كانت الساعة تشير إلى الثانية فجرا عندما انطلق فريق من الصحفيين على عربة يجرها حيوان من شمال قطاع غزة تجاه مجمع الشفاء الطبي الواقع غرب المدينة، والذي انسحبت منه قوات الاحتلال للتو بعد أسبوعين من اقتحامه وارتكاب مجازر مروعة بحق المرضى والنازحين.
بعد أكثر من ساعة سيطر خلالها القلق الناتج عن أصوات الغارات الإسرائيلية التي يُسمع صداها ليلا، والخوف من مباغتة غير محسوبة، وصلت حركة العربة البطيئة إلى الركام الذي أحاط بالمجمع على بعد مئات أمتار من كل الاتجاهات. شيئا فشيئا بدأت رائحة الجثث المتحللة تخترق أنوف الفريق الصحفي، ولم تستطع الكمامات القماشية أن تحجب إلا قليلا منها.
رغم الدورات المهنية التي التحق بها الصحفيون بشأن السلامة الشخصية في تغطية النزاعات، والخبرات الميدانية التي اكتسبوها من حروب سابقة، فإن هذه الحرب شكلت عبئا ثقيلا عليهم لم يكن بالحسبان. التحديات المباغتة التي واجهها صحفيو غزة فاقت كل التوقعات، رغم أن كلا منهم يحتفظ بخطة طوارئ تتناسب مع طبيعة عمله الميداني، وتُحدَّث دوريا بناء على تطورات الحدث. مهمة تغطية الحرب على غزة التي انطلقت في السابع من أكتوبر 2023 هي الأصعب في مسارنا الصحفي في كشف جرائم الاحتلال لأسباب وظروف مهنية وشخصية عشتها مع مئات الصحفيين.
في التاسع عشر من ديسمبر/ كانون الأول 2023، وبينما كان الصحفي إسلام بدر، مراسل قناة العربي في غزة، يسير في أحد شوارع مخيم جباليا، تعرض المبنى المجاور للقصف من الطائرات الحربية. حينئذ شعر بكتلة لهب كبيرة تقترب منه، وأصابته الشظايا بشكل مباشر، وسقط عدد من الشهداء بجانبه بعدما تمزقت أجسادهم. وما هي إلا لحظات حتى استوعب بدر أنه مصاب على مستوى الرقبة والكتف والحوض، ورغم ذلك تمكن من فتح كاميرا هاتفه المحمول لتوثيق المشهد، لكنه لم يستطع المتابعة لأنه فقد وعيه.
ويرى الصحفي أنس الشريف، مراسل قناة الجزيرة في شمال غزة، أن تغطية الحرب كلها صعبة نظرا لحجم القتل والتدمير، لكنه يرى أن تلقيه تهديدا شخصيا له ولعائلته من الاحتلال أكثر من مرة هو الأخطر. وبحسب الشريف، فإن استهداف طائرات الاحتلال لمنزله بشكل مباشر مرتين خلال الحرب، إحداهما أدت إلى استشهاد والده، كانت من المواقف الأكثر صعوبة؛ لأنه بات يبحث عن مكان آمن لأسرته، في الوقت الذي تلاحقهم فيه قوات الاحتلال.
من الصعب جدا أن تتمالك نفسك عندما تغطي اجتياح الاحتلال لمنطقة سكناك، وترى الشهداء من الجيران والأصدقاء وقد تقطعت أجسادهم من دون أن تكون قادرا على فعل شيء
رغم التهديدات المتواصلة لأنس، فإنه لم ينقطع عن التغطية، وبات مطوقا بواجب حماية عائلته وتوفير الطعام لهم. ويعتقد مراسل الجزيرة أن فقدان الطعام بسبب المجاعة كان تحديا صعبا، حتى إنه في بعض الأوقات لم يكن قادرا على استكمال التغطية بسبب هزال جسده المرهق أساسا مع طول أمد الحرب. وعدّد الشريف المعيقات التي واجهته، ومنها صعوبة التنقل بسبب نفاد الوقود وقلة وسائل النقل، واضطراره كثيرا إلى الاستعانة بعربات تجرها حيوانات، ما شكل تحديا لضمان تغطية سريعة.
ولم تكن شهادة الصحفي فادي الوحيدي، مراسل قناة الغد في شمال قطاع غزة أقل ألما، عندما اضطر إلى القفز من فوق أسوار المستشفى الإندونيسي شمال غزة بعدما باغتتهم آليات الاحتلال واقتحمت ساحة المستشفى في أثناء تواجدهم في داخله لتغطية تطورات العدوان، بالتزامن مع إطلاق نار كثيف تجاههم من قبل الطائرات المسيرة (كواد كابتر). وما إن التقط الوحيدي أنفاسه بعدما غادر المستشفى، حتى باغتته وزملاءَه طائرات الاستطلاع بصاروخ موجه نجوا منه بأعجوبة. ورغم تشتت أسرته بين شمال غزة وجنوبها، فإن الوحيدي يواصل عمله في ظروف وصفها بالقاسية؛ إذ يضطر أحيانا إلى النوم بين أزقة الشوارع.
ويسرد محمد شاهين، مراسل الجزيرة مباشر في مدينة غزة، المواقف الصعبة التي أبكته خلال التغطية. يقول شاهين: "من الصعب جدا أن تتمالك نفسك عندما تغطي اجتياح الاحتلال لمنطقة سكناك، وترى الشهداء من الجيران والأصدقاء وقد تقطعت أجسادهم من دون أن تكون قادرا على فعل شيء".
يقلب مراسل الجزيرة مباشر ذاكرته المثقلة بمشاهد الحرب القاسية، ويروي كيف إنه في إحدى المرات، عندما كان داخل مجمع الشفاء الطبي "وصلت سيدة ناجية من قصف منزلهم، وبعدما استجمعت قواها أمسكت بطفلها الأول وكادت تحسبه على قيد الحياة لعدم ظهور أي جروح، ولا تعلم أنه فارق الحياة خنقا بفعل القصف، ثم انهارت الأم عندما بدأ طاقم التمريض كتابة اسم طفلها وبياناته على ملابسه تمهيدا لنقله إلى ثلاجات الموتى".
يعتقد مراسل الجزيرة أنس الشريف أن فقدان الطعام بسبب المجاعة كان تحديا صعبا، حتى إنه في بعض الأوقات لم يكن قادرا على استكمال التغطية بسبب هزال جسده المرهق أساسا مع طول أمد الحرب.
لم ينته المشهد التراجيدي عند هذا الحد؛ إذ أخذت السيدة تداعب شعر طفلتها الثانية وظنت أنها على قيد الحياة وأرادت إرضاعها، لكنها فقدت وعيها مرة أخرى عندما علمت باستشهادها. يقول شاهين إن الأحداث لا يمكن أن تمر هكذا، ومرارة التغطية لن تمحوها الذاكرة، والمواقف المؤلمة كثيرة وتفاصيلها صعبة.
تجربة الصحفي عماد زقوت، الذي يدير إذاعة الأقصى المحلية في غزة مختلفة؛ إذ كان التحدي هو إبقاء صوت الأثير حاضرا بين أهل غزة الذين يعتمدون على الإذاعات في استقاء معلوماتهم خلال الحروب. ويقول زقوت إن الإذاعات المحلية تعتمد على أجهزة بث استهدفها الاحتلال مباشرة. ورغم ذلك، استمرت الإذاعة في البث على مدار 35 يوما لمجريات العدوان على غزة قبل أن ينقطع.
ويرى زقوت أن لحظة انقطاع البث كانت صعبة جدا، ولا سيما أن الإذاعة كانت آخر محطة محلية حافظت على نقل رسالتها إلى المواطنين داخل القطاع. وحاول زقوت وفريقه إعادة البث مرة أخرى، إلا أن الاحتلال لاحقهم ودمر أجهزة البث البديلة جميعها؛ لإسكات صوت الإذاعة. ويشير زقوت إلى أن قوات الاحتلال استهدفت طاقم الإذاعة بشكل مباشر، فاستُشهد عدد منهم، وأسر الاحتلال ثلاثة آخرين، علاوة على تدميره أجهزة البث خلال توغله البري.
يرى زقوت أن لحظة انقطاع البث كانت صعبة جدا، ولا سيما أن الإذاعة كانت آخر محطة محلية حافظت على نقل رسالتها إلى المواطنين داخل القطاع
ولا يزال الصحفي محمد أحمد، المتعاون مع عدد من الفضائيات العربية، يعاني من إصابته بشظية بعد استهدافه اضطره لتلقي العلاج في مركز رعاية أولية والمبيت تحت أسرة المرضى. كما يسرد تفاصيل وصفها بالمرعبة حيث كان شاهدا على استشهاد مصابين معه في غرفة الرعاية. وماتزال الشظية التي أصابت أحمد مستقرة في ساقه، ولم تتمكن الطواقم الطبية من إخراجها حتى الآن رغم مرور خمسة أشهر على إصابته لعدم توفر أجهزة طبية.
ولم أسلم شخصيا من الاستهداف الممنهج، حيث تطايرت الشظايا فوقي، واضطررت إلى الاحتماء داخل أحد المنازل المجاورة. وما إن تكشفت الرؤية بعدما انقشع دخان الغارة الإسرائيلية، حتى ظهرت أجساد متقطعة في الشارع وأخرى تقاتل لالتقاط أنفاسها حتى تبقى على قيد الحياة.
لا تزال الحرب الأشرس على غزة مستمرة، التي حصدت أرواح 143 صحفيا (حتى الآن)، بعدما كانوا هدفا مباشرا للاحتلال. وتظل التغطية متواصلة مع انقضاء ثمانية أشهر من الحرب، رغم أن أحوال الصحفيين وملامحهم تبدلت، بعدما أصابتهم المجاعة، وأنهكت التغطية المستمرة لأكثر من 5500 ساعة أجسادهم، وفقد كاتب هذه السطور 20 كيلوغراما من وزنه.