تبددت أحلام الكثير من الصحفيين في الحصول على وظائف مناسبة في بلدانهم في ظل ظروف اقتصادية صعبة أحاطت بمعظم بلدان المنطقة العربية بعد الربيع العربي كما اتضح أن هروب الكوادر العاملة في مجال الإعلام إلى العمل الحر والمستقل كان علامة واضحة على عمق الأزمات الاقتصادية وصعوبة إيجاد مخارج لحل البطالة المؤرق للحكومات والأفراد. ولهروب هذه الكوادر نحو العمل المستقل ما يبرره؛ فالرواتب في كبرى المؤسسات الصحفية تتراجع بشكل مستمر كما أن بيئة الأعمال المؤسساتية ظلت محدودة ولا تستقبل إلا نوعية محددة من ذوي الكفاءات التقنية التي تقدم خدمات التصميم والفنون الرقمية المختلفة.
يمكن فهم قوة العامل الاقتصادي وأثره في سوق العمل الإعلامي حتى عند دراسة سلوك خريجي المؤسسات التعليمية والأكاديمية؛ فقد وجدت دراسة ميدانية على مجموعة من خريجي التخصصات الإعلامية العاملين في وظائف خارج نطاق اختصاصاتهم في العاصمة السعودية الرياض؛ أن توجه بعض خريجي أقسام الإعلام للعمل بوظائف غير إعلامية مبني على إيمانهم أن الوظائف الإعلامية المؤسساتية تمنح رواتب ضعيفة جدا مقارنة بما يمكن تحقيقه في وظائف أخرى غير إعلامية وأن القدرة الاستيعابية لتوظيف الخريجين في المؤسسات الإعلامية باتت متدنية لأقصى حد بسبب عوامل اقتصادية وسياسية مختلفة(1). ولكن بالنسبة للكثير من الصحفيين فإن الاندفاع لبيئة أعمال حرة غالبا ما يرتبط بالحصول على دخل إضافي. هذا ما يشير إليه مسح إحصائي نشره موقع بيت كوم(2) المتخصص في ريادة العمل والتوظيف حيث وجدت إحصائية لعام 2022 شملت 18 دولة في العالم العربي وشمال أفريقيا وآسيا أن 55% من الأفراد يعتبرون أن العمل الحر والمستقل يعد أساسًا لكسب دخل إضافي وأن حوالي 9 من كل 10 مهنيين ينوون التوجه للقطاع الخاص.
استجابت المؤسسات الصحفية الكبرى والوكالات العالمية للاتجاه العالمي نحو العمل الحر والمستقل، وأصبحت أيضا بوابة ضخمة لاستقبال المئات من الفريلانسرز بشكل سنوي، ما يعكس استفادتها غير المسبوقة من أنظمة العمل الحرة مقارنة بالتوظيف المباشر أو القائم على عقود عمل كاملة.
دعوة عالمية لاستقطاب الفريلانسرز
استجابت المؤسسات الصحفية الكبرى والوكالات العالمية للاتجاه العالمي نحو العمل الحر والمستقل، وأصبحت أيضا بوابة ضخمة لاستقبال المئات من الفريلانسرز بشكل سنوي، ما يعكس استفادتها غير المسبوقة من أنظمة العمل الحرة مقارنة بالتوظيف المباشر أو القائم على عقود عمل كاملة.
في مؤسسات كبرى تجد أرضيتها وانتشارها في العالم العربي مثل وكالات الأخبار والصور والخدمات الإخبارية ومؤسسات الإعلام التلفزيوني والرقمي نجحت الإدارات ووكلاء العمل في جذب مجموعة ضخمة من الفريلانسرز في قلب مؤسسات إعلامية كبرى لاسيما تلك التي استفادت من جائحة كوفيد-19، واستطاعت استحداث أنظمة العمل عن بعد وأنظمة العمل بالعقود القصيرة. وفق بحث سريع بين معلومات وبيانات المؤسسات الصحفية الكبرى في المنطقة العربية والمؤسسات الأخرى الفاعلة في صناعة المحتوى فإن جميع هذه المؤسسات لا توضح أرقامًا أو مؤشرات حول أعداد المتعاقدين معها بنظام العمل الدائم سواء بصورة مستمرة أو مؤقتة، لكن حسابات عدة لصحفيين عرب وصانعي محتوى وتقنيين وضعوا ما يشير إلى تعاونهم مع كبرى المؤسسات الصحفية والإعلامية يدلل على تعمق هذه الظاهرة عربيًا.
في سعيها لإيجاد حلول وظيفية وتقنية ومعالجتها لأزمات التوظيف ومطباته المتكررة، تتعامل المؤسسات الصحفية والإعلامية مع عقود عمل المستقلين على أنها نتاج طبيعي لحاجتهم للانخراط في المؤسسات والحصول على عمل فيها بصرف النظر عن التزام صاحب العمل المهني والوظيفي. غالبًا، لا يتم دمج المستقلين في بيئة العمل الصحفي ليسمح لهم بالتطور المهني، حيث لا يشكلون علاقات وظيفية، ولا يُعرض عليهم التوظيف لاحقا مهما بدت أعمالهم ثرية ومبتكرة. ومن الواضح أن هناك مؤسسات صحفية تستنزف المستقلين في عقود عمل حرة تستمر لسنوات طويلة لتلبي احتياجاتها الوظيفية دون أي التزامات أو حقوق وظيفية لما بعد التقاعد كتلك التي تلتزم بها لموظفيها. ومن البديهي القول إن جائحة كوفيد 19 قد عززت من الخلل الحاصل في عقود عمل المستقلين حيث أضافت سياسات الحجر الصحي للمؤسسات قيمة العمل عن بعد وساهمت في دمج منظومة العمل بمجموعة هائلة من التطبيقات والبرامج الافتراضية التي تسهل العمل من أي منطقة في العالم ما يجعل الالتزام الوظيفي للمؤسسة تجاه المستقلين أكثر سهولة وممتدا لأي بقعة في العالم.
غالبًا، لا يتم دمج المستقلين في بيئة العمل الصحفي ليسمح لهم بالتطور المهني، حيث لا يشكلون علاقات وظيفية، ولا يُعرض عليهم التوظيف لاحقا مهما بدت أعمالهم ثرية ومبتكرة.
أين المستقلون في منظومة الاقتصاد الإعلامي؟
يبدو الحديث عن القضية الاقتصادية للأفراد المستقلين في ظل منظومة الاقتصاد الإعلامي أمرًا بالغ الصعوبة لسببين أساسيين: الأول غياب اقتصاد المستقلين في المنظومة الوطنية الاقتصادية وبالتالي صعوبة إدخال ذلك بالناتج الإجمالي المحلي. أما المبرر الثاني فهو تغييب الإفصاح عن حالة أنظمة التعاقد التي تتم بين المؤسسات والمستقلين بسبب عدم إلزامية ذلك لدى أي طرف من الأطراف حتى للجهات العمالية أو الحقوقية التي تحدد معايير بيئة العمل وقانونيته. وغالبًا ما يتم التعامل مع حالات الانتهاك والمخالفات على أنها حالات فردية تجري معالجتها في جهات القضاء المختصة بالأفراد.
وفي هذا السياق ينبغي فهم أنه لطالما أحاطت المؤسسات الإعلامية والصحفية الكبرى في المنطقة العربية نفسها بسمعة جيدة تفضي إلى صعوبة تخيل انتهاكها للمعايير القيمية والوظيفية كما يستبعد تورطها في استنزاف ممنهج للشباب من الكفاءات والمهنيين الذين قادتهم الحالة الاقتصادية المتعثرة لعقود عمل حرة ومستقلة، بيد إنه من المنطقي معرفة كيف يدفع هؤلاء المستقلون ببيئة العمل لتكون أكثر تنوعًا في الأفكار والمشاريع رغم غياب النمو المتوقع في ميزاتهم واستحقاقاتهم الوظيفية.
لابد أن يفصح المستقلون عن الممارسات الخاطئة الممنهجة بينها التأخير في سداد الأموال المستحقة أو إضافة المزيد من الأعمال دون زيادة الأجر المقدم أو عدم السماح بتحقيق التطور المهني في منظومة الأعمال الحرة والمستقلة وغيرها من التجاوزات التي ترتكبها المؤسسات دون رادع.
إن الكثير من المستقلين في المجال الصحفي لا ينتمون لعقد مرن ينسجم مع التطور في الأعمال المقدمة كتلك التي يتحصل عليها الموظفون الدائمون في المؤسسة. عند بحثي بين مجموعة من الإعلاميين المستقلين وجدت أن توقف أعمالهم وعقودهم مع المؤسسات كانت بسبب رفض الطرف الآخر من عملائهم وأصحاب الأعمال تحسين أجورهم المالية أمام متطلبات تجاوزت نظام التعاقد المبرم سابقًا. هناك جانبان أساسيان لهذه القضية وفق ما تشير الكاتبة نتاليا كامبانا في مقالة(3) حول تحديات الفريلانسرز. الأمر الأول يتمثل في الخوف من خسارة العقود وصعوبة أن يقول المستقلون "لا" لمجموعة من التغيرات التي تفرضها المؤسسات وأصحاب الأعمال على طبيعة العمل بسبب ديناميكية العمل الصحفي والإعلامي مقابل الأجور التي تم الاتفاق عليها من البداية. الأمر الآخر - وفق الكاتبة - ناتج عن الوفرة في سوق شديد المنافسة؛ ما يدفع بالمستقلين في الأعمال لتخفيض أسعارهم والاستهانة بمهاراتهم لأجل الحصول على عقود عمل سريعة وعاجلة.
كانت لدي فرصة للتحدث مع الصحفية المستقلة هناء بوحجي(4) التي عملت بنظام فريلانسر لسنوات طويلة كصحفية استقصائية في قضايا العمالة في المنطقة الخليجية، حيث أشارت إلى تراجع دور منصات النشر في تقديم مبالغ جيدة للصحفيين لكنها وجهت الاهتمام إلى نظام المنح الصحفية والمقدم من قبل الجهات الدولية والمنظمات لأنها تقدم ضمانات مالية أهم من تلك التي تقدمها المؤسسات الصحفية.
التسعير وبناء العقود
كانت الفرصة سانحة للكثير من التطبيقات والبرامج العربية والأجنبية للدخول لعالم جذب الفريلانسرز وتصميم خدمات العمل بطريقة تجارية محكمة تخدم مصالح هذه التطبيقات والشركات. تعمل عشرات المواقع الأجنبية والعربية على تقديم خدمات التعاقد بين الوسائل الإعلامية ووكلاء العمل وبين مجموعة كبيرة من المتخصصين والمهنيين الراغبين في مزاولة العمل الحر والمستقل. مع ذلك فإن طبيعة التسعير للخدمات غالبًا ما ترضخ لرغبة وكلاء العمل أو المؤسسات الصحفية بسبب الوفرة الكبيرة من الفريلانسرز التي تجعل هذه الخدمات مقدمة بأسعار أقل من المتوقع. تمارس بعض تطبيقات العمل الحر والمستقل دورها في إدارة عمليات تسليم الأموال وإتمام العقود لكنها تترك للمؤسسات حرية التلاعب بأنظمة التسعير للخدمات الإعلامية. لقد كان غريبا بعض الشيء عند وصولي الخدمات المعروضة في بعض المنصات مثل طلب مؤسسة إعلامية عقدًا لإدارة وكتابة محتوى بمبلغ يقل عن 10 دولارات للأسبوع الواحد، الأمر الذي يدفع للشك بشأن مقدار التفاوض والآليات التي يجري من خلالها تصميم هذه العقود وبناء منظومة التسعير.
لقد كان غريبا بعض الشيء عند وصولي للخدمات المعروضة في بعض المنصات مثل طلب مؤسسة إعلامية عقدًا لإدارة وكتابة محتوى بمبلغ يقل عن 10 دولار للأسبوع الواحد، الأمر الذي يدفع للشك بشأن مقدار التفاوض والآليات التي يجري من خلالها تصميم هذه العقود وبناء منظومة التسعير.
الأخذ بيد المستقلين!
في الحالة الراهنة التي يشق فيها اقتصاد المستقلين المجالات المهنية المختلفة بينها قطاعات الصحافة والإعلام والتسويق، من الصعب مطالبة الحكومات والجهات التشريعية والرقابية بتقديم معالجة سريعة وآنية لحالة التخبط والعشوائية التي تحيط بهذا الشكل من اقتصاد المستقلين عوضًا عمّا يعرف باقتصاد الأفراد أصلًا. إن الحل رهن المؤسسات الصحفية والإعلامية وما يتمركز خلف ممارساتها من جهات المجتمع المدني والمهني الرقابية لأجل تطبيع ثقافة العمل المستقل من جهة والحديث عن ظواهره الاقتصادية في الفضاءات المهنية من جهة أخرى. على هذه الأطراف تحمل مسؤولية معالجة التحديات الاقتصادية المحيطة بعقود عمل المستقلين وتوفير الأدوات اللازمة بشأن تسعير المنتجات الإعلامية وتصميم عقود العمل كما الأدوات المعرفية المشاعة عبر مختلف المنصات. يستدعي ذلك النظر لبنود العقود الوظيفية التي تجريها المؤسسات ومدى إمكانية التمييز بين صلاحية العقد للعمل الحر أو الدوام الكامل لمنع الاستنزاف الممنهج للكوادر البشرية الإعلامية تحت ذريعة العمل الحر والمستقل.
لابد أن يفصح المستقلون عن الممارسات الخاطئة الممنهجة التي تتم خلف هذه العقود بينها التأخير في سداد الأموال المستحقة أو إضافة المزيد من الأعمال دون زيادة الأجر المقدم أو عدم السماح بتحقيق التطور المهني في منظومة الأعمال الحرة والمستقلة وغيرها من التجاوزات التي ترتكبها المؤسسات دون رادع. أن يرى المستقلون في بيئة الأعمال الإعلامية أنفسهم ومهاراتهم على أنها ذات ثمن وأهمية تسمح لهم بوقف الممارسات المرتكبة ضد حقوقهم أمر أساسي فلا يمكن إدارة قضايا المستقلين الاقتصادية في ظل انتشار الصمت والخوف من تبدد المصالح.
المراجع
1) السويد، محمد علي: عوامل توجه بعض خريجي أقسام الإعلام إلى العمل في وظائف غير إعلامية، دراسة ميدانية على عينة من خريجي التخصصات الإعلامية العاملين في وظائف خارج نطاق اختصاصاتهم في مدينة الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، متوفرة على الرابط: https://search.mandumah.com/Record/689385
2) 170 منصة "فريلانس": دليل العمل الحر للصحفيين وصناع المحتوى. شبكة الصحفيين الدوليين. (2022, November 8):
https://tinyurl.com/evxvnhnx
3) مقابلة مع هناء بوحجي "صحفية بحرينية" بتاريخ 19 يوليو 2023م.
4) Hansen, M. (2023, January 6). Who benefits from the gig economy? James Madison Institute. https://jamesmadison.org/who-benefits-from-the-gig-economy/
5) Campana, N., & Campana, N. (2023, May 26). Freelance challenges: Major Problems & How to deal with them. Freelancer Blog.
6) Elaiwa, H. (2021, April 26). Bayt.com infographic: Freelancing in the MENA- bayt.com blog. Bayt.com. https://www.bayt.com/en/blog/29086/bayt-com-infographic-freelancing-in-…
7) The rise of the freelance economy around the world. freelance.peopleperhour.com. (n.d.). https://freelance.peopleperhour.com/