أزمة الصحف الورقية في المغرب ليست جديدة، وهي أزمة مركبة شديدة التعقيد، أسبابها كثيرة جدًّا، بعضها ذاتي وبعضها موضوعي، غير أنها تؤدي كلها إلى مصير واحد هو الإغلاق.
فالغالبية العظمى من الصحف الورقية مهددة بالزوال، وفقا للإحصائيات الأخيرة الخاصة بالإعلانات الدعائية، التي صدرت عن جهات مختصة تؤكد أن الأفق قاتم.
التأسيس والإغلاق سهلان
تأسيس صحيفة ورقية في المغرب كان وما يزال أمرًا بسيطا للغاية، فيكفي إخبار السلطات المختصة بالرغبة في التأسيس، حتى يتسنى لك البدء بالعمل والنشر والبيع للقراء.
غير أن هذا الامتياز لم يكن يومًا سببا لاستمرار الصحف، بل كان في أحيان كثيرة أشبه بـ"فخ" يثير طمع الكثيرين ويستدرج حماسهم لكي يؤسسوا صحفا ورقية، ثم يجدوا أنفسهم إزاء استنزاف لأموال وجهود تذهب كلها سدى في نهاية المطاف، عندما يصبح الإغلاق أمرًا لا مفر منه.
الغريب في الأمر أن العاملين في مجال الصحافة الورقية بالمغرب، ومنذ انتشار ما يسمى "الصحافة المستقلة" -خاصة في بداية تسعينيات القرن الماضي- يعلمون جيدًا طبيعة "النموذج الاقتصادي للصحيفة الورقية"، فهي تقوم على مصاريف واضحة جدا، ومداخيلها ليست خافية على أحد. فمن جهة يُطلب من مالك الصحيفة أن يدفع الأجور نهاية كل شهر، سواء للصحفيين أو الإداريين أو العاملين، فضلا عن تكلفة الطباعة والتوزيع. ومن جهة ثانية، تأتي المداخيل من عائدات المبيعات -عائدات الاشتراكات بنسبة أقل- وكذلك الإعلانات.
ونادرًا ما شهد تاريخ الصحافة المغربية المستقلة وجود صحف تمكنت من العمل بحرية واستقرار فقط من خلال ما تحققه مبيعاتها من أرباح، باستثناء الصحف الحزبية. ذلك أن أغلب الصحف ظلت تعتمد على الإعلانات لأن المبيعات لا تفي بالغرض، وفي أحسن الأحوال تغطي ثمن الطبع ليس إلا، بينما بقية المصاريف يكون مصدرها من الإعلانان، سواء الإدارية أو الخاصة.
لم يكن الحصول على الإعلانات التي تعتمد عليها الصحف الورقية المغربية في كثير من الأحيان أمرًا سهلا، فإلى جانب اعتماد المختصين في المجال التجاري على العلاقات في جلب الإعلانات للجريدة، كان هناك جانب بالغ الأهمية وهو "العلاقات الخاصة" لمالك الصحيفة.
تراجع الإعلانات
أكدت إحصائيات صادرة مؤخرًا عن "تجمع المعلنين في المغرب"، أن أزمة قطاع الإشهار (الإعلان) في المغرب واصلت تفاقمها خلال العام 2018، حيث تراجع سوق الإشهار بنسبة 12.8% مقارنة بالعام 2017. وأوضحت الإحصائيات نفسها أن عائدات القطاع لم تتجاوز 5.1 مليارات درهم (0.51 مليار دولار) بحسب البيانات المعلنة، مشيرة إلى أن الصحافة الورقية لم تسلم من لعنة جفاف مداخيل الإشهار التي تقلصت بنحو 23.3%، ولم يتجاوز مجموعها 575 مليون درهم، الأمر الذي فاقم الحصة السوقية للصحافة الورقية، والتي باتت تمثل بالكاد 10%.
هذا التراجع يعني أن الصحافة الورقية في المغرب مقبلة على أيام عصيبة إذا لم تتحرك الجهات المعنية لإنقاذها، والمتمثلة في وزارة الثقافة والإعلام الوصية على القطاع، والمجلس الوطني للصحافة الذي استُحدث مؤخرًا، وفدرالية الناشرين المغاربة، والتمثيليات النقابية، فضلا عن الصحفيين.
ذلك أن هناك تجارب كثيرة لصحف عَمدت إلى إعلان إفلاسها بفعل غياب الإشهار، ولعل آخرها تجربة صحيفة "آخر ساعة" التي كانت ممولة من عدة مستثمرين داعمين لحزب "الأصالة والمعاصرة" الذي حصد المرتبة الثانية في الانتخابات البرلمانية عام 2016.
تجدر الإشارة هنا إلى أن الدولة المغربية تقدم منذ سنوات دعما سنويا لكل صحيفة ورقية تستجيب لعدة معايير، من ضمنها خصوصا أداء مستحقات الضمان الاجتماعي للعاملين بها، ورواتب شهرية لا تقل عن 6000 درهم (600 دولار) للصحفيين، وهو الدعم الذي تقرر قبل أيام إثر مجلس حكومي أن يتوسع أكثر ليعم المطابع وشركات التوزيع، بعدما كان موجها بالأساس إلى الصحف الورقية من أجل رفع نسبة مقروئيتها ومساعدتها على البقاء والاستمرارية، صونًا للتنوع وحق المواطنين في الحصول على الخبر، ودعما للديمقراطية.
ظلّ هذا السؤال يطرحه الصحفيون منذ سنوات ومع كل نعي لصحيفة تُغلق، وهو سؤال جوهري، إذ لا بد من وجود مسؤول عن إغلاق الصحيفة، فإما أن يكون مالكها الذي لم يُهيئ لها أسباب النجاح والبقاء، أو هو الدولة التي لم تدعمها حين بدأت في الانهيار، أو هو جهاتٌ ما لم يرقها أن تصبح تلك الصحيفة "خارج الصف" فعمدت -كما يتداول بين الصحفيين المغاربة- إلى غلق صنبور الإشهار تأديبا لها.
يؤكد بعض الصحفيين أن السبب الأرجح هو غياب رؤية واضحة لدى مؤسسي أي صحيفة ورقية حتى يضمنوا لها الاستمرارية، بحيث يضعون قبل البداية موازنة قوية تفي بالغرض تفاديًا منهم لضعف سوق الإشهار، أو لغضب محتمل من تلك الجهات "النافذة" التي تتحكم في سوق الإشهار. ويستدل هؤلاء على صحة وجهة نظرهم بإغلاق صحف ورقية محسوبة على هذه الجهات النافذة، مثل صحيفتي "صوت الناس" و"آخر ساعة"، وهما يوميتان ورقيتان لم يكن بإمكانهما الاستمرار لفترة طويلة، مع أنهما لم تسيرا ضد التوجه العام، وإنما سارتا معه على طول الخط!
غير أن أغلب الصحف الورقية التي لم يُكتب لها الاستمرارية، كانت محسوبة على الصحافة الموصوفة بأنها "مستقلة"، أو بالأحرى "المعارِضة للتوجه العام"، حيث سرعان ما تجد نفسها بين فكي ضعف المبيعات وغياب الإشهار، مما يعجل بفقدانها لتوازنها المالي، ومن ثم تُسارع إلى إعلان الإفلاس، فإما الانطلاق نحو تجربة أخرى، أو البحث عن بديل إلكتروني لا ينجح غالبا هو أيضا، بالنظر إلى أنه يكرر الحكاية ذاتها، فلا يجد صاحبه قدرة على صرف رواتب الصحفيين والعاملين، ثم ينتهي كل شيء.
مبيعات محتشمة
أشارت إحصائيات في دراسة أنجزتها فدرالية الناشرين المغاربة بالشراكة مع وزارة الثقافة والاتصال، وبحسب مقالة صادرة في صحيفة "الأحداث" المغربية يوم 24 فبراير/شباط 2019، إلى أن الصحف المغربية في مجموعها تبيع أقل من 200 ألف نسخة يوميا، وهو رقم قليل مقارنة بعدد سكان المغرب البالغ نحو 35 مليون نسمة حسب آخر إحصاء رسمي، خاصة بنسبة شبابه العالية، إلى جانب نسبة المتعلمين منه القادرين على قراءة الصحف.
ولأن الدراسة نفسها تؤكد أن الرقم الحقيقي لمبيعات الصحف الورقية يوميا هو مليون نسخة، على اعتبار أن معظم من يقرؤون صحيفة ورقية مغربية يفعلون ذلك في المقاهي، حيث يتكفّل كل مقهى بشراء نسخة من أبرز الصحف -بمعدل 4 صحف يوميا- ويضعها مجانا في متناول رواده، فإن عدد المبيعات ظلّ يتراجع منذ سنوات طويلة. ومما زاد الطين بلة أنه كلما انضمت صحيفة جديدة إلى السوق قضمت من زميلاتها جزءًا من المبيعات العامة، عوض أن تخلق لها قراء جددا.
الدراسة أفادت بأن خسائر الصحف الورقية جراء هذا الوضع غير المستقر بلغت قرابة 700 مليون درهم سنويا، تُضاف إليها 300 مليون من الخسائر في الثلاث سنوات الأخيرة بفعل فقدان حصتها في سوق الإعلانات التجارية، مما يعني أن هناك إمكانيات مالية مهدرة تحتاج إليها الصحف الورقية التي تعيش أزمة تهدد وجودها كل يوم.
ومع أن الأسئلة بشأن تدني مستويات المقروئية طُرحت على مدار سنوات عديدة، فإنها ظلت بدون أجوبة مقنعة، ولو ثمة إجماع على أن السبب الرئيسي هو غياب إستراتيجية للدولة لنشر ثقافة القراءة عبر التعليم والإعلام المرئي والمسموع، فضلا عن نشرها في الفضاءات العامة لتكوين أجيال قارئة تضمن استمرارية الصحف الورقية، وتستفيد منها المواقع الإخبارية الرقمية التي أصبحت هي الأخرى تعاني شحًّا في الإقبال، الأمر الذي أدى بها إلى الانزلاق نحو التفاهة بحثا منها عن "نقرات إضافية" تخدمها في جلب معلنين يُدرّون عليها مداخيل كبيرة.
إنها معضلة كبيرة للغاية بل ومسيئة، فحتى إن كانت أزمة مقروئية الصحف الورقية عالمية، فإنها تبقى ذات خصوصية في المغرب، حيث إن الصحف التي توقفت في أميركا مثلا كانت تبيع نسخا بالملايين، في حين أن الصحف المغربية لم يسبق لها أن تجاوزت رقم 350 ألف نسخة في اليوم، اللهم إلا في بعض الحالات الفريدة المعروفة تاريخيًّا، وكلها عابرة. عدا ذلك، ظلت المبيعات متدنية للغاية، وستظل كذلك ما لم يتحرك صناع الصحافة للعمل على تطوير صحفهم من أجل ضمان بقائها طويلا، وتكوين جمهور يحميها إن تعرضت لأي عقبات مستقبلا.