ومتميزٍ؛ إذ أن إنتاج القديم كما هو، سيجعل من الفكرة في هذه الحالة "تحصيلا حاصلا"، ليس أكثر.
لا تستعجل في الصياغة
يخطِئ البعض في استعجال صياغة الفكرة، فيلجأ في سبيل ذلك، إلى "النسخ واللصق"، مما يوفرهُ محرك البحث في الإنترنت (غوغل)، الأمر الذي يجعل من "مشروع الفكرة" ضمن تلك الصياغةِ ركيكاً في المبنى والمعنى، يستند إلى محتوى إلكتروني عام، ويفتقرُ إلى خصوصية التكوين؛ إذ ينصحُ في أعقاب التقاط الفكرة، التفكير بها على نحوٍ يشبهُ "الطهي على نارٍ هادئة"، وذلك بالإجابةِ عن الأسئلة التالية؛ هل هي مبتكرة؟، وإن كانت سائدة.. فما الجديد الذي سأقدمهُ؟، هل تثير اهتمام الجمهور؟، ما هي أكثر جوانب الفكرة جاذبية؟، وهل ترتبط بواقعنا اليوم، أم لا؟، لماذا هذه الفكرة بالذات؟.
لا بأس في أخذ استراحةٍ، تكونُ فاصلاً لتجديد مساجلة الفكرة لاحقا، لكن من المهم أثناء الانشغال الداخلي بتلك الأسئلة، تدوين النقاط الناتجة عنها، وما قد تثيرهُ من استنتاجات، أو ما قد يتقدُ في الذهن، نتيجة "العصف الذاتي"، ومن ثم الاحتفاظ بما سبق، تمهيداً لجمع شتات تلك النقاط أو الخطوط العريضة لصياغتها في المشروع.
ربما لا تكون تلك الصياغة، بعد معاينة الفكرة ذاتيا، نهائية؛ إذ يلزمُ بالضرورةِ، قراءة ما يتعلق بالفكرة من مصادر متعددة، وقد يتطلب الأمر، البحث الأولي، وما يحتاجهُ من اتصالات مع المعنيين مباشرةً للإستئناسِ برأيهم، وذلك بهدفِ إضاءةِ مناطق معتمةٍ، لم نصل إليها، لعدم الاختصاص في الموضوع الذي نعمل على تكوينه.
صياغة مشروع الفكرة كمقترح، يتطلبُ ابتداءاً، مهارةً في ترتيب وتبويب مكونات المشروع؛ إذ ننطلق عادةً من الجديد، والمتميز في هذه الفكرة، وأهميتها، وفرادتها – إن كانت مبتكرة –، أو ما سنضيفهُ للمشاهد – إن كانت سائدة –، ثم تأخذ عملية الصياغة سياقها في البناء، شريطة الانتباه إلى التسلسل والتناسق في العرض، وسبك نص المشروع على نحوٍ يخلو من نقصٍ قد يثير التساؤل حول غياب هذا الجانب، أو ذاك.
وبما أننا نتحدث هنا عن "فكرة لفيلم وثائقي"، من المستحسن أن يؤثث المشروع بمفردات تجعل "الفكرة مرئية"، تصاغ فيها الكلمات بالصور، والوصف للبيئة المكانية – دون إسهاب، وإنما وضع الجهة المعنية بالفكرة، في إطار تصور مرئي، يسهم في تفاعلها، وتجاوبها، بشكل أفضل مع المقترح.
ولا ننسى أثناء الصياغة، مراجعة مسودة المشروع من حين لآخر خلال الكتابة، لضمان عدم التكرار ولحذف الكلام الزائد الإنشائي، ولزيادة ما يلزم من معلومات قد تسقط سهواً خلال الكتابة، وهذا يعني أن هذه المسودة، يجب أن تقرأ أكثر من مرَّة.
جلسات العصف الذهني
الخروج بأفكار جديدة يتطلب تغيير "التكتيك"؛ إذ من المهم أن تشهد شركات الإنتاج التلفزيوني من وقت لآخر جلسات "عصف ذهني"، تشبه تماماً ما يحدث في الدراما، عندما تُنظم ورشات لكتابة القصة، وتطويرها بين فريق العمل، فتكون الخلاصة، خطوطا عريضة، وأفكار جديدة، يعمل كاتب واحد، أو أكثر على ترجمتها وصياغتها في سيناريو سيتحول لاحقاً إلى فيلم روائي أو مسلسل تلفزيوني.
جلسات "العصف الذهني" بدأت تاريخيًّا عام 1939م، عندما سعى الباحث أليكس أوزبورن إلى كسر القالب النمطي للحملات الإعلانية، فوجد أن هذه الجلسات أكثر "كفاءة من العمل الفردي لإنتاج الأفكار".. وهي فرضية عارضها آخرون.
يحدد أوزبورن قواعد ذهبية لجلسات العصف الذهني، يتقدمها "منع النقد"، ويوصي بالتوسع في إضافة الأفكار وترك النقد لمرحلة لاحقة يتطلبها، ويشدد على أهمية الترحيب بالأفكار "غير الاعتيادية"، وضرورة تطويرها خلال النقاش.
في الفيلم الوثائقي، ثمة ضوابط خاصة تحدد مسار جلسات النقاش، فلا مجال لتغيير الواقع بالخيال، وإن سمح أحياناً بوجود "خيط درامي" لتعزيز جمالية الفيلم أو لكسر رتابة العرض؛ فإن مناقشة الفكرة وتداولها بين المعد والباحث والمخرج و"مسؤول تطوير الأفكار" –إن وجد– تعملُ على إشباعها بحثاً، كلٌّ وتخصصه ورؤيته ومقاربته للمسألة، فـ"عينان ترى أفضل من عين واحدة"، كما يقول المثل الإنجليزي.