طالما اتهمت الحكومة الإسرائيلية شبكة الجزيرة بأنها تضر بالأمن القومي الإسرائيلي وبأن صحفييها "إرهابيون" يسعون إلى تشويه إسرائيل، وهذه سردية اعتمدها الاحتلال في مناسبات مختلفة. ومثّل قتل مراسلة قناة الجزيرة في الضفة شيرين أبو عاقلة في مايو/ أيار ٢٠٢٢ إضاءة قوية على المنحى الذي قررت إسرائيل اتخاذه في مواجهة الجزيرة.
المسألة كانت لها إرهاصات سابقة للحرب في غزة؛ ففي يوليو/تموز ٢٠١٧ هدد نتنياهو بإغلاق مكتب قناة الجزيرة في القدس، معلقا على تغطية القناة في منشور على فيسبوك، بأن صحفييها "يحرضون على العنف". وقبل ذلك، وفي مارس/آذار 2008، فرض المكتب الصحفي للحكومة الإسرائيلية عقوبات على موظفي الجزيرة في إسرائيل بعد أن غطّت القناة الاحتفالات بإطلاق سراح سمير القنطار -المتهم بالقتل والاختطاف- من سجن الاحتلال.
وفي مايو/أيار 2021، دمر صاروخ إسرائيلي برج الجلاء في مدينة غزة، الذي كان يضم مكاتب قناة الجزيرة ووكالة أسوشيتد برس، إضافة إلى العديد من المباني الأخرى، خلال هجوم إسرائيلي واسع النطاق على غزة في الشهر نفسه.
وفي الآونة الأخيرة، في مارس/آذار 2024، اعتقلت القوات الإسرائيلية مراسل الجزيرة إسماعيل الغول لمدة 12 ساعة وتعرض للضرب في مستشفى الشفاء بمدينة غزة، كذلك دمرت القوات الإسرائيلية المعدات الإعلامية التي كانت بحوزته.
فضلا عن أنه خلال الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة –في فبراير 2024– أصيب مراسل الجزيرة العربية إسماعيل أبو عمر والمصور أحمد مطر، في هجوم إسرائيلي شمال رفح بغزة. وقبل ذلك، وفي عام 2021 جرى اعتقال المراسلة جيفارا البديري، وتعرضت للإيذاء الجسدي في أثناء تغطيتها لمظاهرة في حي الشيخ جراح، وفي الآونة الأخيرة قتلت إسرائيل مصور الجزيرة سامر أبو دقة بعد أن أصابته وتركته ينزف حتى الموت، وكذلك قتلت مصور الجزيرة حمزة الدحدوح وأصابت والده وائل الدحدوح.
ويُعد تصديق الكنيست على ما عُرف بـ"قانون الجزيرة" الذي يمنح الحكومة صلاحيات مؤقتة لمنع شبكات الأخبار الأجنبية من العمل في إسرائيل، خطوة واضحة في مسار التعتيم والمنع.
تأملات في القانون
ترى الباحثة والصحفية ماجدولين حسونة أن القانون -الذي يعطي الحق للدولة بإغلاق أي وسيلة إعلامية ترى أنها تمثل خطرا على أمن إسرائيل لمدة 45 يوما قابلة للتجديد- يهدف إلى إيجاد صيغة قانونية للتعامل مع العاملين مع هذه القنوات من حَمَلة الجنسية الإسرائيلية؛ فهم "مواطنون ويعملون بموجب القانون، وآلة القتل الإسرائيلية لا تستطيع أن تقتل أو تقصف أو تقبض على صحفي إسرائيلي إلا بصيغة قانونية، وهو ما أرادت أن تصل إليه من خلال هذا القانون".
القانون يعطي الحق للدولة بإغلاق أي وسيلة إعلامية ترى أنها تمثل خطرا على أمن إسرائيل لمدة 45 يوما قابلة للتجديد، يهدف إلى إيجاد صيغة قانونية للتعامل مع العاملين مع هذه القنوات من حَمَلة الجنسية الإسرائيلية.
وتضيف ماجدولين أن "إسرائيل لم تقتل العاملين بهذه القنوات في الضفة وتل أبيب، بل لجأت إلى التحريض عليهم ومحاولة إقناع الشعب اليهودي بأنهم خطر على الدولة لدرجة جعلت المراسل يعمل متخفيا أحيانا خشية الفتك به، ويعمل أيضا من دون شعار القناة التي يتبعها، ولا سيما في القدس والجليل وتل أبيب".
من خلال القانون استهدفت إسرائيل -أيضا- سكان الأراضي المحتلة، ووفقا لماجدولين فإن "الرواية التي تسوّق لها تل أبيب تُخفي عن المجتمع اليهودي ما يحدث في غزة بالفعل، وهناك شرائح داخل المجتمع لا تعرف شيئا عما يرتكبه جيش الاحتلال داخل غزة بفعل الإعلام العبري؛ لذا فالمستهدف الأول والحقيقي من خلال إسكات الجزيرة وغيرها هو الجمهور الإسرائيلي، وقد اهتم القانون بهذا الجانب فنصّ على حظر الجزيرة من البث على الخطوط الإسرائيلية التلفزيونية وغلق مكتبها في القدس".
لذا فدولة الاحتلال لن تتحمل أن يكون المجتمع الإسرائيلي كله واعيا بالحقيقة كاملة، وإن كان منه من يعي طبعا ويوافق على ما يفعله جيش الاحتلال، لكن الحكومة ترى أن الأغلبية يجب أن تظل مقتنعة بسردية إعلامها. القانون يجعل الجميع تحت الرقابة؛ لذلك أغلقت إسرائيل قناة الميادين اللبنانية في بداية الأمر؛ لأنها لا تخضع للرقابة، وبعد ذلك حظرت إذاعة فلسطين وصنفت شبكة القسطل بأنها إرهابية، وهي مؤسسات لا تخضع للرقابة العسكرية.
المستهدف الأول والحقيقي من خلال إسكات الجزيرة وغيرها هو الجمهور الإسرائيلي، وقد اهتم القانون بهذا الجانب فنصّ على حظر الجزيرة من البث على الخطوط الإسرائيلية التلفزيونية وغلق مكتبها في القدس.
خسارة في كل الأحوال
يمثل قانون الجزيرة، كما يرى الباحث في القانون الدولي وائل المصري، "تراجعا لادعاءات إسرائيل التي لطالما زعمت أنها واحة للديمقراطية بل والحريات العامة في الشرق الأوسط، ووظفت ذلك في مسار التطبيع مع بعض الدول العربية، وحاولت أن ترسخ لدى العالم أنها منفتحة على الجميع وتمثل صوت الجميع؛ لذا فالقانون بوصفه نابعا من ظروف حرب وعدم قدرة إسرائيلية على إقناع العالم برؤيتها أو روايتها، هو قانون فاضح للنوايا الحقيقية التي حاولت إخفاءها على مدار سنوات".
والقانون -حسب المصري- يأتي في إطار واضح وهو التضييق على كل رأي مخالف أو فاضح للاحتلال؛ فالمسألة "هي أن يعرف العالم الحقيقة، ولا سيما أنها حقيقة مروعة؛ فالاحتلال يقصف مقرات الأمم المتحدة والنساء والأطفال والشيوخ ومباني المدارس والمستشفيات، وهي فضيحة كبرى لا يمكن لإسرائيل أن تترك وسائل الإعلام تنقلها بأريحية ومن دون تعطيل أو اعتداء بالقانون أو السلاح. إلا أن ذلك بطبيعة الحال يزيد صورة إسرائيل وضوحا وشفافية أمام العالم أجمع؛ لذا فهي خاسرة في الأحوال كلها".
وفي سياق الدلالات أيضا يرى عز الدين إبراهيم، مشرف الأخبار في التلفزيون العربي، أن إسرائيل "تواجه مأزقا حقيقيا في مسألة التعامل مع وسائل الإعلام؛ لذا تمنع وسائل الإعلام العربية والأجنبية من دخول غزة وتغطية ما يجري، بل إنها تخشى مما سيُكشف عنه لاحقا بعد انتهاء العدوان، ومن ثم تحاول اللجوء إلى كل الخيارات، ومنها الخيار القانوني".
يأس إسرائيل..
وحسب عز الدين أيضا فإن إسرائيل قد يئست من أن تظهر في ثوب ديمقراطي فيما يخص التعامل مع وسائل الإعلام، فاندفعت بكل قوة في اتجاه الكشف عن وجه احتلالي حقيقي، "فلا ديمقراطية ولا مهنية ولا وقت لديها الآن في ظل الحرب لأن تبحث عن طرق أخرى لخداع العالم، ونستطيع أن نقول إنها يئست وفرغت جعبتها في هذا الإطار. وفي الوقت ذاته أدركت أن إتاحة الفرصة لوسائل الإعلام بالعمل بشكل مهني سيضر بصورتها التي سعت من خلالها إلى كسب أنصار على مستوى العالم. لا تستهدف إسرائيل الإعلام التقليدي فقط، بل تستهدف صحفيي منصات التواصل الاجتماعي أيضا الذين ينقلون الحقيقة بهواتفهم ومجهودهم الشخصي".
دولة الاحتلال لن تتحمل أن يكون المجتمع الإسرائيلي كله واعيا بالحقيقة كاملة، وإن كان منه من يعي طبعا ويوافق على ما يفعله جيش الاحتلال، لكن الحكومة ترى أن الأغلبية يجب أن تظل مقتنعة بسردية إعلامها.
القانون برأي عز الدين "هو تتويج لمحاولات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أو نهجها المستمر في طمس الحقائق، لكن الجزيرة قد ارتفعت بمستوى إظهار هذه الحقيقة في الحرب الأخيرة وقدمت للعالم ما يشبه الكشف الكامل والضرب القوي للسردية الإسرائيلية؛ لذلك فإن الانتقام منها يكون على مستوى قتل المراسلين والصحفيين بل وأبنائهم أيضا، وعلى المستوى القانوني أيضا".
القانون يثبت أن الجزيرة وكل وسائل الإعلام المهنية أحرزت هدفا مؤثرا وليس بالهين؛ فإسرائيل رغم ما قدمته من مؤشرات لغضبها من الجزيرة فإنها لم تلجأ إلى صياغة قانون لمنع عملها وعمل بعض الوسائل الإعلامية الأخرى. واندفاعُها نحو ذلك هو دليل على رفع الراية البيضاء في مواجهة انتشار حقيقتها وكذب ادعاءاتها في حق الفلسطينيين والمقاومة.