"خرجنا من السجن على واقع مختلف، ثمة ثورة تقنية حدثت في غيابنا، أخبار عالمية وزعماء دول صعدوا وآخرون سقطوا ولم نعرف عنهم شيئا، أصبحتُ خالا لستة أطفال، كل هذا وأنا في السجن بلا ذنب سوى أني صحفي". بهذه الكلمات يختصر الصحفي اليمني هشام اليوسفي حكايته المأساوية التي بدأت عام 2015 باختطافه ومجموعة من زملائه في العاصمة صنعاء على يد مسلحين تابعين لجماعة أنصار الله الحوثيين واقتياده إلى معتقلات سرية.
تعاني اليمن على مدى عشر سنوات ويلات حرب أهلية طاحنة تسببت في واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، إن لم تكن الأسوأ على الإطلاق. في ظروف كهذه، يبرز الدور المهم للصحافة بوصفها وسيلة حيوية لتوثيق الأحداث ونقل الحقيقة.
وكان يتوجب على الصحفي اليمني أن يعمل في بيئة معادية لمهنته، فوجد نفسه عُرضة لصنوف من المخاطر الجسيمة التي تتضمن القتل والخطف والاعتقال والتهديد وتقييد حرية النشر والحرمان من حق الوصول إلى المعلومات.
عشية التاسع من يونيو/ حزيران، كان هشام يمارس عمله الصحفي في فندق وسط صنعاء، برفقة زملائه هشام طرموم وعصام بالغيث وهيثم الشهاب وتوفيق المنصوري وأكرم الوليدي وحارث حميد وعبد الخالق عمران وحسن عناب.
كان هناك زميل تاسع هو صلاح القاعدي غادر الفندق ليلة الاختطاف، وقد اعتُقل بعد ثلاث سنوات وأُلحِق برفاقه ثم أطلق سراحه قبلهم بأشهر قليلة. في تلك الفترة كانت الحرب قد اتسعت في عموم البلاد وتعطلت خدمات أساسية كثيرة، منها شبكة الكهرباء الوطنية.
يقول هشام: "كنا نذهب إلى العمل من الفنادق لأنه منذ أن تصاعدت الحرب لم تعد الكهرباء العمومية متوفرة، ورافق ذلك أزمة خانقة في الوقود، فكنا نضطر إلى أخذ أجهزة الحاسوب وهواتفنا المحمولة ونذهب إلى العمل في الفندق".
كان الوقت قبيل الفجر عندما فوجىء هشام وزملاؤه بمجموعة مسلحة تقتحم الفندق: "قُطِع الشارع الذي يقع فيه الفندق، ودوهمت الغرفة وأخِذْنا تحت تهديد السلاح وصودرت كل أجهزتنا الشخصية التي تحتوي على أرشيفنا المهني، ذكرياتنا و كل شيء".
لحظات مرعبة يصعب على هشام وصفها: "كنا مصدومين ذاهلين نتساءل: ما ذنبنا؟ وما تهمتنا؟".
على أن الرعب والقلق في مثل هذه الحالات لا يقتصر على ضحايا الخطف والاعتقال، بل يشمل عائلاتهم التي تظل أياما وأسابيع لا تعلم شيئا عن مصيرهم.
كان الوقت قبيل الفجر عندما فوجىء هشام وزملاؤه بمجموعة مسلحة تقتحم الفندق: "قُطِع الشارع الذي يقع فيه الفندق، ودوهمت الغرفة وأخِذْنا تحت تهديد السلاح وصودرت كل أجهزتنا الشخصية التي تحتوي على أرشيفنا المهني، ذكرياتنا و كل شيء
يقول هشام: "شعرت عائلتي بالقلق لأنني تأخرت عن العودة إلى المنزل خلافا للمعتاد، حاولوا الاتصال بي وهاتفي مغلق. بعد ذلك بدأوا يسألون عني حتى عرف أخي أنني اختُطِفت وأخفى الخبر عن أمي وبقية عائلتي؛ ففي اليوم الذي تلا الاختطاف كانت خطوبة أختي. بعد ذلك علمت والدتي ووالدي الذي كان خارج اليمن، وكانت فجيعتهم كبيرة".
في البداية، لم توجَّه لهم أي اتهامات طوال الفترة الأولى من الاعتقال. ظلوا قابعين في زنازين خفية مظلمة تفترسهم الهواجس وأسئلة المصير.
بعد ذلك، جرى اتهامهم بنشر أخبار من شأنها إضعاف معنويات الجيش واللجان الشعبية التابعة لجماعة الحوثي، على نحو يخدم ويصب في مصلحة دول التحالف العربي بقيادة السعودية الذي انطلق في 25 مارس/ آذار من العام نفسه، وعُدّ نشاط هؤلاء الصحفيين نوعا من التخابر مع ما يسميها الإعلام الحوثي "دول العدوان".
يتحدث هشام بإيجاز عن المواقف المأساوية التي تعرضوا لها في المعتقلات؛ إذ حُرِموا من الرعاية الصحية وجُوّعوا عمدا لأوقات طويلة، إضافة إلى أشكال مختلفة من التعذيب الجسدي والنفسي، بما في ذلك الضرب والتهديد بالقتل.
يقول: "أكثر شيء مرعب كانوا يهددوننا به هو وضعنا في أحد مخازن الأسلحة المستهدفة بالقصف من طيران التحالف، وقد سبق للحوثيين أن اتخذوا هذا الإجراء مع صحفيين آخرين، مثل عبد الله قابل الذي كان يعمل مراسلا لقناة يمن شباب، ويوسف العيزري مراسل قناة سهيل؛ اللذين اختُطِفا في ذمار قبل اختطافنا بحوالي أسبوعين ووُضِعوا في مخزن من مخازن السلاح في جبل هرام، وهو عبارة عن منطقة عسكرية أو موقع عسكري، وقُتِلوا بغارات التحالف".
لم تكن السلطات الحوثية على يقين من حقيقة التهم الكبيرة التي وجهتها لهشام ورفاقه. وعن هذه النقطة يقول هشام: "أتذكر أن أحد الحوثيين عندما زارنا في السجن قال لنا: بقاؤكم إحراج، وخروجكم إزعاج، واختطافكم كان غلطة".
بسبب ذلك، فر كثير من الصحفيين، وبعضهم ترك المهنة مكتفيا بالتفاعل عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
بعد تصاعد الأصوات -محليا ودوليا- المنددة باعتقال هشام ورفاقه دون وجه حق، قررت سلطات الأمر الواقع إحالة ملف القضية إلى النيابة. لكن النيابة في البداية رفضت الدعوى ووجهت بالإفراج عنهم، وقوبل توجيهها بالرفض.
يقول هشام موضحا: "بعد مقتل علي عبد الله صالح في ديسمبر/ كانون الأول 2017 تهيأت لسلطة الحوثيين الظروف بشكل أكبر فمارست الضغوط على المحكمة لقبول ملفاتنا وبدأت بإجراءات المحاكمة".
شكليا، أخذت المحاكمة مداها إلى النهاية في أجواء تفتقر إلى أبسط شروط المحاكمة العادلة: "كنا نُنقَل إلى المحكمة والنيابة الجزائية المتخصصة، وفي بعض المرات كانوا يعيدوننا دون أي إجراء يذكر"، كما يقول هشام.
ثم جاءت لحظة صدور الحكم، الذي نص على إعدام أربعة صحفيين، وهم: عبد الخالق عمران، وأكرم الوليدي، وحارث حميد، وتوفيق المنصوري، ومعاقبة هشام طرموم وهشام اليوسفي وهيثم الشهاب وعصام بلغيث وحسن عناب وصلاح القاعدي بالمدة التي قضوها في السجن ووضعهم تحت رقابة الشرطة لمدة ثلاث سنوات، إضافة إلى مصادرة المضبوطات.
أفرِجَ عن هشام ورفاقه في 15 أكتوبر/ تشرين 2020 من خلال صفقة تبادل أسرى برعاية الأمم المتحدة نفذها الصليب الأحمر.
أكثر شيء مرعب كانوا يهددوننا به هو وضعنا في أحد مخازن الأسلحة المستهدفة بالقصف من طيران التحالف، وقد سبق للحوثيين أن اتخذوا هذا الإجراء مع صحفيين آخرين
يحكي هشام عن هذه التجربة: "رغم الظروف التي مررنا بها، فقد تمكنا من الحفاظ على قوتنا وشجاعتنا من خلال مساندتنا ودعمنا لبعضنا وإيماننا بالله وعدالة قضيتنا والتمسك بالأمل. تجربة السجن والاختطاف تجربة قاسية ومريرة ولا تزال كوابيسها تحضرني في المنام، وأظن أن الخروج من هذه التجربة يتطلب وقتا كبيرا".
هذه القصة وعشرات القصص غيرها تعطي فكرة يسيرة عن وضع الصحافة في بلد دمرته الحرب.
وفقا لنقابة الصحفيين اليمنيين، فإن عدد حالات الانتهاكات التي تعرض لها الصحفيون منذ العام 2015 بلغ حوالي 1400 حالة.
وتحتل اليمن المرتبة 168 (من أصل 180 بلدا) على جدول التصنيف العالمي لحرية الصحافة، الذي نشرته مراسلون بلا حدود للعام 2023. كما رصدت العديد من المنظمات الحقوقية -منها منظمة "سام للحقوق والحريات"، و"مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي"، و"المنظمة الوطنية للإعلاميين اليمنيين"- نحو 3 آلاف انتهاك في حق الصحفيين باليمن، منها 49 حادثة قتل، منذ بدء الحرب قبل نحو 9 سنوات.
وحسب ما وثقه المرصد الأورومتوسطي، فقد جاءت اليمن في المرتبة الثالثة بعد سوريا والعراق فيما يتعلق بعدد الصحفيين الذين قُتلوا خلال العقد الماضي؛ إذ قُتل ما لا يقل عن 43 صحفيا، بمعدل أكثر من 5 صحفيين كل عام.
كما قالت ديانا سمعان، نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية بالنيابة "إن استهداف الصحفيين والناشطين بسبب ممارستهم لحقهم في حرية التعبير له تأثير قمعي على المجتمع. وهدفه الحقيقي هو إسكات المعارضة وردع الأصوات الناقدة".