خفقة ضوء منيرة عمرها 26 عاما، اغتالتها غارة جوية على قطاع غزة في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، كان اسمها "آيات خضورة". لها وجه متفتّح وواثق، مثل وجوه الغزيين، وقدرة على البيان كتلك التي تجري على ألسنتهم المصقولة بالتجربة المريرة وآلام الفجيعة. آيات صحفية من غزة، لم يكن في وارد لها أن تكون صحفية حربية شاهدة على مجزرة ومشروع إبادة. لم يخطر لها أن تبلغ الحرب هذا الحد من الوحشية. كل ما كان لدى آيات هو فائض الأحلام المتوقَّع وجودها عند صبية بعمرها وزيادة؛ ذلك أن الحرمان- بسبب الحصار الطويل- كان يضاعف الأحلام ويكبِّرها.
ليس في ملامح آيات أي سمة حربية. لم يبد في طينتها ما يجعلها مشروع ماري كولفين جديدة، بدت أكثر أملا بحياة ممكنة، تعليقاتها وحديثها عن الحرب وآثارها تستبطن دوما مناشدة عاجلة، ورغبة في الصراخ قُدِّر لها أن تصدر في مقاطع رقمية صحفية توثق يوميات الإبادة.
لكن، وفي السابعة والعشرين من عمر تحت الحصار، أعلنت آيات أن الحلم قد انهدّ. في مقطع في 21 أكتوبر/ تشرين الأول، أخبرتنا عن أوضاع الناس في شمال غزة، عن انعدام الماء والكهرباء والطعام، عن السير كيلومترات طويلة لتأمين شيء من الماء عادة ما يكون مالحا، عن الحياة المعلّبة والرضوخ لانتظار المصير الذي بدا محتوما ومقيما في خيارات عديدة من أشكال الموت كما تبتكره آلة الحرب الإسرائيلية. "انهدّ حيلنا" تقول آيات وهي توثق طرفا من حياة الناس في غزة مع اشتداد القصف، وتنقل لنا صورة لا تحتاج إلى أي معالجة: فصوت القصف في الأنحاء كان وحده كفيلا بإضفاء الحقيقة المرعبة على الوقائع التي تقصّها بتسلسل خانق ودقة توثيقية تكاد تبدو فطرية وتلقائية، لدى فتاة لم تخضع لأي تدريب متخصص في الصحافة في زمن الحرب، ولا تتوفر لها حتى سترة صحفية.
كيف يقاس عمر الفلسطيني في غزة التي يتشفى الاحتلال بالقضاء عليها؟ كيف تقاس حياة فتاة شاهدت أهلها والجيران يفرون من بيوتهم لا يحملون على شيء، فحملت الكاميرا وسجلت الرسالة الأخيرة: من بيت لاهيا، حيث الأمنية الوحيدة المتبقية هي الموت.
وُلِدت آيات في بيت لاهيا بغزة عام 1996. حصلت على شهادة في الإعلام الرقمي من جامعة القدس المفتوحة التي دمّر الاحتلال مقارّها. يصعب الوصول إلى معارفها بسبب الحرب الجارية وانقطاع الاتصالات، لكن بوسعنا أن نقول إن أملا كبيرا بالحياة كان يملأ عينيها في المقاطع التي أصرت على توثيقها، دلّت عليه نبرة الحزن وارتعاشة الصوت، وكأن عنفوان الحياة داخلها يرفض تصديق ما يحصل: أنا لم أولَد ولم أكبر ولم أدرس الصحافة وأتقن التعليق الصوتي لأموت الآن. أنا أحلامي كبيرة أيضا.
غير أنها، وبين كل مقطع وآخر، ظلّت تبدو وكأنها تحس بخطأ تقديراتها المبكرة، ونفيها أن يكون النزوح من الشمال أمرا واردا وعاجلا وليس إشاعة من الاحتلال ودعوة لإثارة الذعر بين الناس. في كلّ مقطع، كان الحديث يتحول إلى الموت، والدمار، والأوضاع التي تزداد صعوبة وكارثية، والحرب التي يقول من هو في عمرها إنها "ليست كالسابقات"، وكأنه كان يلزم أن يتسع عمرها لكل هذه الوحشية والذكريات الموحشة، وكأن على حياتها أن تكون رحلة عكسية بين حرب وحرب، وفاجعة وأخرى.
ليس في ملامح آيات رغم ذلك أي سمة حربية. لم يبد في طينتها ما يجعلها مشروع ماري كولفين جديدة، بدت أكثر أملا بحياة ممكنة، تعليقاتها وحديثها عن الحرب وآثارها تستبطن دوما مناشدة عاجلة، ورغبة في الصراخ قُدِّر لها أن تصدر في مقاطع رقمية صحفية توثق يوميات الإبادة. لقد ظلّت آيات في تعليقاتها الفصيحة رغم صوتها المتهدّج من رواسب بكاء متواصل تحاول تحطيم الواقع ونفيه، وتنشد أن ينتهي هذا الكابوس الأسود الذي جثم على أحلامها الكبيرة التي رسمتها لنفسها منذ أن بدأت تتدرج في حياة الصحافة والتأثير الإعلامي. تعرفنا إلى آيات من خلال جولاتها المصورة العديدة في غزة، كانت تدور على المؤسسات المدنية، تقرع أبواب الحياة التي تعجّ فيها رغم الألم والحصار، تتحدث إلى الناشطات والناشطين، عن السياسة والعمل المجتمعي وحقوق المرأة والدستور الفلسطيني، والمتاحف، والشوارع والتعليم. تسير من شارع إلى شارع، بميكروفون صغير، وحلة أنيقة متجددة، وكأن الحياة في غزة في سَورة من التفتّح والاستعداد لمستقبل مختلف قريب.
جاء الموت الإسرائيلي على هيئة أسرع مما تخيلت آيات، المليئة بالحياة والتحدي. لا ندري إن تحققت أمنيتها، لكن نتخيلها شهيدة كاملة، مستحقّة لاعتراف كامل، صحفية فلسطينية ستظل قصتها تنير الحقيقة في عالم من الظلمة الدامسة.
لآيات تقارير تظهر فيها بدهاليز وحاراتٍ عديدة في غزة لا يزورها الغرباء ولا يعرفونها، تواجه الحياةَ الصعبة الوئيدة هناك بعاديّة واثقة وغير متكلّفة. رغم أن عملها الواقف مع الإنسان في غزة والمهتم بحكايته وصوته هو في الظروف المفروضة على القطاع عمل نضالي فريد وعظيم الأهمية، فقد كانت تعد تقاريرها وتمشي، وتشعر الصحفية في شبابها وكأنها كسرت قيدا ما؛ فكواتم الصوت التي تحيط بالمرأة الفلسطينية عديدة، غير أنها لم تشعر أن نشاطها ذلك يخالطه مصير كالذي انتهت إليه هي، وانتهت إليه غزة التي عرَّفتنا بها قبل الحرب التي أتت على كل شيء، وافترست وحشتها كل شيء.
لم تكن آيات قد درجت في درب الصحافة قبل الحرب بما يكفي لتحصّل اعترافا رسميا ما، وإن كانت شخصيتها والعدة الأساسية التي تحصلت عليها في الدراسة والعمل والتدريب تؤهلها في أي سياق طبيعي لذلك. لكن كيف يقاس العمر والخبرة عند مواجهة الموت المحتّم؟ كيف يقاس عمر الفلسطيني في غزة التي يتشفى الاحتلال بالقضاء عليها؟ كيف تقاس حياة فتاة شاهدت أهلها والجيران يفرون من بيوتهم لا يحملون على شيء، فحملت الكاميرا وسجلت الرسالة الأخيرة: من بيت لاهيا، حيث الأمنية الوحيدة المتبقية هي الموت، لكن جسدا واحدا لا أشلاء. جاء الموت الإسرائيلي على هيئة أسرع مما تخيلت آيات، المليئة بالحياة والتحدي. لا ندري إن تحققت أمنيتها، لكن نتخيلها شهيدة كاملة، مستحقّة لاعتراف كامل، صحفية فلسطينية ستظل قصتها تنير الحقيقة في عالم من الظلمة الدامسة.