في اليمن بدأت الحرب فوصلت نيرانها إلى كل شيء. لم تستثن هذه الحرب أي شيء من المعيش اليمني، ولم يكن الإعلام بعيدا عنها، وكان التأثير مباشرا: أغلقت العديد من وسائل الإعلام، وفقد الكثير من الصحفيين رواتبهم، حيث أثر ذلك بشكل كبير على مناطق سيطرة جماعة أنصار الله " الحوثيين" وهي المنطقة التي يعمل بها الجزء الأكبر من الصحفيين في اليمن.
لقد خلقت الحرب أسوأ مكان للعمل الصحفي في العالم. صنفت منظمة مراسلون بلا حدود اليمن بأنها إحدى أسوأ مناطق العمل الإعلامي في العالم. وقالت نقابة الصحفيين اليمنيين: إن الصحفيين في اليمن تعرضوا لأكثر من 40 انتهاك فقط خلال أربعة أشهر من بداية العام 2022.
وفي تقرير لها قالت لجنة دعم الصحفيين: إن أكثر من 75 مؤسسة إعلامية في اليمن تعرضت لانتهاكات إضافة إلى رصد أكثر من 41 حالة قتل طالت الصحفيين في اليمن. ويؤكد التقرير الصادر بتاريخ 27 مارس/ آذار 2021 أن الصحفيين - بعد ست سنوات من الحرب - ما يزالون يتعرضون للاستهداف المباشر من قبل جميع الأطراف للتعتيم على ما يجري (1).
خلقت الحرب عوامل كثيرة أثرت بشكل مباشر على الأداء الإعلامي في اليمن. ثريا دماج رئيس تحرير "يمن فيوتشر" تقول: إنّ البلد هو اليوم اسوأ مكان يمكن أن يعمل فيه الصحفي إضافة إلى أنه يعيش أسوأ أزمة إنسانية في العالم من صنع البشر.
تضيف دماج "إننا فقدنا أكثر من 45 من زملائنا الصحفيين بنيران المتحاربين على الأرض أو بالضربات الجوية خلال سنوات الحرب؛ ولهذه الأسباب كان صحفيو اليمن خلال الأسابيع الماضية، موضوع حملة دولية واسعة يقودها الاتحاد الدولي للصحفيين من أجل الإفراج عن أربعة من زملائهم المحكومين بالإعدام من سلطات أنصار الله " الحوثيين " في صنعاء".
وترى دماج أن "هذا هو أفضل مثال لتأكيد أنّ الحرب شكلت عاملا مؤثرا على المشهد الإعلامي والصحفي، حيث هناك من ينتظر إعدامه بموجب أحكام تعسفية، دون توفر أدنى شروط المحاكمة العادلة أو حتى الظروف المحيطة بهؤلاء المحكومين والمحتجزين، بسبب منعهم من الاتصال بعائلاتهم، وعدم تلقي وسائل التطبيب الضرورية. وغالبية المحتجزين والمخفيين، هم لدى الجماعات المسلحة التي تُنازِع السلطاتِ الحكوميةَ الضعيفة في الأساس صلاحياتِها الحصرية".
أفضت الحرب الحالية إلى حالة فريدة للعمل الإعلامي في اليمن؛ ذلك أنّ تعدد أطراف النزاع وظهور أطراف أخرى غير الأطراف التقليدية المتعارف عليها منذ العام 2011 خلق إعلاما جديدا في هذا البلد. تقول دماج: إن الخطاب الإعلامي اليمني الراهن يعكس حالة الاستقطاب والتحشيد المحموم لوسائل الإعلام، في حين أن المواطن هو في أمسِّ الحاجة لتبني همومه وإسماع صوته وتمكينه من الوصول للحقيقة كحق إنساني أصيل. فقد سحق الحوثيون بالفعل إعلام الخصوم السياسيين، بينما استحوذ المجلس الانتقالي في عدن على وسائل الإعلام الحكومية، لدرجة يصعب الآن تخيل منبر مستقل في مناطق الأطراف المتحاربة.
الاستقطاب والتمويل الدولي
وفي ضوء ذلك انطلقت موجة كبيرة من محاولات استقطاب الصحفيين الذين يتوفرون على متابعين أو ممن فقدوا رواتبهم من قبل وسائل إعلام جديدة ممولة من أطراف النزاع أو الداعمين الدوليين لهم، أومن قبل المنصات المدعومة من قبل المنظمات الدولية.
يقول لطف الصرار رئيس تحرير منصة خيوط: "إنّ استقطاب الأطراف السياسية اليمنية والمنظمات الدولية للصحفيين بدأ منذ ما قبل الحرب الدائرة اليوم، لكن حدته تزايدت منذ ما يمكن تسميته بالانعطاف الكبير للحرب في 26 مارس 2015. ومع ذلك لم تحصل الأطراف التي خاضت الحرب حتى ذلك الوقت على صحفيين من ذوي الخبرة المهنية والتأثير العاليين، وإن حصلت على بعضهم فهي لم تنل ما تريده منهم تماماً؛ لذلك اشتدت حدّة الاستقطاب بالترغيب والترهيب وفرض رقابة صارمة على مواقف الصحفيين، والمثقفين عموماً في البلاد خاصة المؤثرين منهم، ولم يسلم من ذلك حتى أولئك الذين أعلنوا موقفهم الرافض للحرب وعدم مشاركتهم فيها".
ويضيف الصرار: "خلال السنوات اللاحقة هوجم كل صحفي وكاتب لم يصطف مع هذا الطرف أو ذاك، ونحن هنا نتذكر الحملة التي اشترك فيها أكثر من طرف ضد "المحايدين"، واعتبار الحياد نقيصة بحق الصحفي والكاتب، وأبعد من ذلك وضعهم في دائرة الريبة والشك واتهامهم بالنفاق، وهو ما أثر على الحياد في الإعلام اليمني وجعله أمرا مشكوكا به. وإضافة إلى عدم إدراك أطراف النزاع ضرورة بقاء الصوت المعتدل بعيدا عن الاستقطاب، فإن المستجدات اليوم تقول ذلك بوضوح، لكن هل يجعل هذا الوضوح الصوت المعتدل و"المحايد" بمنأى عن الاستقطاب؟ بالتأكيد لا. ولذلك يجدر بالصحفيين وصناع الرأي اليمنيين تهذيب الخطاب الإعلامي؛ لأنه المحرض الأكبر للحرب وتغذية استمرارها، ثم إنه ليس هناك ما يمنع الاحترام بين أعداء الحرب وخصوم السياسة، وليس هناك ما يمنعه أيضا بين المحارب ورجل السلطة من جهة، وبين الصحفي ورجل الكلمة من جهة أخرى".
ومع بداية الحرب اتجهت المنظمات الدولية والمؤسسات التابعة لوزارات الخارجية في كثير من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية إلى الاهتمام بالإعلام اليمني وخلق العديد من المنصات والإذاعات وتنفيذ الكثير من البرامج التي اهتمت ببناء جيل إعلامي جديد في اليمن. فمنذ العام 2015 انطلقت عشرات المنصات الرقمية اليمنية ولأن أغلبها لا يُسجَّل لدى وزارة الإعلام سواء التابعة لأنصار الله "الحوثيين" أو الحكومة الشرعية المعترف بها دوليا فإنه لا توجد إحصائيات دقيقة لعددها إلا أنها استطاعت خلق الكثير من فرص العمل لعدد أكبر من الصحفيين والصحفيات في اليمن من بينهم طلاب الجامعات.
ومع ذلك فإنّ هذا التمويل أبرزَ عوامل جديدة أثرت على أداء الإعلام اليمني. يعتقد وجدي السالمي رئيس تحرير منصة فري ميديا: أن المؤسسات الإعلامية المستقلة في اليمن تواجه تحديات منهجية كبيرة تقوض بشدة وتقيّد قدرات قطاع الإعلام على توفير محتوى إعلامي موثوق به يدافع عن المصلحة العامة للشعب. لذلك كان التمويل الأجنبي - ونقصد الدعم الذي قدمته المنظمات الدولية - هو السبيل الوحيد لبعض المؤسسات الإعلامية من أجل الاستمرار في تقديم المحتوى الصحفي في ظل استقطاب وتمويل أطراف النزاع للمؤسسات الإعلامية المحلية لإنتاج محتوى موجه على حساب قضايا المجتمع المحلي.
ويقول السالمي: "إنّ التمويل الدولي لبرامج المؤسسات الإعلامية في اليمن ركز على خلق فرص تدريب قصيرة لجيل من الصحفيين بهدف بناء قدراتهم في مجالات جديدة من الصحافة، ونادراً ما كان يتم تقديم الدعم بهدف إنتاج محتوى احترافي".
ومن الإشكاليات أيضاً التي أظهرها الدعم الأجنبي، هو أن المؤسسات الإعلامية التي حصلت على فرص تمويلية تماشت في تصميم استراتيجيتها وبرامجها مع توجهات المانحين، وليس وفق ما يحتاجه الإعلام اليمني في الواقع من تطوير؛ مما خلق فجوة بين الحاجيات المتمثلة في برامج قادرة على إحداث التغيير وبناء الوعي ومناقشة قضايا المجتمعات المحلية ودفع الجمهور للتأثير على السياسات العامة وحماية المصلحة العامة للناس، وبين البرامج التي يتم تنفيذها والتي لا يكون لها أي تأثير سوى الضجيج على وسائل التواصل الاجتماعي".
من ناحية أخرى يقول السالمي: "إنه لم تتدفق فرص التمويل الدولي لدعم الإعلام في اليمن وفق معايير واضحة تضمن المنافسة المهنية، وتساعد المؤسسات الإعلامية الجديدة على الاستقلال والاستقرار، بل كان التمويل يتدفق بحسب العلاقات الثنائية بين بعض المؤسسات الإعلامية المحلية ومنسقي المنظمات المانحة، ولم يكن هناك توزيع عادل للفرص".
ويعمل السالمي في مؤسسته على مراقبة الواقع الإعلامي في اليمن لا سيما التمويل الأجنبي لذا يقول في هذا السياق: "اتضح أن التمويل الأجنبي تجاهل تطوير ودعم المؤسسات الإعلامية الناشئة بقيادة صحفيين محترفين، وانحصر تدفق الدعم في مؤسسات معينة لها علاقات مع الممولين، الأمر الذي جعل مؤسسات ومنظمات محددة تهيمن على جميع فرص التمويل، رغم وجود مؤسسات جديدة إذا حصلت على هذه الفرص التمويلية ستحدث تغييراً حقيقياً في واقع الإعلام اليمني، كما أنّ ثمة منظمات دولية مانحة تدعم منذ سنوات عددًا لا يزيد عن 4 مؤسسات إعلامية كما لو كانوا قد تعاقدوا معها عقود مقاولة. وعلى الرغم من ذلك فشلت هذه الجهات في تقديم محتوى صحفي يعالج قضايا الناس واحتياجاتهم في ظل هذه الحرب "القذرة"، كما فشلوا في التحول من الاعتماد على الدعم الخارجي إلى بناء مصادر دعم مستدامة؛ ومن ثَمّ ترْك الفرصة لمؤسسات ناشئة أخرى".
ولا يختلف خالد الهروجي نائب رئيس مؤسسة الثورة للصحافة والنشر - التابعة للحكومة الشرعية - مع السالمي كثيرا، يقول: "الإعلام اليمني يعيش حالة غير مستقرة - سواء كان حكوميا أو حزبيا أو أهليا - بفعل غياب التمويل الذاتي للإعلام الأهلي والحزبي، وعدم قدرة الحكومة على تمويل منصاتها، واعتمادها في الغالب على التمويلات الخارجية التي جعلت كل وسائل الإعلام خاضعة للاستقطاب والاستقطاب المضاد، وبالتالي أفقدها الفاعلية والتأثير".
ويضيف الهروجي أن هذا التمويل ساهم في استمرار عمل العديد من وسائل الإعلام، لكنه في المقابل سلبها الاستقلال والحياد، حيث باتت تجاري رغبات الممول وتخضع لإملاءاته، حتى وإن كانت تتعارض مع الحقائق على الأرض ومع الثوابت الوطنية والمصلحة العليا لليمن، وتضر بنسيجه الاجتماعي ووحدته الوطنية، وهو أمر بديهي طالما تعتمد على ممول خارجي ينفق الكثير من المال ليس من أجل استمرار هذه الوسائل في العمل، ولكن من أجل دفعها لتنفيذ الأجندة التي يحملها.
وفي حين بدأت العديد من المنظمات الدولية تنسحب من اليمن تدريجيا، تواجه العديد من المنصات المدعومة من قبل تلك المنظمات خطر عدم الاستمرارية حيث إنها أُنشِئت لأن الدعم كان متوفرا، ولم تتجه نحو خلق الدعم الذاتي لنفسها، ما يعيدنا إلى صورة الإعلام الحكومي أو إعلام الأحزاب وأطراف النزاع المسيطر والموجِّه للمشهد في اليمن.
المراجع
1) https://www.journalistsupport.net/article.php?id=376731