سنوات يلفها حماس وطموح لا يحده وضع اقتصادي مزرٍ أو إفلاس، موجات طرد جماعي، رواتب متدنية، تعاقد غير مدفوع الأجر، مقابل صعوبة اختراق جمود المؤسسات التقليدية. هكذا وجد كثير من خريجي كليات الإعلام أنفسهم عاجزين عن إيجاد عمل، وعن ترجمة أفكارهم، في وقت يشهد فيه قطاع الصحافة ثورة رقمية لم يتكيف معها الكثيرون، فيما وجد الشباب فيها ضالتهم startups أو الشركات الناشئة.
يمر الإعلام اللبناني من مأزق مالي منذ عام 2005، مما دفع كثر للبحث عن بدائل. في أول تجربة ريادية في مجال الإعلام، أطلقت فيرونيك أبو غزالة شركتها عام 2010، بعدما وجدت أنه من الصعب أن يستمر الإعلام الاقتصادي، في وقت يحتاج هذا القطاع إلى صناع محتوى، وليس فقط في لبنان، إنما أيضاً لشركات أجنبية. انطلقت أستاذة علوم الإعلام والاتصال، من الصحافة المكتوبة، حيث التحقت منذ سنتها الأولى في الجامعة بمؤسسة إعلامية تقليدية لثلاث سنوات، لكن الأمر الواقع دفعها إلى التخلي عن عملها في المؤسسات التقليدية، وقررت إطلاق شركة خاصة بها.
أسست شركة صغيرة لصنع محتوى، عبر فريق عمل خاص من صحافيين عانوا من وضع الإعلام اللبناني، واستفادوا من الخبرات التي يمتلكونها في مجال الصحافة الإلكترونية والمكتوبة. كان تعاملهم بشكل أساسي مع شركات إعلامية خليجية، وخاصة في السعودية والبحرين وقطر، وتنوعت بين مجلات ووكالات كانت بحاجة إلى صناع محتوى يهتم بالاقتصاد والترفيه والسياسة.
استمر عملها إلى حدود العام 2013، وخلال 3 سنوات، قامت ببناء شراكات مع مؤسسات إعلامية خليجية حتى صارت تتعامل مع عشرة جهات. بعد عام 2013 تعرفت أبو غزالة إلى متخصصين في مجال الإعلام الرقمي، وخاصة القيمين على موقع "صحتي.كوم"، وموقع آخر يسمى "أنوثة"، وخلال هذه الفترة بالذات اتجهت نحو الإعلام المتخصص الذي أصبح يستقطب جمهورا كبيرا.
استطاعت عبر التخصص، استهداف بعض فئات الجمهور الذي يفضّل قراءة مواضيع في مجال محدد. وبناء على هذه التجارب، انطلقت نحو تجارب أخرى في التسويق الرقمي من خلال مواقع متخصصة ببيع منتجات معينة.
يشكل الشباب العمود الفقري للشركات الناشئة، وهناك ملاحظة أساسية أن هذه المؤسسات توفر لهم هامشا كبيرا من الحرية في التفكير والإبداع، فهناك تقارب بين الصحافي والإدارة إلى جانب التفاعل مع الأفكار الجديدة وتطبيقها.
تلعب الإعلانات دوراً أساسياً في استمرارية الشركات الناشئة في مجال الإعلام، وتؤكد أبو غزالة أن شركتها الناشئة عملت على استقطاب معلنين جدد في سبيل البحث عن الاستمرار.
قبل الأزمة المالية والاقتصادية بلبنان، كان ثمة دعم للشركات الناشئة من خلال مصرف لبنان. لذلك قلت الاستثمارات في هذا المجال.
تحتاج الشركات الناشئة إلى الخبرات، ويجب أن يدرك الصحافي أنه لن يعمل من التاسعة صباحاً حتى الخامسة عصراً، إذ سيكون هناك ساعات طويلة من العمل، ويتطلب الأمر ابتكارًا وإبداعًا ولن يقف عند حدود تلقي الراتب في نهاية الشهر. تؤكد أبو غزالة أن المستقبل يتجه نحو الإبداع والتخصص، إضافة إلى الريادة في أعمال في الإعلام الذي يرتكز على خطط طويلة الأمد ومداخيل مستمرة. شركات ناشئة في مجال الإعلام تعني خطة مالية وخطة اقتصادية وهي مرتبطة بجمهور ومعلنين يحددون استمراريتها، بينما الشركات التقليدية تنتظر التمويل والدعم المالي السياسي.
من جهته، يشير فيليب سميث، صحافي ومطور منتجات رقمية ومستشار شركات ناشئة في مجال الإعلام، في مقالٍ له إلى أن الإعلام يتجه إلى الشركات الناشئة التي تتكون من 6 مراسلين، ولن تكون بديلا عن المؤسسات التقليدية، بل هي بناء جديد فعال أفضل من النماذج السابقة، إذ تقدم لنا ما نحتاجه.
ويضيف "لنتخيل أن سرباً من المواقع المتخصصة ركز على الأخبار والمعلومات المحلية، منها تناول العقارات، أخرى التنمية، أو الفن والمناسبات الاجتماعية، التكنولوجية والشركات الناشئة، الرياضة، الحكومة والجريمة، وهكذا. كل موقع يغطي جانبا متخصصا من المجتمع، وكل موقع يستطيع الغوص أعمق من أي صحيفة محلية لأنها لا تحاول جمع شيء للجميع. أعتقد أن أفضل رهان نملكه هو العمل من الأدنى إلى الأعلى، حراك صغير وجميل لآلاف المؤسسات الإخبارية الصغيرة".
وبحسب دراسة مشتركة لـ"مهارات" و"دوتشيه فيله" بعنوان "الشركات الإعلامية الناشئة في لبنان" عام 2018، يستضيف لبنان 13% من إجمالي عدد المستثمرين في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، حيث بلغ عدد الإستثمارات في هذا المجال أكثر من 100 استثمار بين العامين 2013 و2016. وأشارت الدراسة أيضا إلى العوائق التي تواجهها الشركات الناشئة، منها غياب المستشارين والحوار وبناء علاقات مع مستثمرين، وكيفية تحويل المحتوى الذي تقدمه الشركات الإعلامية الناشئة إلى محتوى جذاب للجمهور، واستخدام استراتيجيات سليمة في مجال المبيعات والتسويق، كما تعاني من عدم استقرار الدخل المادي، وعنصر المخاطرة المتعارض مع ذهنية التوظيف التي درج عليها الصحافيون، ونقص الخبرة لاسيما بالتسويق وبناء نموذج عمل قابل للاستدامة.
محمد مكاوي، صحافي منتج محتوى للمنصات الرقمية، ومؤسس موقعentrepreunews.com والذي تحول الآن إلى takween.net وهي منصة إلكترونية لأخبار الرياديين، عمل في الإعلام التقليدي من عام 2009 حتى عام 2018. في فترة عمله الأخيرة بدأ يطلع على المنصات الرقمية المتقدمة، الذين يملكون مختبرات بحثية، ويعملون في مجال ريادة الأعمال، ويتمركزون في أماكن حاضنة وaccelerators، مثل Beirut digital district وbeirutech وغيرهم.
توظف لاحقاً في "ومضة"، إحدى الشركات الناشئة، ولمس النقلة التي يقوم بها قطاع الإعلام، والتي كان لبنان متخلفا عنها، في وقت يعتبر نفسه من بين الأفضل. الانتقال كان مكلفا، حيث أقفلت مؤسسات إعلامية كثيرة مع ما رافقها من موجات طرد جماعية. خرج مكاوي من هذه التجربة مقتنعا أنه بحاجة إلى أفق جديد وأنه لديه رواية لابد أن يحكيها.
بدأ يخطط لمشروعه بين عامي 2016 و2017. يومها لم تكن هناك مواقع إلكترونية كثيرة متخصصة في ريادة الأعمال وأخبارها. كان يريد أن يؤسس لمعرفة واعية حول الموضوع عبر القراءة والمشاركة في المؤتمرات، ولعل أهم ما خرج به هو فهمه للدمج بين التكنولوجيا والمعلومة والذكاء الإصطناعي، وتعرف إلى مواقع تكتب الآلات مقالاتها. لكنه لم يجد مصادر عن الموضوع باللغة العربية، وهذا كان أحد الأسباب لإنشاء منصة حول ريادة الأعمال، فقرر الدخول في هذا المجتمع والتحدث عنه باللغة العربية عبر الفيديو.
والحال أن المنصات عانت من عراقيل كثيرة، بيد أنه في السنة الأخيرة قرر العمل جدياً عليها، حيث تبلغ في شهر تموز/ يوليو قبوله في برنامج حضانة للشبكة الدولية للصحافيين، وبدأ يعمل بشكل منهجي على الإدارة والتفكير النقدي والتفكير في التصميم والاستراتيجية التي ستقوده إلى النجاح، لكنه كانت تعوزه الموارد.
تزامن إطلاق منصته مع الانهيار الاتصادي في لبنان، حيث أصبحت المشاريع الجديدة في حالة جمود حالياً، فأقصى ما يستطعون القيام به هو تجديد منصاتهم، عبر تقديم محتوى جديد أو تجديده. ويستبعد حالياً توفر أي استثمارات جديدة قبل نهاية العام الحالي، فكل موارد الكوكب تتجه لحل أزمة الكورونا، ولن يجد الرياديون آذانا صاغية إلا في حال عملوا في مجالات مرتبطة بالأزمة.
لم تخلق الشركات الناشئة أسسًا جديدة للعمل الصحفي، بحسب مكاوي، إنما تغيرت آليات تطبيقها، وتطور شكل المقالات، وهذا مرتبط بسلوك المستخدمين.. وعلى هذا النحو أصبحت الصحافة مزيجا بين الصحافة والتسويق، فاستراتيجية تقديم المقال تغيرت، وبات من الضروري تطوير هذا المنتج ليصبح ذا تنافسية عالية أمام مؤسسات ضخمة كالتلفزيون.
فشلت تجارب إعلامية تكاد تكون تجارية، إذ أن هذا النموذج يؤول في الغالب إلى الفشل، والرهان هو الجمع بين الربح والمضمون كي تستمر.
يواجه الوافدون حديثاُ إلى مجال الشركات الناشئة صعوبات مادية ولوجيستية، فرغم كثرة الحديث عن انخفاض الكلفة وسهولة إنتاج المادة الصحافية، مثل صحافة الموبايل، إلا أن مكاوي يفضل، كشخص محترف، اعتماد الأساليب المحترفة للتصوير والإنتاج.
لا يبدو مكاوي متفائلا بمستقبل مهنة الإعلام، وبات يدعوا الطلاب إلى التخلي عن تخصص الصحافة والتوجه إلى اختصاص آخر، فهو لم يعد اختصاصًا يدرس في الجامعة، بل يرتبط أكثر بالشخصية وقدرة الفرد على الخطابة، فيما لم يعد السوق يحتمل مؤسسات جديدة، في وقت انطفأت عظمة التلفزيون والصحف. يتجه الإعلام اليوم نحو التخصص الدقيق جداً في الإعلام، وهذا ما يؤمن إحدى الخدمات الأساسية للإعلام وهي الخدمة المرجعية.