أهمل مخرجٌ النظر فيما قدمتُ إليه حول فيلم وثائقي، فراجعتُه بعد أن أصابني الملل من الانتظار. ولأننا محكومون بالوقتِ وليس بـ"الأمل" كما يرى الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، فقد ألححت على زميلي المخرج وضع ملاحظاته – إن وجدت – حول البحث والإعداد، للأخذ بها وتعديلها أو مناقشتها، إلا أنه تأخر رغم متابعتي وتوصيتي بضرورة إنجاز المطلوب. وبعدَ جهدِ جهيد، فسَّر صاحبي الماء بالماء؛ إذ وضعَ ملاحظات تشير إلى أنه لم يقرأ المادة المقدمة إليه أصلاً.
هذه القصة استثناء لم يتكرر طوال فترة عملي حتى اليوم، ولم ألتقِ بهذا المخرج في أي عمل آخر، ورغم عدم أخذي بهذه التجربة، إلا أنها تؤشرُ على وجودِ هذا الصنف من المخرجين.
علاقة تكاملية.. خطوة بخطوة
علاقة المخرج مع الباحث تكاملية، إذ نجدُ على الضفة الأخرى، مخرجٌ لا يقبلُ "ترك الحابل على الغارب"؛ أي "اذهب أيها الباحث أنى شئت إني ها هنا بانتظارك"/ وإنما يشاركهُ "خطوةً بخطوة"، أينَ وصل، وماذا فعل؟ ومن ثم يقدم ملاحظاته أثناء هذه الفترة لضبط مسار العمل في إطاره الصحيح وفق رؤيته، من تعديلات وإضافات وحذف، الأمر الذي من شأنه اعتماد البحث والإعداد في وقت مبكرٍ، ما يعني جهدا ووقتا وتكلفة أقل.
أذكرُ هنا تجربة على سبيل المثال، حين بدأنا في شركة "نون فيلمز" العمل لإنتاج فيلم وثائقي حول كتاب سياسي/معرفي لبرنامج "خارج النص" (الحلقة لم تبث بعد)، أن طريقة العمل في هذا النمط مختلفةٌ عن تجاربي السابقة في برامج "تحت المجهر"، و"فلسطين تحت المجهر"، و"الطلبة والسياسة"، و"زمام المبادرة"، و"مكان من وطني"، و"حروب سلمية"، ولاحقا في "الصندوق الأسود"، و"تحقيق خاص"، و"كاميرا ومدينة"، و"للقصة بقية"، إذ أن البرامج المذكورة لا تناقشُ كتاباً، وإنما قضية محددة، وما يتفرعُ عنها من موضوعات ذات صلة، فيما الكتابُ قد يتضمنُ في فصولهِ قضايا وأطروحات متعددة، قد تصل حد التناقض.
قرأت الكتاب، وجزَّأتهُ إلى أربعة أقسام وفق فصولهِ، وبدأتُ في وضع الملخصات، واختيار الاقتباسات الخاصة بكل فصل، ومن ثم انتقاء الأكثر قوة وجدلا في الأطروحات، واستثناء المكرر. وقد أفادني كثيراً بعد ذلك، أثناء البحث والإعداد، النقاشات المتواصلة مع مخرجة العمل إيمان بن حسين، فعلاوة على كونها أخرجت من قبل فيلما في هذه السلسلة، فهي أيضاً اتبعت سياسة "خطوة بخطوة"، من حيث اعتماد الاقتباسات، ونوعية الضيوف، وأماكن التصوير، والاتفاق على زاوية المعالجة، الأمر الذي اختصر علينا كفريق عمل الجهد والوقت، ليكون البحث والإعداد، وفيما بعد الإنتاج، في نطاق واضح ومحدد.
لم يكن مستساغاً استنساخ تجارب لحلقات سابقة في برنامج "خارج النص"، هذا ما توصلتُ إليه، وتأكدت أن كل الطرق لا تؤدي إلى روما بالضرورة؛ فالكتاب هنا يفرضُ بمحتواهُ طبيعة الإنتاج، وكيفية البحث والإعداد، وفوق ذلك، لكل كتابٍ هويتهُ الخاصة المغايرة التي تميزهُ عن غيرهِ من الكتب، و"المقارنة لا تجوز إلا بين شبيهين".
الحد الأدنى.. الحد الأقصى
ضمن الحد الأدنى من الإبداع، أجد أن على المخرج كسر تكتيكاته المتبعة من فيلم إلى آخر، فاستنساخ ذات خطواته في كل مرة من شأنه تنميط أعماله، فتبدو وكأنها حلقة واحدة مكررة رغم اختلاف الموضوعات.
المطلوب هنا الخروج عن القالب فقط، وليس الذهاب بعيدا في التفكير "خارج الصندوق"، الذي إن تحقق، يكون قد ترك لنفسه بصمة تميزه، وتعلي من شأن عمله.
الكلام يشمل أيضا الباحث، الذي بيدهِ – "لا بيدِ عمرو" المخرج – إيجاد زوايا جديدة ومغايرة عن المتداول في موضوع مشروع الفيلم، أو البحث عن إضافات مختلفة عن السائد المتصور، الباحث/المعد هنا، نقطة ارتكاز وبداية مهمة جدا في بناء الفيلم لاحقا، ومن شأن ضعفه أن ينعكس فيما بعد على المحتوى.
استنساخ التجارب السابقة في العمل، توفيرا للوقت والجهد، تعدُ مشكلة تحول دون الإبداع لدى المخرج أو الباحث، حين يبرمج نفسهُ ليعمل بشكلٍ تلقائيٍّ وفق تجاربهِ، إذ يمكنه الاستفادة من هذا المخزون، على أن يطوعه في سياق عملهِ، دون استنساخه.
ولحل إشكال الاستنساخ، يفضل أن ينطلق المخرج/الباحث من كون هذا العمل الجديد له فضاء مختلف، وخصوصية قد تتعارض مع تجاربه السابقة؛ فلكل تجربةٍ خصوصيتها وأدواتها، الأمر الذي يتطلب أحيانا تجديد أدوات العمل، والاستزادة من حقل المعرفة العلمية وليس النظرية فقط، والاضطلاع معرفيا وبصريا، على تجارب الآخرين في الإنتاج، مع ضرورة مراعاة الهوية والبصمة التي يتفرد بها المخرج/الباحث، كي لا يكونُ العمل اقتباساً، أو اقتفاءً لأثر الآخرين، وترجمة له.
ولأن الصورة على هذا النحو، أتعامل مع أي وثائقي جديدٍ بآلية تفكير مختلفة، أبحث خلالها عن زاوية مغايرة للمعالجة والمتابعة أو الانطلاق في البحث من نقطة غير مستنسخة؛ فلكل فيلم نكهة تختلف عن غيره من أفلام السلسلة الواحدة، مع الالتزام بالإطار العام ومحدداته، فكيف يكون الأمر عند مقارنة فيلم مستقل بآخر، أو بين مُنتجين من سلسلتين مختلفتين؟
في سلسلة "كاميرا ومدينة"، عملتُ في ثلاثية "سلطنة عُمان"، إخراج عايد نبعة، ومع المُنتج إيهاب خمايسة وإنتاج شركة "طيف". كنت في تجربةٍ مختلفةٍ، إذ لم يتقيد المخرج بمادة البحث والإعداد، المنجزة بالاتفاق والتنسيق معه، ولم يقف عند عتبات ما قدمتهُ من قصص ومعلومات، وإنما صهر ذلك كلهُ في بوتقةٍ واحدة ضمن ما يطلق عليه "الفيلم الوثائقي الإبداعي"، موظفا بذلك جماليات الطبيعة العُمانية الساحرة والمتنوعة بصريا، للخروج من طابع العرض الكلاسيكي والتقليدي للمكان.
عَمِدَ المخرج هنا – في حديثٍ لكاتب هذه السطور – إلى "إعادة إنتاج اللحظة، والتقاطها ضمن لقطة مرسومة، وحوار شبه متفق عليه، هو ليس نصا مكتوبا، بل على العكس؛ يعتمد على تلقائية الضيوف، ولكنه يصور ويقطع بطريقة الفيلم الروائي، الأمر الذي يخدم النصوص التي تقال، ويضعها في حالة من الديناميكية البصرية لتصل للمشاهد، وتخدم عملية التلقّي، فيمكن القول إن هذا العمل الوثائقي جاء في سياق درامي".
لا قوالب ثابتة
من تجارب متباينة ومختلفة، ليس ثمة مسطرة واحدة يمكن وضع عمليات البحث والإعداد التلفزيوني عليها، لنكون أمام "قالبٍ ثابتٍ"، ما يجعل من العمل في هذا الحقل يتباين حسب الشركة المُنتجة من جانب، وطبيعة الفيلم المراد إنتاجهُ، أو محتوى البرنامج ومواصفاته المحددة ضمن سياسة التحرير لهذه القناة أو تلك، والأهم من ذلك.. فريق العمل وخبرته.
بعض المؤلفات والمقالات وآراء صانعي الأفلام، تضع عمل الباحث والمعد ضمن إطار محدد، وفي أحسن الأحوال "خيارات محددة"، لنكون أمام طريقٍ إلزاميّ قد "لا تقود إلى روما"، وقد يكون في هذا الطريق المتبع الذي يصل إلى النتيجة المطلوبة، اختصاراً مُخلاً للعمل، ولا يقدم الأفضل.
تختلف آليات العمل (الطرق) من شركةٍ إلى أخرى، وأذكر هنا أن فيلما وثائقيًّا تاريخيا ومعاصراً حول القدس من جزأين، لم تطلب مني الشركة المنتجة له بحثاً، وإنما "إعداد الأسئلة" واختيار الضيوف والحضور أثناء التصوير، مقابل أفلام أخرى عملت خلالها كباحثٍ معد عن القدس وعكا والناصرة ونابلس، طلبت الشركة المنتجة جمع القصص والأرشيف المقترح والمعلومات والشخصيات وأماكن التصوير وأخذ الموافقات على الظهور.. إلخ.
أعتقد أن وظيفة الباحث والمعد تتجاوز مربع جمع المعلومات/القصص وإعداد الأسئلة، لدرجة أن بعض الشركات تُلحق في اتفاقية التعاقد مع الباحث كتابة التعليق والرؤية أو السيناريو الأولي، أو تقديم معالجة للموضوع (تحريرية)، علاوة على ترتيب مواعيد التصوير مع الضيوف، وتحديد وجمع الأرشيف، ووضع تصور للمخرج، أو تقديم تصور حول المعادل البصري، أو تفريغ المقابلات لاحقا. وثمة من يكتفي بعمل محدد يتعلق بتحديد الضيوف فقط مع كتابة الأسئلة الخاصة في المقابلات، وحضورها أحياناً، ما يعني أن العمل هنا يقتصر على الإعداد فقط دون البحث.
يضاف إلى ذلك أن معد البرامج يُطالب باختيار أفضل الضيوف، وتحديد بعض المداخلات من المختصين، وتحضير المحاور والأسئلة، الأمر الذي يتطلب من الباحث والمعد امتلاك مرونة عالية في العمل، وقدرة على تنفيذ هذه المتطلبات.
وفي السياق؛ يذهب بعض الباحثين نحو مساحات عمل جديدة، عند امتلاكهِ لخبرة أوسع في هذا المجال؛ صياغة الأفكار وتطويرها، وأحياناً ابتكارها، ووضع معالجة أولية لها، وتقديمها ضمن مشروع عمل. وذلك نطاق عمل مختلف نوعا ما، ويحتاج إلى مواصفات خاصة، لذا نجد أن بعض شركات الإنتاج الإعلامي، تُضمن في موقعها الإلكتروني، باباً خاصا بتقديم الأفكار والمقترحات المتعلقة بمشاريع الأفلام والبرامج، تحدد خلالها ضوابط العلاقة مع مقدم الفكرة/المقترح، بما يشمل حقوق وواجبات الطرفين (الأول والثاني)، والآلية الممكنة، أو المقترحة للتنفيذ.
الباحث والمعد.. الصحفي
أعتقدُ أن الصحفي الأكثر تأهيلاً للعمل كباحث ومعد في البرامج التلفزيونية والأفلام الوثائقية، ويرجحُ لدي أنه الأكثر قدرة للعمل في هذا المجال، إن امتلك ميزات إضافية كوجود إمكانيات له في البحث الأكاديمي، أو امتلاكه خلفية أكاديمية تُعلي من شأن البحث العلمي.
يأتي ذلك الاعتقاد، انطلاقا من طبيعة عمل الصحفي اليومي، واشتباكه اللحظي مع أحداث المجتمع، وفعاليات ونشاطات المؤسسات المختلفة (الخاصة والحكومية)، وتطورا الحالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مختلف المستويات المحلية والإقليمية والدولية، علاوة على وضعه رؤية لمعالجة هذه الحيثيات، وزاوية تناولها، والمفاضلة بينها من حيث الأهمية، ليحدد بذلك أولويات النشر، وتضمين أي تطور جديد في السياق؛ إنه باختصار يمتلك عقلا مدرّبا قادرا على التعامل مع الأحداث والقضايا.
وبناء على ذلك، يكون الصحفي أقرب إلى صدى المجتمع واهتماماته وتطلعاته، ما يكسبهُ مع الوقت عدة أدوات منها، الرصد والقياس والملاحظة، والقدرة على التحقق من المعلومات، وسرعته في بناء شبكة علاقاته وقاعدة بياناته بشكل أكثر تنظيما، ما يعني أن معالجته لموضوعات الفيلم الوثائقي، خلال "البحث والإعداد"، وبعد تمكنهِ من هذا المجال، تكون مبتكرة ومطورة وذات رؤية.
يمكن للصحفي أن يستفيد من طريقة عملهِ اليومية، في التحرير تحديداً، للتعامل مع الفيلم الوثائقي انطلاقاً من تقسيم "المادة البحثية"، وبناء وترتيب المحتوى، على نحوٍ يشبهُ "التقرير"، و"التحقيق"، وضرورة حذف الزوائد وتوفير البدائل والمصادر المختلفة في المرحلة الأولية، وتخطيط المادة (التقرير، التحقيق)، وإخراجها تحريريا لتكون في شكلها النهائي، وتوظيف ذلك كله في التفكير خلال البحث والإعداد، في ترتيب وتسلسل المعلومات وتبويبها، وسد النقص عبر جمع مختلف الآراء وما يلزم من أرشيف، والتقيد بزاوية محددة للمعالجة، أكانت مقرة مسبقاً، أو متفقا عليها، ويمكنهُ إن لم تكن موجودة، اقتراحها على المنتج، أو المخرج.
ورغمَ أهمية عمل الصحفي كباحثٍ ومعد، إلا أن عليه الإدراك، أن التعامل يتم مع "مادة بصرية" لا مكتوبة، وأن "لكل مقامٍ مقال"، ففي الصحافة المطبوعة يمكن استعراض الأحداث بما احتوتهُ دون عرضها، إلا أن هذا غير مقبول في الفيلم الوثائقي. وإن لم تتوفر المادة البصرية، فلا بد من إيجاد معادل بصري بديل لها، عبر الأرشيف، أو بناء تصور درامي.