نشرت الحكومة المغربية في الجريدة الرسمية بتاريخ 15 أغسطس/آب 2016 قانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر، والذي جاء بمجموعة من المستجدات المتعلقة بالممارسة الصحفية، خاصة المرتبطة بالنشر الإلكتروني. لكن يبقى "البند" الأكثر إثارة للتفاعل على مواقع التواصل الاجتماعي هو المادة (15) من الباب الثاني، والموسومة بـ"في إدارة النشر"، والتي تحدد شروط وضوابط المصادقة على منح صفة "مدير نشر" المؤسسة والمقاولة الصحفية، وهو الأمر نفسه الذي طال محددات "الصحفي المهني".
يقول نص القانون الجديد:
"يجب أن تتوفر في مدير النشر الشروط التالية:
- أن يكون حاصلا على شهادة من مستوى الإجازة على الأقل، أو شهادة متخصصة في مجال الصحافة مسلمة من طرف مؤسسات التعليم العالي العام أو الخاص أو دبلوم معترف بمعادلته".
- "أن يتوفر على صفة صحفي مهني وفقا للمقتضيات الواردة في التشريع المتعلق بالصحفي المهني".
لكن المادة المذكورة تستدرك على الشرطين السابقين بما يلي:
- "عندما لا يتوفر مالك المؤسسة على صفة صحفي مهني وفقا للمقتضيات الواردة في التشريع المتعلق بالصحفي المهني، وجب عليه تعيين مدير للنشر، شريطة أن يكون هذا الأخير شخصا ذاتيا ويتوفر على نفس الشروط الواردة في البنود 1 و3 و 4 و5 أعلاه".
وإثر هذا المعطى الأول من نوعه في المغرب، فقد دعت وزارة الثقافة والاتصال جميع المنابر الصحفية إلى تسوية أو ملاءمة وضعيتها القانونية مع التشريع المذكور أعلاه، وهو الطلب الذي خلف تباينا واضحا بين مؤيدين ومعارضين داخل الجسد الإعلامي عامة، إضافة إلى رأي ثالث يدعو إلى تحصين المهنة دون الإجهاز على المكتسبات الحقوقية في مجال حرية الرأي والتعبير. لكن يبقى رصد الآراء المعبَّـر عنها من طرف الصحفيين والصحفيات في مختلف أشكال التعبير، سواء كتابات الرأي أو التدوين أو وثائق الهيئات النقابية وغيرها، هو خير معبر عن موقف زملاء مهنة المتاعب من الإجراءات الجديدة.
رب ضارة نافعة
اعتبر أحد الصحفيين في تدوينة له على حسابه بالفايسبوك أن القانون الجديد فرصة للقطع مع ما أسماه بـ"النقل السري". وتناغما مع هذا الرأي، فقد دعا جزء آخر من خريجي معاهد الصحافة إلى ضرورة التسريع في تنفيذ بنود التشريع الجديد، معتبرين ذلك فرصة للقطع مع كل أشكال الخرق لقواعد ممارسة المهنة، وأن تطوير الأداء الصحفي وتحسين ظروف عمل "صاحبة الجلالة" رهين، أولا وأخيرا، بالحماية القانونية والضبط التنظيمي. وهو ما عبر عنه بلاغ مشترك بين النقابة الوطنية للصحافة المغربية وفيدرالية ناشري الصحف، إذ أكدا في الوثيقة الصادرة عنهما يوم 30 أغسطس/آب 2017 أن "من شروط الوفاء لمهمة الصحفي في تلبية حق المجتمع في إعلام مهني ومتعدد، هي أن تكون لهذا الأخير ليس حق ممارسة حرية التعبير فقط، ولكن أيضا شرعية المؤهلات المهنية والعلمية، التي تمكنه من النهوض بدوره ومن تحمل مسؤوليته الاجتماعية"، وهو ما يعد تزكية من الهيئتين المذكورتين ودعما منهما للقانون الحكومي الجديد، على اعتبار أن "تطبيق الجزء المتعلق بتنظيم الولوج إلى المهنة سواء في قانون الصحافة أو في القانون الأساسي للصحفي المهني، خطوة مهمة في اتجاه تحصين مهنة الصحافة والابتعاد بها عن أن تكون مهنة من لا مهنة له، ويشكل هذا فرصة للجزء غير المهيكل في قطاع الصحافة، للالتزام بشروط التأهيل". يضيف البلاغ نفسه دائما.
لكن، ألا يعد هذا الطرح "إغفالا" وهفوة قانونية في حق المئات من العاملين في المجال الصحفي، خاصة على المستوى الجهوي والمحلي، والذين يشتغلون منذ سنوات في جرائد ورقية ومواقع إلكترونية، واكتسبوا تجربة وشرعية "ميدانية" من السلطات المحلية، عبر رصدهم وتتبعهم حركة المجتمع في تفاصيله بأعماق القرى؟ وما العمل مع "كتاب" ينتجون مواد صحفية بشكل دوري ويحترمون قواعد العمل الصحفي وأخلاقيات المهنة دون أن يتخرجوا من مؤسسات تكوين الصحفيين؟ كيف يمكن، حسب بنود القانون الجديد دائما، تصنيف العشرات من الكتاب والصحفيين الذين يؤثثون الملاحق الثقافية والفنية للصحف، ويؤلفون نصوصا نقدية لمئات الأعمال والإنتاجات الأدبية والفنية؟
وهل استحضرت الوزارة في قرارها هذا أن سحب صفة "صحفي مهني" أو "رئيس تحرير" من فرق التحرير لعشرات اليوميات التي دربت وكونت إعلاميين وإعلاميات يشتغل كثير منهم الآن في أعرق الإستوديوهات وغرف الأخبار العالمية؟ وماذا عن مؤسسات الإعلام السمعي- البصري الحافلة بمذيعين ومراسلين قدموا من مجالات معرفية وتخصصات دراسية متنوعة حد التعارض؟ هل استحضر القطاع الوزاري للسيد "أحمد الأعرج" العدد الكبير من "المناضلين" الذين يشتغلون بالصحف والمواقع الحزبية ببطاقة الحزب فقط؟
وفي سياق تتبع الردود والتفاعلات بين المهنيين والهيئة الحكومية دائما، شدد الصحفي توفيق ناديري، الناطق الرسمي لنقابة الصحفيين المغاربة التابعة للمركزية العمالية (الاتحاد المغربي للشغل)، على أن "عملية تطبيق وفرض الملاءمة جاءت بطريقة متسرعة مست في العمق حقوق الصحفيين وأوضاعهم الاجتماعية". معتبرا أن "الشروط التي جاء بها القانون في مواجهة أصحاب المواقع والمشتغلين معهم ستدفع بشكل مباشر أو غير مباشر إلى إغلاق مئات منها، مثلما مست حقوق العشرات من الصحفيين القدامى، بعدما فرض القانون تقديم شهادة الإجازة أو دبلوم الصحافة لممارسة حقهم في النشر والتعبير". وفق تعبير ناديري.
وبناء على هذا الموقف، أكد ناديري أن "تدبير الحكومتين السابقة والحالية لم يكن موفقا، بحكم أن عملية فرض الملاءمة لم تتأطر بمقاربة شمولية، تتجاوز الجانب التشريعي". وعكس ذلك، تقترح النقابة ذاتها أن المقاربة الصائبة لحل شمولي يجب أن تأخذ بعين الاعتبار "نهج أسلوب التدرج في فرض الملاءمة بالتزامن مع تبني خطة واضحة تتعلق بالتكوين والتكوين المستمر، والتحسيس بضرورة الملاءمة، والبحث عن صيغ قانونية لضمان حقوق الممارسين والمشتغلين في الصحافة الإلكترونية، التي أصبحت تلعب دورا كبيرا في تكريس حرية التعبير والانتصار لقيم الاختلاف والدفاع عن القيم والثوابت الوطنية الراسخة".
المواقع الإخبارية المحلية ومحنة التمويل
وللوقوف أكثر عند تداعيات القانون الجديد على الجسم الصحفي المغربي، فقد حصلت المجلة على أرقام وإحصائيات لجهة الشمال (طنجة-تطوان-الحسيمة)، تبين بالملوس أن المدونة الجديدة للصحافة والنشر ستحد، على المستويين القريب والمتوسط وبشكل مباشر، من عدد المواقع الإخبارية بالمغرب، سواء التي تتماشى مع الشروط الجديدة أم لا، على اعتبار أنها تتضمن مؤشرات مرتبطة بالمحتوى الرقمي أيضا وليس فقط ما يخص رؤساء التحرير ومدراء النشر، وهو ما توضحه أرقام وزارة الاتصال في هذا الصدد. إذ يظهر، بعد الاطلاع على عدد المواقع الإلكترونية التي تم قبول أو رفض ملف طلب ملاءمتها بالجهة، أن الوزارة، حسب تصريح السيد إبراهيم الشعبي، المدير الجهوي للوزارة، عازمة على تطبيق المقتضيات الجديدة بغض النظر عن نتائجها، إذ تم قبول ملف (12) موقعا فقط من بين أكثر من أربعين عنوانا إخباريا إلكترونيا بمدن شمال المملكة، ففي طنجة مثلا، لم يتوفق أزيد من خمسة عشر (15) موقعا في تحقيق الملاءمة المنشودة، مقابل نجاح خمسة فقط. ولم تختلف النسبة في جارتها تطوان، وهي المدينة الثانية بالجهة، إذ كسبت سبع (7) صحف إلكترونية الرهان، مقابل رفض القضاء التأشير بالموافقة لعشرين (20) موقعا آخر، فيما تحققت شروط الملاءمة في بوابة إخبارية واحدة بمدينة شفشاون من بين خمس (5) من نظيراتها. أما في مدينتي الحسيمة والقصر الكبير، فلم تتوصل السلطات بأي طلب بالنسبة للأولى، وتم رفض الطلبات في الثانية. وذلك حسب إفادة "الشعبي" دائما.
وإذا كانت الأرقام المذكورة، والتي تهم جهة واحدة فقط، تشير إلى بداية فترة جديدة من العمل الصحفي بالمغرب، خاصة في شقه القانوني، فإن الوزارة، وفق مُحَاوِرِنا دائما، تعي أن تلك "الإجراءات تنظيمية فقط، لتحديد شروط ممارسة مهنة الصحافة بشكل مهني ومنتظم". منبها إلى أن "هناك تحديات أخرى يجب التفكير فيها لتطوير وتجويد وتحصين المهنة، من بينها ما هو مهني؛ كتقوية أخلاقيات المهنة لتحصين الصحفي من بعض الانزلاقات، والتكوين المستمر لرجل مهنة المتاعب، ودعم المقاولات الصحفية، وخاصة الصغيرة والمتوسطة منها، فضلا عن إجراءات مادية لتحسين مستوى دخل الصحفيين المهنيين". مع العمل على "توسيع الوعاء المالي لجمعية الأعمال الاجتماعية التابعة للنقابة الوطنية للصحافة المغربية". يضيف ممثل الوزارة بمدينة البوغاز.
مع القانون، لكن..
"لم نجد أي صعوبات أو شروط تعجيزية تمنعنا من الاستمرار في عملنا الصحفي. كما حافظنا على الإدارة نفسها التي نعمل بها قبل صدور التشريع الجديد". هكذا عبر ياسين لعشيري مدير نشر موقع "طنجة24" المؤسس سنة 2010. بل هو متأكد بأن "المدونة الجديدة ستساهم في الحد من ازدواجية المهن لدى العديد من الفاعلين والنشطاء المدنيين"، لأن "الصحافة أضحت إحدى مهن الكثير من رجال الأعمال الحرة وغيرهم"، يردف لعشيري.
وعكس محدثنا من طنجة، فإن مؤسس موقع "تيغيرت" سنة 2014، والذي يغطي أحداثا محلية بجهة (سوس- ماسة) جنوب المغرب، غير متفائل بما ينتظر جريدته الإلكترونية، بل إنه طلب، بنبرة تشي بالكثير من الإحباط، من المسؤولين على القطاع "أن يفرحوا"، لأنهم، حسب المعني نفسه، "سيتمكنون من إغلاق الكثير من الأصوات المحلية المزعجة"، على اعتبار أن "شروط تأسيس مقاولة صحفية تتجاوز إمكانيات الصحفي المحلي، بالنظر للالتزامات المالية واللوجيستيكية التي يتطلبها ذلك، والتي تفوق طاقة الشباب المغربي عامة". يعلل الكرتاح، الحاصل على الإجازة في الصحافة من جامعة ابن زهر بأكادير، موقفه الرافض للشروط الجديدة لمنح صفة "مدير النشر".
وإذا انتقلنا إلى جهة الدار البيضاء-سطات نجد نموذجا آخر أكثر صرامة في تدبير ملف ملاءمة العمل الصحفي مع المدونة الجديدة، فتنزيلها بإقليم سيدي بنور "مثلا"، جنوب العاصمة الاقتصادية، وصل درجة إغلاق ثلاثة مواقع إخبارية عن طريق النيابة العامة، وفق ما جاء في أحد المواقع الإلكترونية المعنية برفض ملف ملاءمتها، لأنها لم تستوف الشروط القانونية الجديدة. ونشير هنا أننا لم نتمكن من الحصول على وثائق من مصدرها القضائي التي تثبت ذلك.
ماذا بعد التشريع؟
وأخيرا، ومن خلال استقراء الآراء التي عرضناها في هذا التقرير، أعتقد أنه لا أحد ضد تطبيق القانون وحماية المهنة من غير المنتسبين لها من حيث المبدأ العام، بينما يبقى الاختلاف في تنزيله وتنفيذ مقتضياته على الواقع، ومتى تتحرك المسطرة القضائية عند عدم مواءمة المنابر والمؤسسات مع القرارات، موضوع هذا التقرير. لهذا، فإنه يصعب الجزم في نجاعة هذا التدبير بمعزل عن قرارات أخرى مركزية وأساسية، كتقوية البنيات التحتية للمؤسسات التعليمية المكلفة بتكوين وتدريب مهنيي الخبر، دون أن ننسى دور وزارة التعليم العالي في مراقبة جودة ما يقدم بتلك المؤسسات الخاصة/الحرة أو العمومية، إضافة إلى ضرورة التسريع بتأسيس مراكز ومعاهد التكوين في مختلف الجهات، والعمل على إقرار برامج التكوين المستمر للممارسين في المجال أيضا، وتشجيع حالات التميز الصحفي في مختلف المجالات والتخصصات. غير ذلك، فإنه يستحيل ضبط ما يُنْشَر، سواء ببطاقة الصحافة أو بغيرها، نظرا لاتجاه الرأسمال نحو الاستسلام التام لهيمنة الويب، ناهيك عن الطفرة التكنولوجية التي تغري ناشر الخبر قبل مستقبله.