"كل الرجال ميليشيا، وكلّ نسائهم ضحايا".
(من شعارات حرب التطهير العرقي في البوسنة)
هل العدالة هي الأولويّة الملحّة لدى الناس في المراحل الانتقالية أم الحقيقة، أم المطلوب هو مجرّد فسحةٍ من أملٍ بعيش كريم آمنٍ من بطش السلطة العبثي والمطلق؟ وما الذي يسع الصحفيّ فعله في مثل هذه المراحل الهشّة التالية لحقب سوداء مديدة من الرعب والاستبداد والاحتراب؟ من أين يبدأ الصحفي؟ وما موقعه اليوم في محيطٍ تسكنه أشباح الإبادة والاحتلال ويهيمن عليه منطق "حقيقة القوّة" وتغيب فيه أو تكاد قوّة الحقيقة والمبادئ الأساسية للاجتماع البشري المتحضّر؟
يعود هذا التعاطي مع الإعلام ودوره في "الفترات الانتقالية" إلى طبيعة التدابير المرتبطة بهذه الفترة واتصال بعضها بالمهام التي ارتبطت تقليديا بالعمل الصحفي وأهدافه، ولاسيما فيما يخصّ البحث عن الحقيقة والكشف عنها، مع مراعاة مبادئ الإنصاف والموضوعية.
فلو نظرنا إلى التعريف الذي وضعه الحقوقي الأرجنتيني خوان مينديز (1)، فإن العدالة الانتقالية تتطلب "التوافق العام" على مجموعة من الالتزامات الأساسية؛ مثل الكشف عن الانتهاكات وتوثيقها، وحفظ الأدلة، وإجراء التحقيقات القضائية اللازمة والنزيهة، وملاحقة الجناة ومنع تكرار الفظائع السابقة؛ فللصحفي دور متوقّع في تحقيق هذا "التوافق"، فضلاً عن دوره في تقصي الحقائق والكشف عنها.
يعود هذا التعاطي مع الإعلام ودوره في "الفترات الانتقالية" إلى طبيعة التدابير المرتبطة بهذه الفترة واتصال بعضها بالمهام التي ارتبطت تقليديا بالعمل الصحفي وأهدافه، ولاسيما فيها يخصّ البحث عن الحقيقة والكشف عنها، مع مراعاة مبادئ الإنصاف والموضوعية.
فأهداف آليات العدالة في المرحلة الانتقالية هي كذلك أهداف تتوخى الصحافةُ تحقيقها أو الإسهام فيها، ومن ذلك ضمان عدم تكرار المآسي التي حصلت، وجبر ضرر الضحايا، ومعاقبة الجناة، وتعزيز الاستقرار في الوضع الانتقالي الجديد وتجاوز إرث الانتهاكات التي وقعت، ومواجهة مشكلة الإفلات من العقاب، وترسيخ التوافق على حقوق الإنسان والحريات العامة.
وكما أن العدالة الانتقالية هي - بحسب الأستاذ المغربي محمد أحمد بنيس (2) - "مفهوم متحرّك"، ويتأثر بطبيعة التحديات التي يواجهها المجتمع خلال المرحلة الانتقالية، وبطبيعة المجتمع نفسه وعلاقات القوة فيه، فإن الصحافة أيضاً ممارسة "متحرّكة"، بمعنى أنها تتأثر بنفس هذه المعطيات ولا تنفصل عنها.
لتوضيح ذلك، يشار عادة إلى حالة الفلبين التي رغم كونها نموذجًا مثاليًا لحالة العدالة الانتقالية، بعد سقوط حكم ماركوس عام 1986، إلا أنّها لم تدرس على هذا النحو لا في الأوساط الأكاديمية ولا الصحفية العامة.
تعدّ الفلبين مثالاً هاماً على فشل مراحل الانتقال، والضعف الذي قد يلحق بتدابير العدالة الانتقالية، ودور الإعلام في إفشال الانتقال من دولة الاستبداد إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وملاحقة الجناة ومحاسبتهم ومنع تكرار جرائمهم وتجاوزاتهم.
ففي عام 1972، أعلن ماركوس الأحكام العرفية في البلاد: فتم تعليق العمل بالدستور، وبدأ بترسيخ حكمه السلطوي الذي استمر حتى عام 1986، فانتشر الفساد والنهب، وسرق ماركوس مليارات من خزينة الدولة، وارتكبت أجهزة الدولة جرائم مرعبة بحق المدنيين، وتعطّلت الصحافة بالكامل.
تعدّ الفلبين مثالاً هاماً على فشل مراحل الانتقال، والضعف الذي قد يلحق بتدابير العدالة الانتقالية، ودور الإعلام في إفشال الانتقال من دولة الاستبداد إلى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وملاحقة الجناة ومحاسبتهم ومنع تكرار جرائمهم وتجاوزاتهم.
وبعد ثورة شعبية عارمة، فرّ الرجل وعائلته إلى الولايات المتحدة. قررت الحكومة الجديدة وقتها وضع مسار دستوري ومؤسسي لتحقيق العدالة وحفظ ذاكرة ضحايا حقبة الرعب.
لكن الاهتمام ظل محدودًا بدراسة نموذج الفلبين، وذلك عائد وفق ورقة بحثية نشرت عام 2023 في المجلة الدولية للعدالة الانتقالية إلى عدّة أسباب؛ من بينها هشاشة الوضع السياسي والاقتصادي بعد سقوط حكم ماركوس، وهو ما جعل نطاق الانخراط المثابر والمستدام في مسار العدالة الانتقالية وتطوير آلياتها محدوداً للغاية. لكن السبب الذي لا يقل أهمية هو التردّي الشديد في مشهد الإعلام ومؤسساته في الفلبين، جراء سيطرة الجيش المطلقة على وسائل الإعلام العامة والخاصة والاستيلاء على أصولها، ثم استمرار حملات التضليل المموّلة من الدكتاتور المخلوع وأنصاره، وهو ما أدى إلى انحراف ذلك المسار وإفشاله.
لقد أدى اجتماع تلك الظروف إلى ضياع الحقيقة على حساب الضحايا، وهو ما أدى في المحصلة إلى عودة ماركوس الابن إلى السلطة بعد ثلاثة عقود فقط من خلع أبيه، وإعادة تدوير عائلة ماركوس رغم فسادها وجرائمها واستئناف نفوذهم في مفاصل الدولة. وقد كان ذلك - بحسب باحثين - نجاحا مرعبا لعمليات "تطهير السمعة" عبر حملات التضليل والأخبار المفبركة وخلق حقائق بديلة تسخّف من حقبة الرعب التي عاشتها البلاد وتدعو إلى شطبها من الذاكرة العامّة، مع استغلال حالة الضعف التي يعاني منها الإعلام جراء ارتهانه المستمر للسلطة ورأس المال، وغياب إعلام مستقلّ واسع التأثير في البلاد (3).
وقد دفعت ملاحظة هذه الحالة، وحالات غيرها (في البيرو وسريلانكا ومؤخراً في تونس)، إلى تنويه باحثين إلى ضرورة انتباه نظريات العدالة الانتقالية بشكل أكبر إلى الإعلام باعتباره حجر زاوية في مراحل الانتقال الديمقراطي، يؤثر سلباً أو إيجابا في جهود ترميم المجتمعات وتعزيز السلم الأهلي وبناء الدولة بعد سقوط حقبةٍ من الاستبداد أو انتهاء فصلٍ من العنف الأهلي. في ورقة بحثية حول دور الإعلام في عمليات العدالة الانتقالية أعدها باحثون من معهد براكسيس للعدالة الاجتماعية، نجد تأكيدًا على ضرورة رسم اتجاه جديد في هذا الحقل، عبر النظر إلى الإعلام "الانتقالي" من ناحيتين أساسيتين: الأولى تعنى بفحص كيفية تناول الإعلام للآليات الإجرائية للعدالة الانتقالية وكيفية نشر المعلومات حولها، سواء ما تعلق بلجان المصالحة والحقيقة أو المؤتمرات الوطنية وغيرها، وأثر ذلك على تعزيز التوافق حولها أو تقويضها. أمّا الناحية الثانية فهي مراجعة الدور الذي كان لمؤسسات الإعلام ومنصاته في فترة النزاع، وتبيين أوجه مسؤوليّتها في جرائم النظام أو الحقبة السابقة، ومساءلتها وفق القانون ثم العمل على إصلاحها (4).
فوق ذلك، يحذر الدارسون من ظاهرة تكاد تكون عامة في مثل هذه السياق، وهي أن العديد من الصحفيين المحليين في الأوضاع الانتقالية يفتقرون إلى التدريب الكافي والخبرة، ويعانون ضعفًا في التزام القواعد المهنية، بل حتى الإرادة لممارسة المهنة باستقلالية وبعيدًا عن الانفعاليّة والتشنّج والحسابات الضيقة؛ فبحسب دراسة نشرت عام 2019، فإنه يُخشى على الصحفيين في مراحل الانتقال بعد فترات الاضطراب الأهلي العنيف أن لا يروا دورهم إلا من منظور "المناصرة المباشرة لاتجاه سياسي معين، أو حشد الدعم لشخصية سياسية بعينها". كما يحذّر آخرون من نوع من الصحافة تشيع في المراحل الانتقالية، هي "صحافة القبيلة" (tribal journalism)، وهذه بعض مظاهرها:
- التقيد المخلص برواية واحدة وتأطير واحد للأحداث والأزمات.
- تجنب انتقاد السلطة الجديدة.
- تأجيج العداء المطلق تجاه "عدو" بما يتجاوز الضوابط المهنية والأخلاقية للعمل الصحفي.
- الرقابة الذاتية المفرطة. (5)
يحذر الدارسون من ظاهرة تكاد تكون عامة في مثل هذه السياق، وهي أن العديد من الصحفيين المحليين في الأوضاع الانتقالية يفتقرون إلى التدريب الكافي والخبرة، ويعانون ضعفًا في التزام القواعد المهنية، بل حتى الإرادة لممارسة المهنة باستقلالية وبعيدًا عن الانفعاليّة والتشنّج والحسابات الضيقة.
فالإعلام وفق هذه الرؤية قطاعٌ كغيره من القطاعات في المجتمع، يتأثر بالارتباط المسموم مع السلطة أو الحزب الحاكم المهيمن، ويتطلب بحسب روكسان فارماين "إعادة تشكيل كاملة في أعقاب انهيار نظام ديكتاتوري، ابتداء من الممارسات المهنية، والهيكلة الإدارية الشفافة، وصولًا إلى العلاقات التنظيمية مع الدولة" (6)، وذلك لضمان تطوّر إعلام بنّاء وفاعل بعد التخلص من قيود الدكتاتورية.
إلا أن مطلب إعادة تشكيل دور الإعلام ليكون وسيطا للتغيير الاجتماعي وبناء الدولة وحماية المجال العام، يمثّل خطوة صعبة وشديدة التعقيد، ولا يمكن توقّع حصولها بشكل تلقائي ولا سريع، نظراً للبنية التحتية المهشمة سلفًا للعمل الإعلامي والصحفي في السياق المحلي، وعدم تراكم الخبرة لدى العاملين فيه وهشاشة ظروفهم. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ سؤال الخبرة الصحفية وتشكّل دورها الإيجابي الجديد في المجتمع، لا ينفصل بحال عن طبيعة الانتقال ذاته باعتباره ظاهرة ذات سيرورة متحرّكة كما أشرنا سابقًا، وهي أيضاً مرهونة بخبرة المنخرطين فيها ووعيهم وتجربتهم، مثلما هي مرهونة طبعاً بإكراهات أخرى، تتعلق بالموقع الجغرافي والوضع الاقتصادي وطبيعة النسيج الاجتماعي.
فضلًا عن ذلك، يشير باحثون (7) إلى أن انتهاء عهد القمع والتضييق على حرية التعبير والرأي، وبدء مرحلة جديدة يُمكن فيها للمواطنين التعبير عن أنفسهم، كانت تفسّر خطأً عادة باعتبارها ستدفع بالضرورة إلى ممارسة حرية الصحافة والتعبير بشكل واسع، وهو تفسير خاطئ أو مبالغ فيه على الأغلب. فهذه المساحة الناشئة من الحرية تحمل في الوقت ذاته إمكان تحوّلها إلى حريّة تجيّرها النخب الاقتصادية والسياسية إلى صالحها، بما في ذلك النخب الإعلاميّة، التي تبدأ بأداء دور خادمٍ لنفوذ رأس المال والسياسة، على حساب المجتمع وأولوياته.
لذلك تلزم في الفترات الانتقالية مراقبة وسائل الإعلام عبر عدستين هامتين:
- دورها في تناول الأخبار المتعلقة بآليات العدالة الانتقالية وإجراءاتها، وما إذا كانت تلتزم بمعايير تحريرية مهنية مسؤولة تساعد على تعزيز السلم الأهلي ودعم مسار العدالة أو لا.
- دور وسائل الإعلام نفسها في المرحلة السابقة، والنظر إلى نواحي المساءلة اللازمة قانونيًا وأخلاقياً، أو نواحي الإصلاح والتطوير، لضمان أن يكون لها دور فعّال ومستدام في الوضع الجديد، وفي ترسيخ حكم القانون وثقافة المساءلة والشفافية وحقوق الإنسان والديمقراطية.
فالإعلام وكما يتضاعف تأثيره في سياقات إباديّة (رواندا، البوسنة، فلسطين)، عبر دوره المركزي في عمليات "التصنيف" و"التمييز" و "والتجريد من الصفة الإنسانية" و"الاستقطاب" و"نشر الكراهية" و"التبرير" و"التلاعب بالمصطلحات" وغيرها من الأساليب الإعلامية التي ترافق ظروف الإبادة دوماً، فإنه يتضاعف دوره أيضاً في مراحل الانتقال، نظراً لهشاشة الوضع الاجتماعي والسياسي، والتوتر الذي قد يسود بسبب مخاوف التهميش والإقصاء، الذي تفاقمه حالة الإنهاك الاقتصادي وتركة النظام البائد أو المخلوع.
هذه الحساسية لدور الإعلام تبرزها وثيقةٌ صادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول دور الصحافة في الفترات التالية للنزاعات الأهلية، أكّدت على ضرورة إلزام إدارة وسائل الإعلام وتوجيهها ضمن مواثيق شرف مهنية وأخلاقية لضمان ما يلي:
- الاستقلالية وعدم الانسياق وراء الأجندات السياسية الضيقة.
- الالتزام بتقديم محتوى متنوع وموضوعي يولي أهمية لتقديم معلومات موثوقة للعامة.
- دعم جهود الكشف عن الحقائق وتوثيق روايات الشهود مع مراعاة القواعد المهنية والأخلاقية.
إن النقطة الأساسية التي ينبغي العناية بها هي أن العدالة الانتقالية "سيرورة" مثلما أنّها "هدف نهائي" (8) وهو هدف يتعلق بضمان "عدم تكرار" الماضي ومنع تجدد العنف أو القمع، بالتوافق مع كافّة القطاعات المؤثرة، وفي مقدمتها الإعلام. هذا الهدف تعبّر عنه الشعارات التي حفظتها فترات الانتقال في دول عديدة؛ كالبيرو التي رفعت شعار "حتى لا يتكرر ما حصل" (Para que no se repita)، أو الأرجنتين بشعار "لن يتكرر أبداً" (Nunca Mas) أو المغرب بشعار "حتى لا يتكرر ما جرى"، وهي شعارات أثبتت التجربة أنه لا يمكن تكريسها ولا تحقيق مضامينها إلا بالتعاون مع الإعلام، لتعزيز إجراءات العدالة والتوثيق وحفظ الأرشيفات وتقديم الشهادات، فضلًا عن تعزيز شرعية الإجراءات المتفق عليها وطنياً لتحقيق العدالة الانتقالية والخروج من متاهات الاستبداد.
المراجع
- https://siyasatarabiya.dohainstitute.org/ar/issue044/Pages/Siyassat44-2020-bennis.pdf
- نفس المصدر
- Destrooper, Tine. 2023. “Remembering Martial Law: An Eco-System of Truth Initiatives and the Emergence of Narrative Documentation in the Philippines.” International Journal of Transitional Justice 17 (3)
- Laplante, Lisa J., and Kelly Phenicie. 2009. “Mediating Post-Conflict Dialogue: The Media’s Role in Transitional Justice Processes.” Marquette Law Review 93 (1): 251–84
- Harrison, Jackie, and Stefanie Pukallus. 2023. “The Civil Norm Building Role of News Journalism in Post-Civil War Settings.” JOURNALISM 24 (1): 120–38
- الإعلام في مراحل الانتقال السياسي: الحالة التونسية نموذجًا، مركز الجزيرة للدراسات، 2015 (ص11)
- Laplante, Lisa J., and Kelly Phenicie. “Mediating Post-Conflict Dialogue: The Media’s Role in Transitional Justice Processes.” Marquette Law Review 93, no. 1
- نفس المصدر