أقفل العام 2015 على قرار اتخذته صحيفتا "النهار" و"المستقبل" اللبنانيتان بإلغاء إصدار الملحق الثقافي الأسبوعي الذي تصدره كل منهما. فتوقف ملحق "النهار" الثقافي عن الصدور، وكذلك ملحق "نوافذ" الصادر عن "المستقبل".
القراران شكّلا صدمة للكثيرين من قراء ومتابعي الملحقيْن الذين يتوزعون -بلا مبالغة- على البلدان العربية كافة، إلا أنهما يأتيان في سياق تحوّلات سياسية ثقافية تقنية إعلانية غير مكتملة وشديدة التعقيد، إذ تشهد الصحافة اللبنانية بخاصة والعربية بعامة تحديات جمّة، لا مبالغة في القول إنها على مستوى الثقافة ترقى إلى أزمة وجود، لا تشبه بحال الأزمات السابقة أو أزمات فروع الصحافة الأخرى.
في هذا السياق المعقد والمتشابك إذن، تندرج أزمة المادة الثقافية في الصحف اللبنانية. فإذا كانت المواد الأخرى -السياسية خصوصاً- تعيش أزمة الكلفة والمردود خصوصاً، فإن "الثقافة" تشهد إلى جانب ذلك أزمة القرّاء الذين دفعتهم مواقع التواصل الاجتماعي -التي باتت المصدر الأول للمعرفة- إلى تفضيل المادة السهلة والسريعة وغير المعمقة، التي لا تحاكي بشكل من الأشكال طبيعة المادة الثقافية ووظيفتها.
الملاحق ضحيَّة
يقول مسؤول ملحق "نوافذ" الثقافي في صحيفة "المستقبل" الكاتب يوسف بزي إن أهمية الثقافة والملاحق الثقافية في الصحف اللبنانية بدأت تتزايد في منتصف ستينيات القرن المنصرم، عندما أسس شوقي أبي شقرا صفحة ثقافية يومية في صحيفة "النهار" اللبنانية، مرسياً تقليداً جديداً في كل الصحافة اللبنانية ولاحقاً العربية، فبات التبويب يشمل صفحة مستقلة للثقافة.
يضيف صاحب "في فم الغراب" أن ناشر جريدة "النهار" الراحل غسان تويني "ابتكر فكرة الملحق الأسبوعي أواخر الستينيات في إطار جهوده لتطوير الصحيفة، وكانت الفكرة في الأصل مقتبسة عن تقاليد الصحافة الفرنسية، وهي تدل على شيء مضاف إلى الصحيفة وليس من صلبها"، وأن "طبيعة ملحق النهار في سنواته الأولى كانت شديدة التنوع، وتضم تحقيقات صحفية وسياسية، بالإضافة إلى تغطية المنوعات والفنون والمهرجانات الغنائية وعروض الأزياء، أي المواد الثقافية وغيرها.. مع مطلع السبعينيات ونضج الحياة الثقافية في بيروت واتخاذها طابع الاحتراف والتخصيص، تحوَّل الملحق إلى ملحق ثقافي بامتياز، لكنه عاد وتوقف مطلع الحرب، مع تعطل الحياة الثقافية والفنية".
ويتابع أن "العام 1974 شهد ميلاد ملحق ثقافي جديد، سيلعب لاحقاً دوراً أساسياً في الحياة الصحفية والثقافية اللبنانية: ملحق "السفير" الثقافي، وهي الصحيفة اليسارية، حليفة منظمة التحرير الفلسطينية التي ستتحول إلى ندّ لجريدة النهار اللبنانية". وقد تناوب على إدارة الملحق -بحسب بزي- كلّ من سعد الله ونوس، وحسن داود، وإلياس خوري، ويديره اليوم عباس بيضون.
في العام 1999 -يواصل بزي- تأسست جريدة المستقبل التي تضمَّن تبويبها صفحة ثقافية باسم "نوافذ"، صارت لاحقاً ملحق "نوافذ" الذي أسسه حسن داود، وأتى ذلك بعدما كان ملحق "النهار" قد استأنف صدوره بعيد الحرب بإدارة الكاتب إلياس خوري ومجموعة من المثقفين والكتَّاب المعروفين.
وظيفة "نوافذ" كما يصفها بزي، تركزت على تطوير الكتابة الصحفية وتوسيع النظر إلى الفنون الجديدة والبديلة.
ويرى بزي أن التحولات التقنية وانتقال القراء إلى العالم الافتراضي وما أحدثه ذلك من تغييرات على مستوى السرعة والأخبار المختصرة والتنوع الهائل في مصادر الخبر، وتحول مختلف أنواع الكتابة إلى أشكال نمطية متشابهة ومتكررة.. كل ذلك منح الملاحق فرادة إضافية بوصفها استثناء أسبوعياً، وزاد من حجم قرائها.
ويضيف أن قراء الصحافة الورقية تضاءل، بينما تزايد عدد قراء الملاحق ورقياً وافتراضياً، إذ تزيد مبيعات صحيفة "المستقبل" يوم صدور الملحق بما نسبته 30%، كذلك الأمر بالنسبة إلى عدد قراء الموقع الإلكتروني.
وبينما يؤكد بزي أن سبب إقفال الملحق سبب مادي صرف لا نتيجة عدم اهتمام بالثقافة أو عدم تقدير للملحق، يوضح أنه من السهل توقيف الملحق المضاف إلى الصحيفة دون أن تكون مضطرة لطرد موظفين ثابتين، وذلك رغم أن كلفة الملحق الشهرية لا تتعدى 15 إلى 20 ألف دولار تضاف إليها كلفة الطباعة. ويختم قائلاً إن الملاحق الثقافية تدفع ثمن أزمة الصحافة الورقية.
داود: أزمة الثقافة أزمة السياسة اللبنانية والعربية
ويرى الروائي والمسؤول السابق عن ملحق "السفير" الثقافي ومؤسس ملحق "نوافذ" حسن داود أن الصحافة عامة تعاني من أزمة، وهي أزمة مضاعفة في ما يتعلق بالمواد غير السياسية.
يميل داود لدى تناول أزمة الثقافة في الصحف اليومية -كما يقول- إلى مقارنة قارئ سنوات السبعينيات والثمانينيات مثلاً بقارئ أيامنا هذه، فيجد أن الاختلاف بين الاثنين شاسع وكبير. "الأول، القارئ السابق، شخص عقائدي غالباً أو منتسب إلى تيار سياسي ذي طبيعة فكرية، والشخص المسيّس آنذاك كان واسع الاطلاع وواسع الاهتمام بمساحة جغرافية واسعة تبلغ حدود العالم". أما اليوم فنرى كيف أن جوانب عديدة من الثقافة جرى الاستغناء عنها أو تحييدها من واقع النزاع بين الأطراف.
ويوضح داود أنه كان يتابع في الأشهر الأخيرة التصريحات والخطب التي يدلي بها شباب الحراك المدني، وظهر جلياً أن الجانب الثقافي الذي لا علاقة له بالنضال المطلبي غائب عن اهتماماتهم. ومرد ذلك -في رأيه- إلى أن عِدّة السياسي في العقود التي سبقت كانت ذات طبيعة جدالية عامة، وتحتاج إلى القراءة لرفد هذا الانتماء، أما عِدّة الشاب المسيس الجديدة -كما شاهدنا وسمعنا مؤخراً- فهي الدستور اللبناني لا أكثر، يضاف إلى ذلك أن أحداً لم يعد بحاجة إلى المادة الثقافية.
وفيما يخص الملاحق الثقافية، يقول داود إن أزمتها هي أزمة الصحف بعامة وأزمة القراءة، حيث لم تعد الأحزاب والأطراف المموّلة للصحف مهتمة إلا بالجانب الذي يدعم وجهة نظرها السياسية. ويستدل على ذلك بتجربته أثناء تأسيس ملحق "نوافذ"، حيث بدا له أن "تأسيس الملحق كان أشبه بقفزة في المجهول لأن الصحيفة مبدئياً لا تحتاج إليه، وحين لقي النجاح الذي لقيه بدا من وجهة نظر أصحاب الصحيفة أن هذا النجاح لا يعني شيئاً".
وفي رأي داود أن ملحق "نوافذ" كان أفضل ما صدر عن صحيفة "المستقبل" باعتراف الكثيرين داخل الصحيفة وخارجها، مستنتجاً أنه لهذا السبب بالذات من الطبيعي أن يكون الأول لناحية غض النظر عنه وصولاً إلى إقفاله.
ويرى أنه للأسباب المذكورة أعلاه أغلق ملحق "النهار" الثقافي أيضاً، "فعندما تعاني الصحيفة من ضعف التمويل وتفكر في خفض الميزانية فإن أول ما يخطر على بالها هو التخلص من هذه الصفحات الزائدة المسماة بالملحق.. ومع ذلك أؤكد أن الأزمة ليست أزمة هاتين الصحيفتين حصراً، وإنما هي أزمة السياسة اللبنانية والعربية عموماً"، مشيرا إلى "أننا نعيش سياسة لا تحتاج إلى أفكار، وهناك تدنٍّ كبير في مستوى الخطاب السياسي".
ولا يرى الروائي الذي فاز مؤخراً بجائزة نجيب محفوظ للأدب في القاهرة، أن "ما يتداول على مواقع التواصل الاجتماعي يشكل مادة فكرية حية وجديدة، بل هي ملحقة بالسجال العام القائم، والذي من أوصافه العِلم بميزان القوى فقط، أكان لناحية ترجيحه أو المنافسة في مجاله".
لكن، ألا ترى أيضاً أن المشكلة تكمن في الهوّة الجيلية بين مسؤولي الملاحق والأقسام الثقافية الكهول، وبين جيل الشباب الذي يعتمد الوسائط التقنية الجديدة كأدوات للمعرفة؟
يجيب داود متسائلاً "هل ابتدعت الأجيال الشابة ثقافتها الجديدة وصنّفت لها أبواباً لم تكن قائمة من قبل؟ يبدو لي أن الأزمة في أن هذا الجيل لم يعد يستسيغ أن يقرأ على طريقة ما يختار سابقوه أن يكتبوا، وفي الوقت نفسه لم يفلح في تأسيس شيء مختلف جديد".
ويضيف "أذكر أن باحثة اجتماع تركية درست اختصاصات أعضاء البرلمان التركي فوجدت أن الجيل الأول منهم درس الآداب والإنسانيات، والجيل الثاني الحقوق، في حين درس الجيل الثالث العلوم التقنية. كأن السياسة صارت هنا في هذا الحيّز التقني ولم تعد سجالاً بين لينين وخصومه المناشفة مثلاً!".
ويختم قوله متسائلا "ما الحاجة إلى الملحق الثقافي في ظل عدم فعالية الثقافة عموماً؟".