الصيف فصلٌ يخشاه الصحفيون دون سائر أوقات العام، أقلّها في البلدان الأوروبية. ففي هذا الفصل يتزامن عاملان مهمان يعرقلان مسيرة العمل في غرف الأخبار، أولهما تراجع وتيرة الحياة السياسية والثقافية؛ إذ تقلّ الأحداث المهمة التي يكتب عنها الصحفيون أو يتطرقون إليها. أما العامل الثاني فهو ذهاب الصحفيين في إجازات بعيدًا عن أعمالهم، محبّذين قضاء إجازاتهم على شواطئ البحر، وبذلك تعاني غرف الأخبار من قلّة الصحفيين النشطين في الصيف، وهذا يعني أن أولئك الصحفيين القلّة ملزمون بمحتوى مناسب لملء العدد عينه من الصفحات كما الأيام السابقة.
وجرّاء ذلك تتسع المساحة المخصصة لأي حوادث أو أمور تندرج ضمن قائمة الأخبار المعقولة إلى حد ما، على أن تغطي أكبر عدد من الصفحات. وفي كثير من الأحيان تُنشَر مجموعة من المواضيع التي يجب ألا تكون في عداد الأخبار المعقولة، مثل الشائعات أو الأقاويل غير الدقيقة، مما قد يفضي أحيانًا إلى عواقب وخيمة؛ فعندما تتكرر الشائعة نفسها في عدد من الصحف، ربما تتخذ منحًى خطيرًا.
وهذا ما حدث حقًا في إسبانيا خلال الصيف الماضي؛ فعلى مدار شهرين متتابعين، استشرى بين سكان البلاد خبرٌ عن حدث مريع عُرِف باللسعات، والمفترض أنه اعتداء من الرجال على الشابات اللواتي يرقصن في المهرجانات أو الملاهي الليلية. وبدأ الأمر في أواخر شهر يوليو/ حزيران حينما نشرت شابة من مدينة برشلونة منشورات على شبكات التواصل الاجتماعي، وادّعت فيها أن مجهولين حاولوا حقنها وصديقتَها بمادة مخدرة عازمين على أن يعتدوا عليهما بعد ذلك كما هو مفترض، بيد أن الفتاتين لاذتا بأصدقائهما دون أن يحدث لهما أي مكروه. ولم تبلغ الفتاة الشرطة المحلية عن الحادثة، وإنما نشرت الخبر على شبكات التواصل الاجتماعي، فتناولته الصحف المحلية في بادئ الأمر، ثم سرعان ما نشرته الصحف الوطنية بعد وقت وجيز. وطوال الأيام اللاحقة توالت اتصالات المواطنين إلى أقسام الشرطة للإبلاغ عن حوادث مشابهة في مناطق متعددة في إسبانيا، وأجرى الضحايا (المفترضون) تحاليل مخبرية لاكتشاف السموم بغية معرفة نوع عقار المخدر المستخدم، إن صدقت الادعاءات. وسرعان ما هيمنت على مواضيع الأخبار الرئيسة في إسبانيا موجة "تخدير الشابات للاعتداء عليهن جنسيًا"، وتكررت بعض العناوين الإخبارية في وسائل الإعلام من قبيل: تأكيد وقوع حادثة تخدير جديدة. وتصدى بعض كتّاب الرأي لهذه المسألة مستنكرين العقلية الذكورية المتفشية في المجتمع، فهي - وفقًا لآراء أولئك الكتّاب- أباحت لمرتكبي الجرائم الجنسية العنيفة التجول ومحاولة اغتصاب النساء عقب تخديرهن. ونصح بعض الكتّاب الفتيات بأن يتوخين الحذر حينما يقصدن المهرجانات الموسيقية أو النوادي الليلية، فلا يذهبن بمفردهن إلى تلك الأماكن. وتطرقت استطلاعات الرأي في بعض الصحف إلى التغيرات التي طرأت على عادات الشابات، إذ قللن خروجهن في ساعات الليل تحسبًا لهجمات كهذه.
لا يسعنا السيطرة على شبكات التواصل الاجتماعي، التي انتشرت فيها أخبار حقن التخدير للمرة الأولى. لكن في مجال عملنا الصحفي، يوجد دومًا شخص يقرر نشر القصص الإخبارية من عدمه". أكان حريًا بوسائل الإعلان أن تلتزم الصمت المطبق حيال هذه المسألة؟
بيد أن الحقيقة تجلّت أخيرًا، وتبين عدم وقوع ذلك الاعتداء على الإطلاق؛ ففي بادئ الأمر، يكاد يستحيل حقن كمية كافية من المخدر في جسم شخص يتحرك أو يرقص دون أن يبادر بأي تصرف عند إحساسه بوخز الإبرة، فهذه العملية المعقدة لا يقدر عليها إلا شخصٌ بارعٌ براعةَ عناصر المخابرات السريّة. وقد ذهبت فتيات كثيرات ممن أبلغن عن حقنهنّ بالإبر للمراجعة الطبية، فلم يعثر الكادر الطبي على أي علامات دالة على الحقن، ولم يجدوا كذلك أي أثر للمواد المخدرة في أجسام الفتيات. ولم تظهر صور الكاميرا أي شخص يتجول حاملًا حقنة المخدر، وفي إحدى الحالات تبين أن لسعة النحلة هي سبب شعور الفتاة بالوخز، أما في معظم الحالات الأخرى فلم تعثر الشرطة على أي شيء بتاتًا. ولم يُبلغ قط عن أي حالة اعتداء جنسي أو حادثة سطو تضمنت استخدام إبرة، ولو وجد حقًا بعض الرجال الذين يحاولون تخدير النساء، فإن طريقتهم لم تنجح إطلاقًا. وبطبيعة الحال يستطيع أي خبير صحي أن يذكر المعلومات السابقة منذ اليوم الأول لهذه الشائعة، بيد أن معظم الصحفيين امتنعوا عن الاستعانة بخبير صحي، إذ استهوتهم القصة فمالوا إليها على حساب الحقيقة. والأنكى من هذا الإهمال هي الجهود الحثيثة التي بذلها أولئك الصحفيون لصياغة الخبر على شكل حقائق مثبتة؛ فعندما يختار الصحفي عنوانًا مثل: حقائق مؤكدة، فهذا يقتضي ضمنًا أن الشرطة تلقت شكاوى بخصوص الحوادث، أو أن المشفى أجرى فحوصات طبية على الضحايا المزعومين، أما الاعتماد على رسائل تويتر المجهولة، فلا تقتضي بتاتًا ثبوت الحادثة ووقوعها أصلًا.
لم يُبلغ قط عن أي حالة اعتداء جنسي تضمنت استخدام إبرة، ولو وجد حقًا بعض الرجال الذين يحاولون تخدير النساء، فإن طريقتهم لم تنجح إطلاقًا. يستطيع أي خبير صحي أن يذكر المعلومات السابقة أو أن ينفي أو يؤكد ذلك، بيد أن معظم الصحفيين استهوتهم القصة فمالوا إليها على حساب الحقيقة.
تقول ريبيكا آرغودو (Rebeca Argudo)، وهي كاتبة في بعض وسائل الإعلام الإسبانية: "تصرفت الصحافة في هذه المسألة تصرفًا طائشًا مثيرًا للمخاوف لدى القرّاء؛ إذ تعامل الصحفيون مع جميع الشهادات على أنها حقائق مؤكدة، وأغفلوا جانب المنطق في التعاطي مع المسألة، وتجاهلوا كليًا سؤال الاختصاصيين إن كان حقن المخدرات بهذه الطريقة أمرًا ممكنًا حقًا. بل بلغ الأمر مبلغ شن الهجمات والإهانات عبر شبكة الإنترنت بحق أي شخص يشكك بصحة هذه الادعاءات. ويبدو الأمر أن بعض الناس لا يحبذون معرفة الحقائق، وإنما يودون أن يؤيد الآخرون معتقداتهم وأفكارهم، وهنا المشكلة العويصة، فليس من مهمة الصحافة ولا اختصاصها تأييد معتقدات الآخرين".
وحالما تبين عدم وقوع جرائم حقيقية على النحو المزعوم، لجأ المعلقون (الصحفيون) إلى رواية بديلة عن الأولى، فنفوا وقوع حوادث التخدير، بيد أنهم زعموا أن رجالًا كثيرين كانوا في الواقع يخزون النساء بإبر قديمة أو بدبوس مشبك حتى يثيروا الذعر بين أوساطهن. ومن البديهي القول إن هذا الكلام ما كان ليُقال أصلًا لولا قصة حقن التخدير التي نشرتها شبكات التواصل الاجتماعي والصحف المختلفة بين الناس، فالخوف من التعرض لاعتداء جنسي يثير الذعر بين السكان.
يقول باسكوال سيرانو (Pascual Serrano)، وهو من الصحفيين القلائل الذين امتنعوا عن اللحاق بموجة حقن التخدير: "لولا تلك العناوين الصحفية لما عمّ الارتياب والخوف بين أوساط الشابات". ولو وجد أشخاص تنتابهم السعادة حقًا لرؤية النساء مذعورات وخائفات، فإن إحساسهم بالقوة سيتحفز حتمًا حينما تتداول الصحف أفعالهم في صفحاتها. ويشدد سيرانو على أن "الوقت حان حتى تتدخل السلطات أو المؤسسات الإعلامية وتطلق تحذيراتها بشأن مسؤولية وسائل الإعلام في حالات كهذه". ولم تلقَ هذه المناشدة أي آذان مصغية، فحتى الورقة البحثية التي كتبها سيرانو تعرض مجموعة من المقالات الصحفية عن هذه الموضوع، تصور المجتمع الإسباني على أنه مكان مريع للنساء، وإن لم يتعرضن للإساءة أو الاعتداء حقًا، فهنّ محاطات على الدوام برجال يريدون أن يُشعِروهنّ بأنهنّ مضطهدات، أو يظنون أن بث الخوف في نفوسهنّ على سبيل المزاح هو أمر مسلٍ وممتع.
تصرفت الصحافة في هذه المسألة تصرفًا طائشًا مثيرًا للمخاوف لدى القرّاء؛ إذ تعامل الصحفيون مع جميع الشهادات على أنها حقائق مؤكدة، وأغفلوا جانب المنطق في التعاطي مع المسألة، وتجاهلوا كليًا سؤال الاختصاصيين إن كان حقن المخدرات بهذه الطريقة أمرًا ممكنًا حقًا.
بيد أن الحقائق تشير إلى عدم وقوع حالات مؤكدة لهذا المزاح، ما عدا صبيًا عمره 14 سنة كان يحمل سلكًا يلسع به الفتيات، لكن سرعان ما قبض عليه عقب شهر واحد من تلاشي موجة الذعر التي عمت البلاد. وعلى العموم ليس لقصة حقن التخدير أي أصل بتاتًا في الحياة الواقعية في البلاد، بيد أنها تركت عواقب وخيمة حسب كلام شابات كثيرات أجرين مقابلات بشأن هذه المسألة؛ إذ قلن إنهن شعرن بالذعر والخوف وأرغمن على تغيير عاداتهن عند الخروج في أنشطة ترفيهية. فهذا التأثير الذي حد من حريتهن سببه الرئيس كتابٌ صحفيون زعموا أنهم يدافعون عن حقوق المرأة.
ولكن هل كان ممكنًا تلافي موجة الذعر هذه؟ تجيب آرغودو عن هذا السؤال: "لا يسعنا السيطرة على شبكات التواصل الاجتماعي، التي انتشرت فيها أخبار حقن التخدير للمرة الأولى. لكن في مجال عملنا الصحفي، يوجد دومًا شخص يقرر نشر القصص الإخبارية من عدمه". أكان حريًا بوسائل الإعلان أن تلتزم الصمت المطبق حيال هذه المسألة؟ تشكك آرغودو بذلك وتقول: "لست مؤيدة للامتناع عن النشر بتاتًا، فحتى لو امتنعت الصحف عن نشر أخبار كهذه، فهي لن توقف موجة الذعر بين الناس. فوسائل الإعلام قررت منذ أمد طويل الامتناع عن نشر حالات الانتحار لئلا تعزز الأفكار الانتحارية لدى بعض الأفراد الهشين عاطفيًا، بيد أن أرقام عمليات الانتحار ظلت في تصاعد مستمر. وتفتقر وسائل الإعلام التقليدية في الوقت الراهن إلى القدرة على تصفية الحقائق، وتحديد الأخبار الصالحة للنشر من سواها، فلا يملكون خيارًا في أغلب الأحوال، ويضطرون للنشر عن أمور وأشياء ينبغي ألا تصنف في عداد الأخبار، بيد أنها استمدت شعبية كبيرة وأصبحت حديث الشارع بسبب انتشارها على شبكات التواصل الاجتماعي. وبطبيعة الحال حينما تتطرق إحدى الصحف إلى أمر معين، فهي بذلك تضفي عليه مصداقية النشر كخبر صحفي".
كذلك يوجد عامل مهم آخر ساهم في انتشار قصة التخدير وهو التنديد بإساءة معاملة النساء على يد رجال قساة جفاة، فهذا الأمر بنظر كثيرين هو نضال لأجل قضية نبيلة، وهنا تقول آرغودو: "إن المشكك بمصداقية هذه السردية، أو بمصداقية جزء بسيط منها، يُشيطن على الفور". ولا ريب أن الصحفيين، في ظل هذه الظروف مجتمعة، شعروا بالراحة حينما ساهموا في تضخيم كرة الثلج ولم يرتاحوا إطلاقًا لمحاولة إيقافها.
ومع ذلك كان حريًا بهم أن يفكروا مليًا بأن كرة الثلج- التي لم تكن أصلًا إلا فقاعة هواء- قد تسحق حياة أناس كثيرين. ولكن لم يحدث شيء من هذا القبيل، ولم يصب أي شخص بأذى جسدي جرّاء موجة الذعر والارتياب. ويبقى التساؤل: لو أن فتاة شعرت بوخز إبرة في حانة مزدحمة، واندلعت لأجل ذلك مشاجرة عنيفة انتهت بمقتل أحد الأشخاص أو دوسه حتى الموت جرّاء حالة الذعر، ما كان ليحدث حينها؟ إذن لكان حريًا بنا، نحن الصحفيين، أن نحمل على كاهلنا وزر تدمير حياة الناس بعناويننا الصحفية. وصحيح أن هذه الكارثة لم تحدث قط، ولكنها إنذار لنا حتى نتريث في المرات القادمة التي نريد خلالها نشر شائعة في صحفنا، حتى لو ظننا حينها أننا ننشرها في سبيل قضية نبيلة ومحقة.