* مقال فائز بالجائزة التقديرية لأفضل مقال لمجلة الصحافة
شهد العالم خلال العقد الماضي انتشارًا واسعًا لمواقع "تدقيق الحقائق" (Fact Checking)، بعضها تابع لمؤسسات إعلامية كبيرة مثل وكالة الصحافة الفرنسية وصحيفة "واشنطن بوست"، والبعض الآخر تابع لمؤسسات مستقلة غير ربحية مثل موقع "بوليتيفاكت" (PolitiFact) التابع لمؤسسة "بوينتر" (Poynter) الأمريكية، وموقع "فاكت تشيك" (FactCheck) التابع لمركز "آننبرغ بوبليك بوليسي" (Annenberg Public Policy) في جامعة بنسلفانيا.
تقوم هذه المنصّات بعمليّة "تقصّي الحقائق"(1)، أي التثبّت من مدى صحة ودقة الادعاءات التي تدور في الفضاء العام. وقد يكون صاحب هذه الادعاءات شخصيات عامّة بارزة كرؤساء الدول، والوزراء، والمرشحين السياسيين، وأصحاب رؤوس الأموال. وقد تكون ادعاءات منشورة في إحدى وسائل الإعلام العالمية أو المحلية، سواء كانت تقليدية أم إلكترونية، أو منشورة على وسائل التواصل الاجتماعي من قبل أحد أفراد المجتمع، أو واردة في بيان صحفي لإحدى المنظمات أو الشركات، حول مواضيع سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية. ويُشترط (2) في هذه الادعاءات أن تكون قد قيلت بالفعل، ولم يتم تلفيقها، وأن تتعلق بحقائق لا بآراء، وأن تكون ذات أثر مباشر على المجتمع وأفراده. فمواقع "تدقيق الحقائق" ليست معنية بالتقصّي وراء تصريح شخصية عامة عن سبب طلاقه مثلا، ولكنها معنية بالتأكيد عندما يكون تصريحًا حول تدني نسبة الفقر في الدولة. وقد بدأت وانتشرت مواقع "تدقيق الحقائق" السياسية في الولايات المتحدة عام 2003.(3)
ومن الجدير بالذكر أنّه عادةً ما يتم الخلط بين عمليّة" تقصّي الحقائق" (Fact-checking) وعمليّة "التّحقّق من صحّة الأخبار" (News verification) التي تقوم على التحقق من صحة صورة، أو فيديو، أو تصريح منسوب لشخصية عامة، أو رسم بياني، إذ تكون مهمة الموقع أن يتأكد من أنّ المادة المنشورة في الفضاء العام -خصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي- ليست مُفبركة، ولا مُستخدمة في سياق خاطئ، وذلك من خلال الاستعانة بمجموعة من البرامج، وتقنيات الذكاء الاصطناعي. وقد انتشر هذا النوع حول العالم مع تفشّي ظاهرة الأخبار الكاذبة منذ العام 2010، ومنها جهات التّحقّق المستقلّة التي تعاونت معهم فيسبوك للكشف عن المحتوى الزائف، وتقليل انتشاره على منصتها. هناك منصّات متخصّصة بتقصّي الحقائق، ومنصّات متخصّصة بالتّحقق من صحة الأخبار، وأخرى تقوم بكلتا العمليّتين معًا.
ولتوضيح الفرق بين العمليّتين بشكل أفضل، نسوق المثال التالي: إذا كان هناك تصريح منتشر على مواقع التواصل الاجتماعي منسوب لرئيس الوزراء في دولة ما حول انخفاض نسبة البطالة، فمهمة المواقع التي تقوم بـ "التّحقّق من صحّة الأخبار" أن تتأكد مما إذا كان الوزير قد قال هذا التصريح فعلا، أم تمّ تلفيقه فقط. أما المواقع التي تقوم بـ"تقصّي الحقائق" فتبدأ مهمتها بعد التأكد من أن الوزير قال التصريح بالفعل، إذ تقارن المعلومات الواردة في تصريحه بما يحصل على أرض الواقع عبر الاستعانة بالوثائق والإحصاءات وآراء الخبراء، لمعرفة إن كانت نسبة البطالة انخفضت بالفعل، أم أنّ تصريح رئيس الوزراء مضلّل.
تهدف منصّات "تدقيق الحقائق" إلى رفع مستوى الوعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لأفراد المجتمع لجعلهم أفرادًا فاعلين، وإلى زيادة مناعتهم ضد المعلومات المضلّلة والشائعات، وجعلهم أكثر قدرة على مساءلة الادعاءات التي يسمعونها ويرونها قبل أن يصدّقوها وينشروها. وانطلاقًا من هذه الأهداف، بادرت مجموعات شبابية مختلفة في الأردن وسوريا ومصر ولبنان (4) وقطر خلال السنوات الخمس الماضية بإطلاق مواقع و منصّات تحت مُسمّى (Fact-checking) تفحص ما يُنشر في وسائل الإعلام بشكل عام، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص. ولكن يواجه القائمون على هذه المبادرات معيقات وتحدّيات تحول بينهم وبين تحقيق أهدافهم، فمن خلال إلقاء نظرة فاحصة على المشاريع العربية، ومقارنتها بمشاريع أخرى من نفس النوع حول العالم، نرى أنّ هناك قصورًا في طريقة التنفيذ.
نستعرض في هذه المادة المعيقات والتحدّيات التي تقف أمام مبادرات "تدقيق حقائق" فاعِلة في الوطن العربي، ونوضّح كيف تؤثر هذه المعيقات على طريقة تنفيذ المشاريع الموجودة حاليا من خلال ملاحظة الفروقات بينها وبين مشاريع بارزة في هذا المجال مثل "بوليتيفاكت" و"أفريكا تشيك" من جهة، وكيف تباعد طريقة التنفيذ بين رؤية وأهداف القائمين على المشاريع وبين تحقيقها من جهة أخرى.
فهم قاصر ومشوّش
تُركّز معظم المبادرات العربيّة على "التّحقّق من صحّة الأخبار"، إذ تكتفي بإخبار الناس أنّ فيديو أو تصريحا أو صورة ما مُفبركة، أو أنّها استُخدمت في غير سياقها فقط. وتعتمد في ذلك على تقنيّات الذكاء الاصطناعي بشكل رئيسي، ويغيب فيها الدور التقليدي للصحفي في النزول إلى الميدان، والبحث عن المصدر والتواصل معه، وهذا يُحدث قصورًا في الجانب الصحفي من التدقيق، فيتم الخلط بينه وبين الجانب التّقني، ويصبح مجرّد التحقّق من صورة ما باستخدام تقنيّة البحث العكسي على "Google Reverse Image Search"، ونشر مقال يُوضّح أنّ الصورة مُفبركة، وعرض الصورة الأصليّة، عملا صحفيًّا بينما هو عمل تقني.
وما نعنيه بالجانب الصّحفي من العمل هو طريقة التفكير النقدي والمنهجي، ومراعاة المبادئ الصحفيّة عند إعداد أي مادة، حيث يجب أن تكون هناك معايير مهنية لاختيار الأخبار بحيث تُراعى القيمة الخبرية فيها، فليس كل ما يُفبرك على الإنترنت يجب تصحيحه، بل يجب أن يكون ذا أثر مباشر على المجتمع وعلى الرأي العام. فعلى سبيل المثال، تصحيح فيديو مفبرك عن القبض على شخص في نيويورك لأنه لا يحمل تذكرة مترو، أو تصحيح تغريدة فنان تحدّث فيها عن فنان آخر، أو تصحيح فيديو عن هجوم أسراب من البعوض على الصين، ليس لها أثر مباشر على المواطن العربي. أما تصحيح فيديو حول عدد المصابين بفيروس كورونا في إحدى الدول العربية فيحمل قيمة خبرية، ويؤثر على النقاش في الفضاء العام في العالم العربي.
إضافة إلى ذلك تفرض المعايير المهنية (5) ألا يلعب رأي الصحفي أو ميوله السياسية أو الأيدولوجيّة دورًا في التركيز على تصحيح أخبار عن جهة معينة أكثر من جهة أخرى، كما أنّه يجب أن تكون هناك سياسات تحريرية محدّدة تشتمل على دقّة ووضوح اللغة، والعودة إلى مصدر الخبر أو الصورة أو الفيديو، سواء أكان ذلك المصدر وثيقة أو دراسة أو إحصائيّة أو بيانا صحفيا أو تسجيلا صوتيا، أو جهة أو شخصا يجب التواصل معه، فلا يكفي التحقّق من فبركة صورة ما، بل يجب محاولة الوصول إلى مصوّرها، أو الشخص الذي يظهر فيها. ولا ينبغي تهميش الاستقصاء في عملية التدقيق، فهناك أخبار ومعلومات تتطلّب من الصحفي النزول إلى الميدان للتأكّد منها، كما أنّ توضيح الأدوات التي تم استخدامها في التحقّق، من السياسات التحريرية المهمة التي تمكّن الفرد من التأكد بنفسه من الأخبار.
ويمكننا أن نعزو عدم إدراك الجانب الصحفي في مواقع "تدقيق الحقائق" العربية إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
1- حداثة الفكرة وانتشارها الكبير والسريع حول العالم.
2- المصطلح نفسُه.
3- غياب الصحفيين بشكل عام.
فكرة جديدة.. انتشار سريع
إن حداثة الفكرة وانتشارها الكبير والسريع ساهما في حدوث تشويش عليها، ففي أقل من 20 عامًا انتقلت مشاريع "تدقيق الحقائق" من الولايات المتحدة إلى معظم دول العالم، حتى إنّ أستاذ الصحافة في جامعة "ويسكونسن" لوكاس غريفز يقول: "من الصعب إيجاد فكرة جديدة في الصحافة انتشرت حول العالم بهذه السرعة، حتى فكرة المقابلات الإخبارية -فكرة أنك ستقابل مصدرًا وستقتبس من كلامه في الصحيفة- التي تم اختراعها في النصف الثاني من القرن، استغرق انتشارها حول العالم أكثر من نصف قرن" (6). ومن الطبيعي أن تأخذ أي فكرة جديدة وقتًا حتى يتم استيعابها وضبطها كما يجب.
ونلاحظ عندما نبحث عن مصطلح "تدقيق الحقائق" أنّه فضفاض ويُحيل على معانٍ كثيرة، وقد يقصد منه شكل جديد من أشكال الصحافة يقوم على نشر تقارير تُعنى إمّا بتصحيح الأخبار والادعاءات الزائفة والمُفبركة، أو بالتأكّد من دقّة المعلومات الواردة في تصريحات حقيقية لشخصيّات عامّة (7). ويحيل كذلك إلى الممارسة الصحفية فقط، وتعني تأكّد الصحفي من دقّة الاقتباسات والأسماء والتواريخ وغيرها من المعلومات قبل نشر مادّته. كما يحيل إلى الممارسة التقنية فقط، وتعني عمليّة التحقّق من الأخبار والصور ومقاطع الفيديو، وكل ما يتم نشره على الإنترنت بشكل عام، ومواقع التواصل الاجتماعي بشكل خاص، باستخدام البرامج وتقنيات الذكاء الاصطناعي.
ليس هذا فقط، فقد صار المصطلح يحيل إلى ثقافة يجب نشرها لمحاربة الشائعات والخرافات في المجتمع، وتقوم على تحقّق الفرد من مصادر معلوماته أيًّا كانت، فلا يُشترط فيها أن تكون أخبارًا، بل قد تكون خرافات صحية أو دينية أو اجتماعية. وعلى الرغم من هذه الإحالات الكثيرة للمصطلح فغالبًا ما يتم استخدامه على أنّه ذو دلالة واحدة، ونتيجة لذلك يتم الخلط بين الممارسة التقنيّة والشكل الصحفي، ويتم التعامل معهما على أنّهما شيء واحد.
المبرمج مكان الصحفي
أمّا غياب الصحفيين عن هذا المجال فيرجع إلى الفجوة التكنولوجيّة التي يعانون منها في عملهم (8)، فإدماج التكنولوجيا في مهنة الصحافة كمتطلب رئيسي يعدّ مطلبًا حديثًا وسريع التطوّر، ففي كل يوم هناك أداة أو برنامج أو تقنية جديدة يتعيّن على الصحفي تعلّمها واستخدامها في عمله. وبينما أصبحت المهارات التكنولوجيّة بهذه الأهميّة للصحفي، لا تستطيع جميع المؤسسات الإعلامية تحمّل تكاليف تنظيم برامج تدريب لصحفييها، وليس هناك برامج تراعي في تصميمها هذه النقلة النوعية في المهنة في كليّات الصحافة والإعلام العربية، ولذلك يُعاني كلا الجيلين القديم والجديد من الصحفيين الأكفاء من هذه الهُوّة. ونتيجة لذلك يكون حضور المتخصصين في علوم الحاسب والبرمجة طاغيا في مثل هذه المبادرات على حضور الصحفيين، خصوصًا أنّ المبادرات العربيّة في معظمها مبادرات شبابيّة مستقلّة ليست تابعة لمؤسسات إعلاميّة، أو لمراكز بحثيّة، أو لمؤسسات مجتمع مدني.
وطالما أنّ رفع الوعي وتمكين الفرد وتثقيفه هو الهدف الحقيقي وراء "تدقيق الحقائق"، نجد أنّ المواقع الأمريكية تُركّز على تقصّي الحقائق في المعلومات الواردة في تصريحات الشخصيّات العامّة حول الشؤون الداخلية في البلاد وتطابقها مع الواقع، إضافة إلى التحقّق من الأخبار والصور ومقاطع الفيديو المفبركة المُتداولة في الفضاء العام، أي أنّها تقوم بتقصّي الحقائق و التحقّق من صحّة الأخبار على حدٍ سواء.
وبينما اتّبعت المواقع في أوروبا وجنوب أفريقيا النموذج الأمريكي ذاته، اقتصرت المواقع في دول أخرى كالدول العربيّة والهند والصين على التركيز على التحقّق التّقني من الأخبار، إذ لا يتم التطرّق إلى تدقيق الادعاءات الواردة في تصريحات الشخصيّات العامّة، رغم أنّ تضليل الرأي العام بمعلومات خاطئة لا يقل خطورة عن فبركة المعلومات ذاتها.
من أمثلة ذلك، تفنيد موقع "بوليتيفاكت" لادعاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في حملته الانتخابية الحالية بأنّه أنعش الاقتصاد الأمريكي الذي ورثه ضعيفًا عن إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، وهو التثبت الذي يرفع من وعي المواطن الأمريكي ويؤثّر على قراره الانتخابي. وللتدقيق في مزاعم ترامب خلال الجلسة المشتركة للكونغرس يوم 4 فبراير/شباط 2020، التي قال فيها "لقد انتهت سنوات الانحطاط الاقتصادي"، و"لو أننا لم نغير السياسات الاقتصادية الفاشلة للإدارة السابقة، لما شهد العالم هذا النجاح الاقتصادي الكبير"، راجع الموقع 15 إحصائية اقتصادية رسمية حول معدلات البطالة، وإجمالي نمو الناتج المحلي، ومعدلات الفقر، وغيرها، التي تغطي الفترة منذ الركود العظيم عام 2008 إلى الآن، فوجد أنّ ترامب ورث اقتصادًا ناجحًا عن الإدارة السابقة، وذلك على عكس الرئيس السابق باراك أوباما الذي ورث الركود العظيم عن جورج دبليو بوش (9).
ومن ذلك أيضا، تصحيح موقع "أفريكا تشيك" لادعاءات رئيس جنوب أفريقيا سيريل رامافوزا حول إنجازات الحكومة منذ أول انتخابات ديمقراطية قبل 25 عامًا في البلاد، وهو مثال يرفع من وعي المواطن ويؤثر على الرأي العام تجاه الأداء الحكومي في البلاد (10). وهكذا يكون الأثر المباشر لتدقيق الحقائق هو جعل المواطن فاعلا ومشاركا في المجتمع. ولكن يصعُب على الصحفيين العرب القيام بذلك لسببين رئيسيّين:
خوف من مصير معروف
يمكن التعبير عن صحافة "تدقيق الحقائق" بأنّها صحافة استقصائية تلاحق المعلومات الواردة في التصريحات، خصوصًا تلك التي يدلي بها السياسيون للتثبّت من صحتها ودقتها من خلال الرجوع إلى الإحصائيات والوثائق والتحليلات والوقائع لإثباتها أو تفنيدها. وفي ظل تدهور حرية الصحافة في الوطن العربي، وتعرّض الكثير من الصحفيين للتهديد والاعتقال والقتل، لن يجرُؤ الصحفيون على تطبيق صحافة "تدقيق حقائق" فاعلة.
وفقًا لتقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" حول حرية الصحافة في العالم عام 2019، فإنّ منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تُعتبر المنطقة الأخطر على سلامة الصحفيين، وخطرها لا يقتصر فقط على ممارسات رسمية ضدهم، وإنما يشمل اعتداءات واغتيالات انتقامية تنفذها جهات غير رسمية، خصوصًا في ظل الاضطرابات والانقسامات السياسية التي يعاني منها العالم العربي في الوقت الراهن. ووفقا لليونسكو، فقد بلغ عدد القتلى من الصحفيين في أول شهرين من العام الجاري 12 صحفيا، ستة منهم في دول عربية (العراق وسوريا والصومال) (11). وفي المقابل لا يوجد في معظم الدول العربية قوانين تضمن حماية الصحفيين، ولا يوجد استقلال للنظام القضائي، ولا توجد تشريعات تضمن حرية الصحافة، ولا تنفيذ فاعل للالتزامات الدولية حول حرية الإعلام.
على الرغم من أنّ حرية التعبير عن الرأي وحرية الإعلام منصوص عليهما في معظم الدساتير العربية، فإنّ المصطلحات الفضفاضة مثل "في حدود القانون"، وعدم مخالفة "المصلحة العامة"، وعدم نشر معلومات تُخالف "النظام العام"، والصحفي حُر "لا سُلطان عليه إلا القانون"، وعدم "الإضرار" بالصحفي ما لم يكن فعله "مخالفًا للقانون"، دون تحريرها وتوضيحها، من شأنه أن يُوسّع دائرة تجريم العمل الصحفي، ويجعل الإضرار به قانونيًّا إذا خالف القانون. وكذلك كلمة "إضرار" تجعل من طبيعة العقوبة وشكلها أمرا غير واضح، ويحتمل أن يكون أكثر العقوبات قسوةً على "مخالفة القانون". وتتراوح العقوبة من الاعتقال، إلى الخطف والإخفاء القسري، والاحتجاز، وصولا إلى الاغتيال.
وذلك على العكس تمامًا من القانون في الولايات المتحدة -مثلا- الذي لا يسمح للكونغرس بإقرار قوانين تحد من حرية الصحافة، وكذلك القوانين في معظم الدول الأوروبية، وفي جنوب أفريقيا، والدول الإسكندنافية التي تضمن حرية الصحافة، مع أنّ هناك تجريما لبعض الأفعال، ولكن يتم تحديدها. وهكذا، يُعاقب القانون الفرنسي على تبرير جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، وأعمال العنف. ومع أنّ تصاعد اليمين في الغرب أثّر على حرية الصحافة في السنوات الأخيرة (12)، إذ أظهر تقرير منظمة "مراسلون بلا حدود" أنّ هناك تراجعًا في حرية الصحافة على مستوى العالم كله، وأنّ الكراهية ضد الصحفيين تزداد، وأنّ إلحاق الأذى بهم لم يعُد حكرًا على دول العالم الثالث، فإن المناخ الديمقراطي واستقلال النظام القضائي في تلك الديمقراطيّات، يُشكّلان حماية للصحفيين.
فالتقرير الذي نشره موقع "بوليتيفاكت" وفيه تفنيد لادعاء مرشح الحزب الديموقراطي في الولايات المتحدة جو بايدن (13) أنّ تكلفة تأمين العلاج المجاني لجميع الأمريكيين أكبر من ميزانية البلاد، لم يُعرّض حياة الصحفي الذي نشره للخطر، وكذلك التقارير التي ينشرها الموقع حول ادعاءات المرشحين الآخرين، وادعاءات دونالد ترامب. ولكن نشر تقارير مماثلة فيها تفنيد لادعاء أحد المسؤولين في أيٍّ من الدول العربية قد يُعتبر "مخالفًا للقانون" لأنه يثير الفتنة ويُهدّد الأمن العام، وبالتالي يستحق "الإضرار" بالصحفي الذي كتبه.
لذلك من الطبيعي أن يخشى الصحفيّون العرب على أنفسهم، خاصّة وأنّ معظم المشاريع العربية هي مبادرات شبابية مستقلة، مما يجعل القائمين عليها عرضة للخطر بشكل أكبر. وهذا الخوف من المصير المعروف يجعل "تدقيق الحقائق" سطحيا في العالم العربي، ولا يرتكز إلا على إخبار الناس بأنّ صورة ما أو فيديو أو تغريدة إنما هي مفبركة، دون تقديم معلومات حقيقية مدعومة بالدلائل، من شأنها تثقيف المواطن العربي وجعله فردًا فاعلا في المجتمع.
صحافة معصوبة العينين
يُؤكّد موقع "بوليتيفاكت" أنّ الصحفيين والباحثين العاملين فيه يعتمدون على الوثائق الأصلية، والتقارير الحكومية، والدراسات الأكاديمية، وغيرها من البيانات الصادرة عن جهات حكومية ومستقلة رسمية، عند التحقيق في صحة ادعاء ما. وكذلك يؤكد موقع "أفريكا تشيك" على أهمية الاستعانة بمصادر موثوقة ومتنوعة للبيانات، فهذا هو جوهر صحافة "تدقيق الحقائق"، وطالما أنّها تستند بشكل أساسي إلى الإحصائيات والوثائق وتحليلات الخبراء، ومقارنتها مع المعلومات الواردة في تصريح أو ادعاء ما، فهذا يعني أنها مقترنةٌ بمبادئ الشفافية، والإيمان بأهمية المواطن الواعي والفاعل والمشارك في اتخاذ القرارات، وهذا يتطلّب أمرين أساسيين: أن يكون هناك قانون فاعل لحق الوصول إلى المعلومات، وأن يكون هناك مصادر رسمية متنوعة للبيانات، وغير مقتصرة على المصادر الحكومية. ويُقصد بالمصادر الرسمية، تلك البيانات التي تقدّمها مراكز الأبحاث، ومؤسسات المجتمع المدني، وشركات القطاع الخاص المرخّصة في الدولة.
ومن المهم التأكيد أنّ جميع البيانات الرسمية يجب أن تكون متاحة، ويجب ألا يأخذ الصحفي وقتًا للوصول إليها، لأنّ استقصاء الحقيقة هنا ليس بالبحث عن وثائق سريّة وبيانات مزوّرة لأشهر طويلة من أجل الكشف عن قضايا الفساد، بل بالبحث عن الحقيقة في البيانات الرسمية الموثوقة لتثقيف المواطن، وحمايته من أن يكون فريسة سهلة للاستقطاب والانجرار وراء الخطاب الشعبوي، خاصّة أنّ آلية العمل في "تدقيق الحقائق" تعتمد على الآنية بشكل رئيسي، وتقوم على تفنيد مجموعة من الادعاءات بشكل يومي، لا على التحقيق في كل ادعاء لأسبوع أو أكثر.
أشارت ورقة سياسات نشرتها شبكة "أريج" في العام الماضي حول قوانين حق الحصول على المعلومات في الدول العربية (14)، إلى أنّ 119 دولة حول العالم فيها هذا القانون، 74 دولة منها تقرّه في دساتيرها، منها أربع دول عربية تُقر القانون بنص دستوري هي المغرب وتونس ومصر والجزائر، بينما تقرّه الأردن والسودان ولبنان واليمن بدون نص دستوري. وعلى الرغم من إقرار القانون في هذه الدول، فإنه في معظم الحالات لا يكون هناك تطبيق حقيقي وفاعل له على أرض الواقع، ويرجع ذلك إلى أسباب تشريعية، وقصور في القانون ذاته، أو تعارض قوانين أخرى معه، أو قد يكون السبب في أن إقراره لا يعود إلى الإيمان بأهميته، وإنما لتحسين صورة الدولة أمام المجتمع الدولي، وزيادة الفرص في تلقّي المساعدات الخارجية. فجميع الدول العربية -وحتى التي أقرّت هذا القانون- باستثناء تونس، محكومة بقوانين سريّة المعلومات، وتُعاني فيها الصحافة من بتر لليدين والقدمين، وتكميم للأفواه وتعصيب للعينين، فتحرص النخب الحاكمة في الدول العربية على تقييد السلطة الرقابية للصحافة، ليس فقط من خلال تقييد حرية التعبير، ولكن عبر تقييد وصول الصحافة إلى المعلومة، فحتى لو أُتيحت الحرية للصحفي، ماذا سيقول بدون المعلومة؟
ففي الأردن صدر أول قانون لحق الحصول على المعلومات في العالم العربي عام 2007، وينص على وجود بعض المعلومات المُستثناة من ذلك، ولكن المشكلة هي غياب آلية التصنيف في القانون، فما هي الوثائق المُستثناة والوثائق غير المستثناة؟
كما يواجه قانون الحصول على المعلومات في السودان الصادر عام 2015 المشكلة ذاتها، ولكن في تونس صدر القانون بعد الثورة عام 2011، وتميز عن القانون الأردني بوجوب النشر الاستباقي للمعلومات والوثائق تطبيقًا لمبدأ الشفافية مع المواطن، كما أنّ طالب المعلومات -وفقًا للقانون التونسي- ليس مجبرًا على توضيح سبب طلبه، إضافة إلى أنّ الوثائق المستثناة مُشار إليها بشكل واضح في القانون.
من جهة أخرى لا تقتصر المشكلة في الدول العربية على الجانب التشريعي فقط للقانون، وإنما على الجانب التطبيقي أيضًا، ويعود ذلك إلى تباطؤ بعض الوزارات والجهات الحكومية في تزويد الصحفي أو المواطن بالمعلومات، وعدم أخذ القانون على محمل الجد، ففي معظم الأحيان لا يكون هناك موظف خاص لتزويد الأفراد بالمعلومات وتسهيل مهمتهم، ولا يوجد تعاون مع مؤسسات المجتمع المدني للتوعية بوجود هذا القانون وبأهميته وبكيفية الاستفادة منه. كما يقتصر القانون على إلزام القطاع العام فقط، ولا يُلزم القطاع الخاص ولا الجهات المُمولة من الخارج في الدولة بالكشف عن بياناتها.
ومن المهم التأكيد على عدم إعفاء الصحفيين العرب من مسؤوليتهم في عدم فعالية هذا القانون، إذ إنّ عدد الصحفيّين الذين يستخدمون القانون ويقدّمون شكوى ضد الجهة التي ترفض تزويدهم بالمعلومات قليل، ففي تونس تلقّت هيئة النفاذ إلى المعلومة 228 قضية منذ العام 2017 حول رفض جهات رسمية الإفصاح عن المعلومات، ولكن الصادم أنّ هذه القضايا مرفوعة من قبل المواطنين والجمعيات والمؤسسات والجهات المعنية الأخرى، ولا توجد أي قضية منها رُفعت من قبل أي صحفي. وكذلك في الأردن، أشارت دراسة إلى أنّ 5% فقط من الصحفيين استخدموا القانون عام 2010، وفي اليمن لم يستخدمه الصحفيون ولم يلجؤوا إلى القضاء في حالات الرفض، وفي هذا دليل دامغ على عدم إدراك الصحفيين العرب لأهمية هذا القانون في عملهم، أو على عدم ثقتهم في أداء القضاء وعدم ثقتهم في استقلاليته عن السلطة التنفيذية.
وفي جانب آخر من المشكلة، يجد الصحفيون صعوبة في الحصول على المعلومات أحيانًا لعدم توافرها من الأساس، فهناك الكثير من العيوب في نظام توثيق المعلومات والأرشفة في المؤسسات الرسمية في معظم الدول العربية. كما توجد مشاكل في تحديد وتوضيح المنهجية المتبعة في جمع البيانات وإجراء الإحصاءات والتوصّل إلى النتائج، ولذلك فإنّ غياب المنهجية يجعل من البيانات غير دقيقة ومشكوكا فيها.
يضاف إلى ذلك غياب الدور الفاعل للمراكز البحثية المستقلة، فهذه المراكز تُعدُّ مصدرًا مهمًّا للمعلومات والبيانات والإحصاءات للصحفي الذي يكتب تقريرًا يتحقّق فيه من التصريحات والادعاءات حول إحدى المشاكل السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع، وغيابها يجعل من عمل الصحفي قاصِرًا، خصوصًا إذا ما أراد مقارنة مجموعة من البيانات من مصادر مختلفة حول الموضوع ذاته. فإذا تمكّن من إيجاد بيانات حول عدد مدمني المخدرات في الدولة مثلا، فلن يجد إلا تلك الصادرة عن الجهات الحكومية، إضافة إلى أنّ الدراسات التي تنشرها مراكز الأبحاث المستقلة لا تساعد الصحفي في التحليل والتفسير.
وهكذا، يبدو جليًّا كيف يؤثّر عجز الصحفي عن الحصول على المعلومات والوثائق والبيانات، أو منعه من الوصول إلى هذه المصادر، على إعداد تقارير يُثبت أو يُفنّد فيها ادعاءات مفبركة أو مضللة.
References
1. https://ifcncodeofprinciples.poynter.org/
2. https://africacheck.org/about-us/how-we-work/
3. https://core.ac.uk/download/pdf/161442732.pdf
4. https://aawsat.com/home/article/1361641/منصات-عربية-في-مهمة-تقييم-مصداقية-الخبر?amp
5. https://factuel.afp.com/ar/tqsy-shw-lkhbr-mbdy-wtrq-ml
6. https://www.politifact.com/article/2013/aug/09/fact-checking-around-world/
7. https://ballotpedia.org/What_is_fact-checking
8. https://www.icfj.org/sites/default/files/2018-04/ICFJTechSurveyFINAL.pdf
(12) https://rsf.org/en/2019-world-press-freedom-index-cycle-fear
(14) https://arij.net/wp-content/uploads/2019/02/حق-الحصول-على-المعلومة.pdf