أين ينتهي دور الصحفي؟ وأين يبدأ دور المناضل؟ فبين الطرفين تبدو خطوط التماس مشتبكة، ومساحات الظل كبيرة.
تقول المبادئ التي تدرّس في معاهد الإعلام وتنص عليها مواثيق الشرف في بعض المؤسسات الإعلامية؛ بضرورة الفصل بين الرأي والخبر، وبالتزام الموضوعية والنزاهة والحياد.
هل يوجد حياد في الصحافة؟
دعنا من الإجابة السريعة عن السؤال، ولنعد إلى الوراء لنقرأ على عجل بعضا مما كُتب حول ولادة هذه المهنة ونشأتها وتحولاتها، ففي ذلك ما قد يساعد على الإمساك ببعض عناصر الإجابة.
في البدء كانت السياسة والأدب وإن لبسا جبة الصحافة. تقول الدراسات التي تؤرخ للمهنة إن أول صحيفة أسست بالمعنى الحديث للكلمة، واسمها صحيفة "لاكازيت"، صدرت عام 1631. وكان صاحبها ثيوفراست متخصصا أول الأمر في تجميع المعلومات المتعلقة بالمحاكم ونشرها، دون أن يحظى عمله هذا بأي تقدير في المجتمع، بل كان ينظر إليه كمن يمشي بين الناس بالنميمة وهتك الأستار. وتلك قصة أخرى، فالاعتراف الاجتماعي بالمهنة جاء متأخرا، وربما لم تحصل عليه بشكل كامل إلى اليوم.
قبل تجربة "لاكازيت" وبعدها، صدرت منشورات كثيرة تصدق تسميتها بالصحف، لكن من كانوا يكتبون فيها أطلقت عليهم كل الأسماء إلا أن يكونوا صحفيين. فهم أدباء وسياسيون ومفكرون، ومعظمهم لم يحصلوا على الاعتراف الكامل بجدارتهم في ميدانهم الأول، فكانت الصحافة ملجأهم. كانوا يمارسون "الصحافة" من بوابة النضال السياسي أو البحث عن الانتشار، دون أن تمثل بالنسبة لهم عملا مهنيا أو عملا قارّا. أما مهنة الصحفي بهذا الاسم فلم تظهر إلا عام 1864.
بعد عقود، استوت المهنة على شكلها الذي يعرفه كل الناس، لكنها لم تتخلص من "خطيئة الولادة". انتصرت في معركة الاعتراف الرسمي والاجتماعي، لكنها لم تستطع ترسيم حدودها ولا تسييج ميدانها، وما زال يُنظر إليها سوسيولوجيًّا بأنها "شبه مهنة".
ليس في الأمر انتقاص من الصحافة، بل ثمة التباس، ومرده تداخل جدلي بين الصحافة كمهنة وحرية التعبير كقيمة. فالصحفيون يمارسون مهنتهم وفقا لقيمة حرية التعبير التي هي في الأصل مكفولة لجميع المواطنين. وبمقتضى هذه الحرية يمكن لأي مواطن أن يصبح "صحفيا" حتى لو لم يتم الاعتراف به من قبل الهيئات المنظمة لممارسة المهنة في بلده. من يمكنه الآن منع فرد من تسمية نفسه صحفيا، أو حتى من إنشاء وسيلته الإعلامية الخاصة، ولتكن مجرد قناة على اليوتيوب أو صفحة على الفيسبوك؟
جاءت الثورة التكنولوجية وأضافت عبئا آخر على مهنة تبدو القواعد فيها سائلة سيولة المفاهيم ذاتها: الموضوعية، الحياد، المهنية.. وغيرها.
السؤال الذي طرحناه في البداية سيغدو أكثر إلحاحا مع هذه الثورة التقنية. لنُعد طرحه: أين ينتهي دور الصحفي؟ وأين يبدأ دور المناضل؟
القراءة التاريخية السريعة تقول لنا إن علاقة الصحافة بالسياسة عند لحظة الولادة كانت أشبه ما تكون بتوأم سيامي، ويبدو أن عملية الفصل لم تنجح تماما حتى الآن.
ليس ثمة من هو معني بالإجابة عن عملية فصل الصحافة بالسياسة أكثر من الصحفيين أنفسهم، فلنطرح عليهم السؤال: هل تعتبرون أنفسكم ناقلين للخبر أم مناضلين؟ هل أنتم محايدون أم منخرطون؟ هل تعتبرون أن دوركم مجرد "وساطة" بين مصادر الخبر والجمهور، أم أن مهمتكم تتجاوز ذلك؟
هذه الأسئلة ليست جديدة، وهي تلخص السجال النظري بشأن وظائف الصحافة بين الوظيفة العاكسة التي تقول بأن الصحافة يجب أن تعكس واقع الحال كما هو بإيجابياته وسلبياته دون تدخل، وبين الوظيفة الفاعلة التي ترى أن من مهام الصحافة التطلع إلى استنبات واقع جديد. والحدود بين هاتين الوظيفتين غير مرسومة بشكل دقيق، إذ ثمة تداخل كبير بينهما، وجدل مستمر لم ينته بعد.
في الولايات المتحدة، بينت الدراسات أن الصحفيين يميلون إلى تفضيل الموضوعية وعدم المشاركة، وذاك على خلاف المدرسة الفرنسية التي عرف عنها تاريخيا تفضيل انخراط الصحفيين الحزبي والأيدولوجي. أما في العالم العربي فهناك نزوع عام نحو تبني الصحافة باعتبارها منبرا للخطابة وميدانا للنضال وساحة للمعارك السياسية، بل ومدرسة للتعليم.
في دراسة أنجزتُها حول صحفيي المغرب، قال ثلثا المستجوبين إنهم يؤمنون بدور الصحفي المنخرط الذي يدافع عن الطبقات الضعيفة في المجتمع، ويساهم في الإصلاح السياسي، بينما رأى الثلث الآخر أن دور الصحفي يجب أن ينحصر في نقل الأخبار فقط.
فعلى هذا المستوى، هناك إقرار بأن مهنة الصحافة بشكل عام لا يمكن أن تتجرد من الذاتية. وعلى الرغم من أن الفصل بين "الرأي" و"الخبر" يمثل مسلمات الصحافة الحديثة، فثمة من يسأل هل يمكن للخبر أن يكون مجردا عن الأهواء، أم أن التحيز يمثل بشكل من الأشكال جزءا من العملية الإخبارية؟.
إن وظائف الصحافة على هذا المستوى تتجاوز حدود الإخبار إلى أدوار متعددة موزعة على مهن أخرى: المعلم، والفقيه، والمناضل الاجتماعي، والمناضل السياسي. وترتبط هذه القناعة بأخرى أكثر بداهة في الوسط الإعلامي، تتمثل في كون الصحفي ممثلا للشعب أو لرأي أغلبيته. فالصحفي يتمتع -وفقا لهذه القناعة- بتفويض شعبي غير معلن وغير ملموس، فلا أحد انتخبه، ولا أحد طلب منه الحديث باسم الشعب، ولا أحد خوّله هذا الحق في عملية انتخابية أو غيرها، ولكنه يمنح نفسه هذا الحق منطلقا من مهنة الصحافة ذاتها لأسباب تاريخية ارتبطت بنشأة هذه المهنة. والصحفي يتصرف بمقتضى هذا التمثيل الذي يمنحه نوعا من السلطة الرمزية.
هذا نقاش نظري يقول فيه الصحفيون ما يرون أنه أمثل للمهنة وأنبل لها، وهم يقولون إنهم يفضلون الانخراط في القضايا التي يعالجونها. وإذا ألقينا نظرة على الممارسة المهنية فلن نجد نقيضا لهذا القول، رغم أن الصحفيين حريصون على ما يسمى "الطقوس الشعائرية للصحافة". تلك الطقوس التي تجعلهم يبدون كما لو كانوا متوازنين، ومهنيين، وقريبين من الحقيقة. كأنما "التحيز" والعبور بين وظيفتي "الصحفي" و"السياسي" يتم بسلاسة و"بكل مهنية".
ولنبدأ من المهمة الأولى التي يبدأ بها الصحفي يومه؛ اجتماع التحرير. في هذا الاجتماع يقوم الصحفي/المؤسسة بمهمة "حارس البوابة". وحارس البوابة مرتبط بنظرية في علم الاجتماع الإعلامي تقول إن الصحفي عليه أن يختار كل يوم مجموعة محددة من الأخبار من بين كم كبير منها، وهو في ذلك يقوم بدور حارس يسمح لبعض الأخبار بأن تمر من البوابة التي يقف عليها ويمنع أخرى.
ما هي المعايير التي تحدد اختيار الصحفي أو رئيس التحرير لهذا الخبر وإغفال ذاك؟ وبناء على أي أساس يتم التركيز على خبر وجعله عنوانا رئيسيا، وعدم الاهتمام بآخر وتقديمه بشكل مختصر؟
يجيب الصحفيون المبتدئون بسعادة غامرة بأن عملية الانتقاء تحكمها معايير مهنية صرفة يلخصونها غالبا في الجدة، والأهمية، والطرافة وغيرها مما تلقوه في معاهد الصحافة. لكن ما لا يقوله الصحفيون عادة، هو أن هناك اعتبارات أخرى أحيانا تتدخل في عملية الانتقاء وفي طريقة المعالجة، وهي اعتبارات ليست دائما مهنية، تبدأ بتوجيهات مسؤولي المؤسسة الذين لهم علاقاتهم مع جهات أخرى من السلطة وأصحاب النفوذ، ولا تنتهي بمواقف الصحفي السياسية أو حتى حساباته المصلحية والمالية أحيانا.
والمهم بالنسبة للصحفي في كل هذا، أن يقدم الخبر أو التقرير بصورة ظاهرها على الأقل مهني، متوازن، موضوعي، تماما كحكم القاضي الذي يهمه أن يصدر هذا الحكم مطابقا لنص القانون، ومعللا بشكل كاف.
لنتحدث عن الأمر بوضوح: إن الرؤية التي تعتبر أن الصحفي مجرد وسيط، ودوره ليس سوى نقل صورة عما يحدث في "العالم الحقيقي" بكل أمانة وتجرد، تبدو مثالية إن لم تكن ساذجة. والصحفي يصعب عليه عادة التجرد من ذاته ومن نظرته الخاصة للعالم، ولا يمكنه أن يتحول إلى مجرد مرآة أو آلة فوتوغرافية تنقل الوقائع، دون أن يضفي عليها بعضا من روحه، فذاك يخالف طبيعة البشر والمهنة. وهو إن رغب في ذلك ينتمي إلى مؤسسة لها خطها التحريري ووجهتها السياسية، ولا يملك من أمره خيارا.
لذلك، في تعريف آخر للخبر، يمكن القول إنه نتيجة لتفاعل عناصر متعددة بعضها مرتبط بالبنية الاقتصادية للمؤسسة الإعلامية، وبعضها الآخر بالمناخ الثقافي الذي توجد فيه هذه المؤسسة، وأخرى مرتبطة بمصادر الأخبار وتدبير المنافسة مع بقية وسائل الإعلام. والصحفي يعيش على إيقاع مفاوضات مستمرة مع فاعلين كثر: مالكي وسائل الإعلام، والمؤسسات السياسية، ومجموعات الضغط، والمعلنين.. والتفاعلات بين مختلف هؤلاء الفاعلين هي التي تؤدي إلى الصياغة النهائية للخبر.
ولا يحتاج الصحفي للقيام بهذا الدور إلى الإعلان عن مواقف مناصرة أو معادية لفكرة أو سلطة أو جهة، بل إن العملية المهنية برمتها بدءا من انتقاء الخبر، ومرورا بالصياغة واللغة المستعملة، وصولا إلى الإخراج، كلها تصب في المصب ذاته.
لعله من المناسب القول إنه لا يوجد شيء اسمه الحياد. الحياد هو درجة الصفر من المشاعر تجاه قضية أو شخص، وهذا أمر لم يُؤت لبشر. وهو مجرد فكرة هلامية تنتمي إلى عالم النظريات التي لا أصل لها. لكنه من المناسب أيضا مطالبة الصحفيين -ومؤسساتهم- بأن الحقيقة تأتي على رأس الأولويات، وليس التوجيه بشكل مباشر أو غير مباشر. وأقدس الواجبات هو نقل الأخبار وتحليلها وبسط خلفياتها بدقة ونزاهة، ودون اعتبار للخلفيات السياسية أو الأيدولوجية أو المالية.
إن هذا اللبس المرتبط بتصور الصحفيين لأدوارهم في المجتمع، يجد أثره في المجتمع أيضا، حيث إن فهم الناس للصحافة ودورها متباين بتباين الطبقات الاجتماعية والمستويات التعليمية.
وأختم بهذه القصة التي حكاها لي وزير الاتصال ونقيب الصحفيين المغربي الأسبق العربي المساري رحمه الله عام 2010 في بيته بالرباط. يقول المساري: في العام 1976 ترشحت للانتخابات التشريعية في منطقة قروية شمالي المغرب، وكان الناس يسألون عن مهنتي، فكنت أجيب بأنني صحفي، فيسأل الناس: وما معنى صحفي؟ فيقول رئيس الحملة: الصحفي رجل يرى ما يحدث في الدنيا ويتابع أحوال الناس، ويكتب عن ذلك. فيقولون: هو إذن شرطي، فيرد: لا.. الصحفي يفتح عينيه جيدا على العالم، ويصغي للناس كي يشرح لهم الأمور لكي يفهموا ما يجري، فيقولون: إذن هو فقيه".
إن هذه القصة معبرة جدا، فصورة الصحفي في المتخيل الشعبي تتراوح بين سلطة الشرطي وسلطة الفقيه. ويبدو أن الصحفي نفسه لم يحسم الأمر أيضا.
المصادر:
1- Sandrine Leveque, Analyser la profession journalistique" par le bas", Ouvrage collectif, Harmattan, Paris, 2004, P : 21.
2- محمد البقالي، سؤال المهنية والأيدولوجيا في الصحافة .
3- عثمان بنعمان، بؤس الصحافة ومجد الصحفيين، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2009، الدار البيضاء، ص: 56.
4- Grégory Derville, "Le journaliste et ses contraintes", Les Cahiers du journalisme; N: 6, Lille, Oct 1999, pp : 152-160.
5- العربي المساري، مقابلة مع الباحث.